تونس.. مبادرة حكومية لوأد الحياة السياسية

تونس.. مبادرة حكومية لوأد الحياة السياسية

15 أكتوبر 2018
+ الخط -
تقدّمت رئاسة الحكومة التونسية، يوم 26 سبتمبر/ أيلول 2018، بمبادرة تشريعية إلى مجلس نواب الشعب، طالبة استعجال النظر فيها لتنقيح القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء. فحوى المبادرة إضافة فقرة جديدة للفصل 110 من القانون، جاء فيها "لا تحتسب الأوراق البيضاء والأصوات الراجعة للقائمات التي تحصلت على أقل من 5 في المائة من الأصوات المصرح بها على مستوى الدائرة في احتساب الحاصل الانتخابي"، وفقرة رابعة للفصل نفسه ورد فيها "لا تدخل في توزيع المقاعد القائمات المترشحة التي تحصلت على أقل من 5 في المائة من الأصوات المصرّح بها على مستوى الدائرة". واشترط الفصل الثالث الحصول على 5 في المائة لاسترجاع المصاريف الانتخابية، وبالتالي عدم التزام الدولة بأي دعم مالي للقائمات التي لا تتخطى تلك العتبة. التنقيح الذي تقدمت به الحكومة ووافق عليه مجلس وزاري مضيق انعقد يوم 6 أغسطس/ آب المنصرم برئاسة رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، جاء مسقطا، ولم يخضع لاستشارة الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات الوطنية والنخب الأكاديمية المشتغلة في حقول سوسيولوجيا السياسة والقانون الدستوري والعلوم السياسية، ولم يكن موضوع ندوات علمية أو أيام دراسية أو منتديات فكرية. يبدو أن الغاية من ظاهر النص تقليص وجود الأحزاب السياسية، لاسيما الصغرى منها في البرلمان الذي سينبثق من انتخابات 2019 التشريعية المزمع إجراؤها في شهر أكتوبر/ تشرين الثاني من السنة المقبلة، وفسح المجال البرلماني، وبالتالي الحكومي، أمام حزب كبير أغلبي يمارس الحكم، وحزب ثان يمارس المعارضة، في مشهد شبيه بعالم السياسة الأنكلو - أميركي، ومن ثمة تفادي مأزق الحكم الذي عاشته تونس في ظل نتائج انتخابات 2014 التي فاز فيها حزب نداء تونس وحركة النهضة، وما صاحب ذلك من انهيار وتدهور في نواميس السياسة وقواعدها المنظمة. لكن باطن النص ومسكوته وما يقتضيه من هرمونيطيقا يحيل على النوايا الحقيقية لأصحاب المشروع، وحزامهم السياسي الذي يقدّم لهم النصح والمشورة التي تهدف إلى صد الأبواب أمام الأحزاب والتنظيمات السياسية، وخصوصا المصنفة راديكالية وثورية، كي لا تطأ قبة باردو مرة أخرى، بعد أن تسرّبت إلى البرلمان التونسي في انتخابات 2014، وإلى المجلس التأسيسي في انتخابات 2011، ومارست إزعاجها السياسي وراديكاليتها وثوريتها ووطنيتها التي لم تعد تقبل بها الأرستقراطيات السياسية التقليدية الداخلية والخارجية التي باتت تتحكّم في المشهد السياسي التونسي اليوم.
تحتج الحكومة ورئيسها ومشرّعوها وساستها وقانونيوها ورجال دعايتها من إعلاميين 
واتصاليين بأن تونس تعيش طفرة حزبية، وجب تقليصها وتهذيبها، مرتكزين على سجل الأحزاب في رئاسة الحكومة المدوّن فيه أسماء أكثر من 210 أحزاب، والحال أن أغلب تلك الأحزاب ليس لها وجود حقيقي، ولم تمارس أي نشاط سياسي في الفضاء العام، ولا تمتلك مقرّاتٍ، ولم تعقد مؤتمرات، ولم تقدم كشوفات مالية، ولا تحظى بأدنى اهتمام من الرأي العام، أما الأحزاب الحقيقية التي لها وجود برلماني أو مستشارون بلديون أفرزتهم الانتخابات المحلية لسنة 2018، فهي في حدود عشرة أحزاب أو يزيد بقليل، إذا اعتبرنا أن الجبهة الشعبية أقرب إلى الحزب الواحد منه إلى التعدّد الحزبي، ومن هذه الأحزاب العشرة تنظيمات لها حضور إعلامي مستمر، لا يعكس حقيقتها الشعبية التي تقتضي امتدادا في وسط الناس، وفي حياتهم اليومية، وفي المشاركة في الشأن العام.
