فرنسا.. الغضب الساطع

فرنسا.. الغضب الساطع

11 ديسمبر 2018
+ الخط -
لا تعني التظاهرات الاحتجاجية في فرنسا الضرائب بتأثيرها المباشر على جيوب الناس فقط، وهذا أمر لا يمكن التقليل منه، حيث تُعد الضرائب على المواطن الفرنسي الأعلى في العالم، وهي تشكل قرابة 42% من العائدات التي تصب في خزانة الدولة، وهي لا تقتصر على ضريبة الدخل، وإنما تشمل كل مناحي الحياة. ولذلك، انتقل الحراك من المطالبة بالتراجع عن فرض الضرائب على الوقود إلى تحسين مستوى المعيشة، في وقتٍ يسود شعور عام بنهاية التوازن الذي قام تاريخياً في فرنسا بين الضرائب التي يدفعها المواطن وما يحصل عليه من خدماتٍ من طرف الدولة، وهي تتعلق بالتعليم المجاني الذي يبدأ من الحضانة وحتى الجامعيّ، الصحة، البريد، النقل، الأمن.
وتسود نقمة عارمة على الدولة منذ حوالي عقد، بسبب تراجع الخدمات العامة التي تقدمها، من حيث ارتفاع الكلفة وتراجع المستوى، وبات المواطن يدفع أكثر، ويحصل على خدماتٍ أقل، وكرس ذلك جيل الحكام الجدد الذي بدأ مع الرئيس الأسبق، نيكولا ساركوزي، ويتواصل مع الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، وهما رئيسان أقرب إلى أصحاب رؤوس الأموال.
هناك من ينظر إلى التحرك الراهن على أنه شبيه بحركة مايو 68، ويحاول إسقاط حركة الطلاب التي اجتاحت باريس، وقادت إلى إسقاط الرئيس شارل ديغول على ما يحدث اليوم. وفي الحقيقة، هناك عنصر تلاق وحيد في الشكل على صعيد ما يدور في الشوارع من أحداث وأعمال عنف. في مايو/ أيار 1968، نزل الطلبة إلى الشارع وسيطروا عليه وساندتهم الحركة النقابية. اليوم هناك السترات الصفراء تساندهم حركة طالبية، في ظل عدم أي انخراط رسمي من النقابات التي تم تكسيرها في العقدين الأخيرين، بعد أن كانت تشكل صمام أمان الحراك الاجتماعي. وبالتالي، يتوقع الدارسون الفرنسيون للحركة الحالية أنها بداية يقظةٍ عميقةٍ في المجتمع الفرنسي سوف تُحدث هزّة سياسية وثقافية واجتماعية كبيرة، وتدفع إلى مراجعةٍ شاملةٍ تقف بوجه حالة التردّي والتراجع التي عرفها دور الدولة، بما هي راعية للمجتمع، ومسؤولة عن تطوره وأمنه، وقطع الطريق على الدولة التي تتشكل وفق منطق المصارف ورجال الأعمال، ويمثلها الرئيس الحالي الذي يعيش في برج عاج، ويدل ارتباكه في التعامل مع الأحداث على عدم خبرة سياسية في الدرجة الأولى، لأن الخلفية الفعلية للحراك ذات بعد سياسي ينطلق مما حدث من شروخٍ في المجتمع الفرنسي، ولم تنتبه له الطبقة الحاكمة التي لا تزال تنظر باستعلاء إلى ذوي السترات الصفراء، وترى فيهم ريفيين جاؤوا لزرع الفوضى في المدن، متناسين أن فرنسا، في غالبيتها، ذات مرجعية ريفية.
وقبل يوم السبت الثاني، ذهبت صحيفة لوموند إلى أحد أحزمة باريس الريفية، والتقت شباباً لا يتجاوز أكبرهم 24 عاماً، وهم ممن شاركوا في تظاهرات أول ديسمبر/ كانون الأول. وكان الحديث يدور: "إذا ذهبنا إلى باريس يوم السبت فلن يكون الأمر سهلاً. هذه المرة، سيكون هناك قناصة من قوات مقاومة الشغب، سيطلقون النار على الصف الأول من المتظاهرين"، يعلّق شابٌ آخر"، إذا سقط قتلى بالسلاح سننتقل إلى الحرب الأهلية".
رئيس بلا خبرة والأضعف شعبية في تاريخ فرنسا، وحكومة تفتقد للحكمة في إدارة الوضع، وقوات أمنية تعمل بالعقلية القديمة. نحن أمام خليط لا يقود البلد نحو الانفراج، بل نحو الانفجار الذي يشعله الغضب الساطع على نطاق واسع. صحيحٌ أن السبت الماضي مرّ من دون قتلى، لكن الحراك بقي عاصفاً، ما يؤكّد أن القضية لم تبرد، ولا يبدو أنها تتجه في هذا المسار، وتفاقم منها الفوقية التي يتسم بها ماكرون (من هم لا شيء يريدون أن يجعلوا من ماكرون لا شيء) وحاشيته من صحافة وإعلام وسياسيين.
1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد