العراق.. حكومة أونلاين

العراق.. حكومة أونلاين

16 أكتوبر 2018
+ الخط -
ليس المعنى هنا الخدمات التي تقدمها الحكومات في البلدان المتقدمة عبر شبكة إلكترونية متطورة؛ ففي بلدٍ، حيث لا يجد المواطن ماءً صالحاً للشرب، ولا كهرباء، ولا أبسط الحقوق، وتتنافس أحزابه على سرقة أمواله وثرواته، يغدو الحديث عن تقديم خدمات إلكترونية ضرباً من الخيال، وليس فقط من الترف، وإنما المراد هنا الإشارة إلى إعلان رئيس الوزراء العراقي المكلف، عادل عبد المهدي، تخصيص موقع إلكتروني أمام أي عراقي للتقدّم لمنصب وزير. .. ليس هذا ضرباً من الخيال هنا، بل هو ما حصل، ليتقدم أكثر من مائة ألف عراقي لشغل مناصب وزارية في الحكومة الجديدة التي يفترض أن تُبصر النور في أقل من ثلاثة أسابيع.
كان رئيس الوزراء المكلف، عادل عبد المهدي، شيوعياً قبل أن ينتقل إلى صفوف حزب البعث، ثم إلى صفوف التيار الإسلامي الشيعي، وتحديداً في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، ليعود، مع من عادوا عقب احتلال العراق، ويكون مرشّحاً لعدة مناصب وزارية، قبل أن يستقيل تنظيمياً، وبات يوصف بأنه سياسي مستقل.
وكما جرت العادة، فإن رئيس الوزراء في عراق ما بعد 2003 هو مرشح تسويةٍ لا غير؛ فبعد أن تحتدم المنافسات والمناقشات، وبعد أن تصل إلى طريقٍ شبه مسدود، يأتي الفرج على هيئة مرشّح ترتضيه الأطراف المختلفة، ليكون رئيسا للوزراء، وذاك ما حصل مع نوري المالكي في دورته الأولى، وحيدر العبادي عقب انتخابات 2014. ويتكرّر اليوم المشهد مع عبد المهدي الذي جاء بعد أن فشلت الكتل الشيعية في التوافق على مرشح واحد، فكان أن أشارت عليهم مرجعية النجف به، للخروج من مأزق التنافس، وهو اختيار رأته طهران وواشنط مقنعا، فقد ظن كل طرف منهما أن عبد المهدي سيكون أقرب إلى مصالحهما.
يدرك عبد المهدي أنه مرشّح بلا ظهر حزبي، أو كتلة انتخابية تدعمه، كما كان الحال مع 
سابقيه، إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي، فقد كان ثلاثتهم من حزب الدعوة، وخلفهم كتل سياسية مؤتلفة مع الحزب، قادرة على أن تسد هفواته، وتداري على سقطاته، حتى لو كانت بحجم ضياع ثلث العراق، وتشريد ثلث سكانه بين لاجئ ونازح ومهجر، وحتى لو كانت هذه السقطات قد أودت بحياة آلاف من العراقيين، وبقاء خزينته خاويةً بفعل فسادٍ لم يسبق له مثيل. أما عبد المهدي فهو محارب بلا سلاح، أو هكذا يبدو على الأقل، وبالتالي فإن مجرّد قبوله بمهمة رئاسة الحكومة هو بمثابة تحدٍ كبير وكبير جدا، وهو يدرك ذلك جيداً، فالرجل خبر السياسة، وعرف عن قرب التنظيمات الحزبية، وتقلب بين أيديولوجيات مختلفة، وحتى متصارعة، وبالتالي، سيسعى ليخرج من هذا الاختبار بأقل الخسائر، إن صح التعبير. ومن هنا بدأ بما أزعج الكتل السياسية، عندما أعلن عن موقع إلكتروني أمام كل عراقي يجد في نفسه القدرة على أن يكون وزيراً في حكومته المرتقبة.
وهنا يجب التأكيد أن عبد المهدي ليس بهذه السذاجة التي تجعله يطرح منصب الوزير أمام الشعب، وهو الذي يعرف أن من خلفه أحزابا وكتلا سياسية تتنافس على المنصب الوزاري، ومستعدّة ليس فقط أن تدفع ملايين الدولارات للظفر بهذه الوزارة أو تلك، وإنما هي على استعداد لتقتل وتفجر، وهي التي يملك بعضها أجنحة مسلحة قادرة على أن تفعل ما تريد وقت ما تريد، وأين ما تريد، بعد أن أصبحت أقوى من الجيش نفسه، ولها سطوة سياسية تفوق حتى سطوة رئيس الوزراء.
أراد عادل عبد المهدي من الخطوة الرمزية أن يسند ظهره إلى الشعب، وهو يعرف أن الشعب اليوم ناقم على كل العملية السياسية ورموزها. إنه يريد أن يقول للجميع ببساطة إنه ليس لديه 
ما يخسره، وإذا ما قرّر بعضهم محاربته، فإنه سيطرح كل شيء على الشعب، وبالتالي كانت خطوته رمزية ذات مغزى، أعقبها بخطوةٍ أخرى، تمثلت في اختيار مكتب خارج المنطقة الخضراء لإدارة كابينته الوزارية الجديدة. ومن غير المرجّح أن يتمكّن عبد المهدي فعلاً من تشكيل حكومة خارج إطار ما تم التعارف عليه بين القوى السياسية، لكنه حتماً بلجوئه إلى الشارع، لن يكون مضطراً لكل ما تمليه عليه الأحزاب والكتل، فالرجل، على ما يبدو، يمكن أن يستعيد سيرته الأولى متى ما أراد، وهي الاستقالة وعدم الاستجابة للضغوط كما جرى معه في 2016 عندما استقال من منصب وزير النفط.
مع عادل عبد المهدي، هناك قوى سياسية تشاطره المخاوف من أن تفشل مهمته، وبالتالي ظهرت داعمةً له، ومنها التيار الصدري الذي أعلن أنه لن يرشّح أحداً من نوابه للحكومة الجديدة، وإذا ما صدقوا في ذلك، فإنه سيكون أمراً محرجاً لبقية الكتل السياسية التي دفع بعضها ملايين الدولارات، من أجل الظفر بمقعد برلماني، على أمل العبور إلى مكتب وزارة يعوّض بها خسارته.
عادل عبد المهدي، ومعه كل الأحزاب، ومن خلفهم إيران وأميركا، أمام تحدٍ كبير، إما أن يعيدوا ثقة الشعب بهم وبعمليتهم السياسية، أو أن العراقيين "سيسحلونهم ، كما سحلوا نوري سعيد باشا رئيس الوزراء في الحكم الملكي"، كما عبر عن ذلك نائب في جلسة منقولة على الهواء قبل أيام.
96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...