تستبطن المبادرة الحكومية فتح الطريق على مصراعيه أمام حزبٍ جديد على الطريقة الماكرونية (نسبة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون)، هو بصدد التأسيس والتشكل على أنقاض حزب نداء تونس الذي أسسه الباجي قائد السبسي سنة 2012، من رئيس الحكومة يوسف الشاهد، خصوصا بعد ان أصبحت للرجل كتلة برلمانية تعد أكثر من خمسين نائبا، وهي الكتلة الثانية في البرلمان التونسي، بعد كتلة حركة النهضة. هذا الحزب أو التيار الجديد الذي يبشر به المقربون من رئيس الحكومة التونسية، حتى قبل ولادته، ويلمحون إلى قرب تلك الولادة، بديلا عن حزب نداء تونس الذي تلاشى، وتفتت قبائل وعشائر حزبية متعدّدة ومختلفة، بعد فوزه الساحق في الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014، أُعدّت له مكنة إعلامية ضخمة، بدأت تضاريسها في المشهد الإعلامي التونسي بادية للعيان. وقد يقف وراءه كبار رجال الأعمال، وأصحاب الشركات الكبرى، وسفارات الدول النافذة، وكل مقاولي السياسة وأباطرتها. إلا أن هذه المحاولات التأسيسية الجديدة، ومنها مبادرة رئيس الحكومة التشريعية، لا يمكن أن تلغي الإرث الحزبي والتنظيمي والسياسي والنضالي والتاريخي الثري والمتنوع الذي عرفته تونس قرنا أو يزيد، ما أفرز أربع عائلات سياسية كبرى، ممثلة في التيار الليبرالي، 
بمكوّناته الدستورية (التجمع الدستوري) والندائية (نداء تونس)، والتيار اليساري الذي تكاد تحتكره الجبهة الشعبية، والاتجاه الإسلامي الذي تقوده حركة النهضة، والتوجه القومي العربي الذي تتولى قيادته حركة الشعب، هذا بالإضافة إلى تنظيمات وأحزاب وتكتلات عديدة أخرى تنتمي إلى هذا التيار أو ذاك. وستجد الفلسفة الانتخابية لرئيس الحكومة صدّا ورفضا لهذا التوجه الانتخابي الإقصائي والبراغماتي في الوقت نفسه، فهدفه إقصاء قوى حزبية وسياسية عن المشهد العام، وفتح الأبواب أمام أخرى، وفق خريطة التوازنات الحزبية الحالية. وستحكم هذه القاعدة مسألة التمويل الانتخابي، ما سيزيد في القدرات المالية للأحزاب الكبرى، الثرية بطبيعتها وبتمويلاتها المتأتية من أطراف خارجية، ومن ابتزاز أصحاب المال والأعمال في الداخل، أو تقديم الخدمات والامتيازات والرخص في مقابل سخائهم المالي، واستعدادهم للدفع. وفي الآن نفسه، ستدفع الأحزاب الصغيرة التي توجد خارج السلطة إلى مزيد من الفقر والعجز والضمور والاندثار، خصوصا أن الدولة لا تمول الأحزاب منذ سنة 2011، الأمر الذي قد يحوّل الحياة الحزبية إلى سوق مفتوحة يحكمها البيع والشراء بالمزاد العلني، وتوازنات القوة الإعلامية والمالية.
يعتقد رئيس الحكومة، بمبادرته التشريعية، أنه يمهد الطريق لحزبه الماكروني الكبير الذي سيكتسح البرلمان وقصر قرطاج سنة 2019، لكنه يعد الأرضية لفوز كاسح جديد لحركة النهضة، وفق المعطيات السوسيو- سياسية التي تحكم الواقع السياسي التونسي، ووفق ما أفرزته نتائج انتخابات 2018 المحلية، فهي الحركة الأكثر تنظما وتمويلا وتأثيرا في منصّات التواصل الاجتماعي، وفي الحياة الدينية للمجتمع، وهي الحركة التي تمتلك الكتلة الغالبة في البرلمان، ما سيضعها أمام اختبار آخر، إذا ما قبلت بمبادرة الحكومة التي ستقصي أحزابا وتنظيمات سياسية كثيرة قادمة من رحم النضال التاريخي ومقاومة الاستبداد، وسيضعها من جديد في مواجهة كل القوى السياسية التي باتت ترفض التحالف معها، بعد تجربتي الترويكا وحكومة الوحدة الوطنية. إن تنقيح القانون الانتخابي وتمرير العتبة هو تأسيس لاستبداد جديد، بدأت أعراضه تتجلى في محاكمة المدونين، وتكميم أفواه الإعلاميين، وتشويه المناضلين السياسيين، فهل يكون ذلك على أيدي النهضويين، أصحاب الأغلبية البرلمانية، بعد أن استثمروا في مقاومة الاستبداد وجنوا الثمار السياسية، وآن الأوان ليحكموا وحدهم، استنادا إلى هذه المبادرة التشريعية الحكومية التي ستستحيل بعد أيام معدودة قانونا ملزما؟