عن السياحة الحزبيّة في تونس

عن السياحة الحزبيّة في تونس

12 أكتوبر 2018
+ الخط -
شهدت تونس بعد الثورة نقلة نوعيّة في المشهد السياسي، فلم تعد محكومةً بحزب واحد يحتكر الفضاء العام، ويهمّش المعارضة، ويستأثر بإدارة شؤون البلاد والعباد، ويسيطر على مفاصل الدولة، كما كان الحال مع حزب التجمّع الدستوري المنحل الذي حكم البلاد عقودا طويلة بسياسات نمطيّة مكرورة، وقبضة أمنيّة صارمة. بل انتقلت تونس بعد الثورة من حقبة الدولة الأحاديّة المغلقة إلى زمن الحالة الديمقراطيّة المفتوحة الموسومة بالتعدّدية، والتداول السلمي على السلطة. وظهرت في هذا السياق عشرات الأحزاب التي تنافست على تمثيل الشعب، والوصول إلى الحكم عبر الاحتكام إلى صناديق الاقتراع في محطّات انتخابيّة مختلفة. ويلاحظ المتابع للشأن السياسي التونسي، خلال السنوات القليلة الماضية، صعود ما تعرف بظاهرة السياحة الحزبيّة، وتتمثّل أساسا في انتقال نوّاب من كتلة حزبيّة إلى أخرى تحت قبّة البرلمان، وتنكّرهم لأحزابهم الأصليّة التي نشأوا في محاضنها وتبنّوا برامجها، ورفعوا شعاراتها وترشّحوا باسمها إلى مجلس نوّاب الشعب. وتثير الظاهرة قلق طيفٍ من التونسيين واهتمامهم في آن.
تباين الشارع التونسي في تقويم ظاهرة السياحة الحزبيّة، وبيان خلفيّاتها وتداعياتها على مشروع الدمقرطة في البلاد، فمن المواطنين مَن يعدّها حالة حزبيّة عرضيّة، لا تؤثّر في مسار الانتقال الديمقراطي، وترجع أساسًا إلى ضيق بعض النوّاب من غلبة البيروقراطيّة والرّأي الواحد، وغياب الشفافية والمؤسّسية في أحزابهم، ما يدفعهم إلى هجرها نحو أحزاب أخرى. وفي المقابل، يذهب آخرون إلى أنّ السياحة الحزبيّة تساهم في إرباك التوازنات السياسيّة في البلاد، وتؤدّي إلى تعطيل التصديق على القوانين داخل البرلمان، وتجعل النوّاب في حِلّ من وعودهم الانتخابيّة، وتشجّعهم على إهدار أصوات النّاخبين، والالتفات إلى التنقّل من حزبٍ إلى آخر، بحثا عن الثراء والنفوذ، والظهور بدل الانكباب على أوضاع النّاخبين والعمل على تحقيق مطالبهم، وإيصال أصواتهم إلى أصحاب القرار.
تقول مريم بلمبروك (طالبة- علوم سياسية) "أمقت ظاهرة السياحة الحزبيّة. ذلك أنّ المواطنين ينتخبون أشخاصا معيّنين على أساس انتمائهم إلى أحزاب معيّنة آمنوا ببرامجها السياسية
 والاقتصاديّة. لكنّهم يُفاجأون باستقالة أولئك النّواب والتحاقهم بأحزاب أخرى، لا تتماشى بالضرورة وأفكار الناخبين وقناعاتهم، وهو ما يُخلّف لديهم إحساسا بالإحباط والمرارة، لأنّهم يشعرون أنّ الذين انتخبوهم تنكّروا لوعودهم وخدعوهم لا محالة". وفي السياق نفسه، يقول حافظ جندوبي (ناشط في المجتمع المدني) " تزدهر ظاهرة السياحة الحزبيّة، خصوصا في الأحزاب التي ليست لها سابقة نضاليّة/ سياسيّة، ولا تبذل جهدا في تأمين تكوين سياسي مبدئي/ أخلاقي لمنخرطيها، وترتبط الظاهرة أساسا بالمال ولوبيات المصالح، ولا تخدم بحال مشروع المأسسة والدمقرطة في البلاد. ذلك أنّها محكومة بخلفيّات وصوليّة ومصالح شخصيّة ضيّقة." وعلى خلاف ذلك، يذهب محمّد عابدي (رجل أعمال، مقيم في المهجر) إلى "أنّ انتقال بعض النوّاب من حزب إلى آخر خلال مدّتهم النيابية لا يُمثّل بالضرورة خطرا على التجربة الديمقراطيّة. بل يُكرّس حرّية النّائب في اختيار المنبر الحزبي الذي يراه مناسبا للتعبير عن أفكاره ومقترحاته الإصلاحية، والظاهرة مشهودةٌ حتّى في أعتى الديمقراطيات الغربيّة. ومع أنّها لا تخلو من نزعة انتهازيّة، فإنّها تبقى سلوكا سياسيّا ممكنا ومتوقّعا داخل المجتمع الديمقراطي." وتقول فاطمة شلبي (أستاذة تعليم ثانوي):"لا يمنع الدستور التونسي السياحة الحزبيّة. وهذا الفعل محمود في حال كانت الغاية منه تفعيل الدور التمثيلي والإصلاحي للنّائب. أمّا إذا كانت الغاية منه تحقيق مصلحة شخصيّة ومآرب وصوليّة ضيّقة فيُعدّ سلوكا غير أخلاقي. ومن حقّ النّاخب معاقبة النّائب بعدم التصويت له ثانية".
ومن المفيد الإشارة إلى أنّ أحزابا عديدة طاولتها ظاهرة السياحة الحزبية، وأثرت سلبا على أدائها السياسي، وحضورها في المشهد الانتخابي، وأغلب تلك الأحزاب حديثة النشأة، وتنتمي إلى ما يُعرف بالتيّار الديمقراطي الاجتماعي، ومنها حزب العريضة الشعبية، والمؤتمر من أجل الجمهوريّة، والتكتّل من أجل العمل والحرّيات، وحركة نداء تونس، وآفاق، ومشروع تونس.. وفي المقابل حافظ حزب الجبهة الشعبية (اشتراكي النزعة) وحركة النهضة (ذات مرجعيّة 
إسلاميّة) على وحدة الصف الدّاخلي، ولم يشهدا حركة تسرّب مكثّفة، لعراقة اشتغالهما بالشأن السياسي، ولصدور كلّ منهما عن خلفيّة أيديولوجية عقائديّة جامعة، ولوجود نزعة في الحزبين، ولو محدودة، نحو ممارسة النقد الذاتي، والاحتكام إلى المؤسسات في اتخاذ القرار. ويمكن واقعيّا تفسير شيوع السياحة الحزبيّة في تونس بأسبابٍ ذاتيّة، تتصل بشخص النّائب، وأخرى موضوعيّة تتعلّق بطبيعة المحيط الحزبي الحافّ به. ففي المستوى الأوّل، يميل نوّابٌ إلى ترك أحزابهم والالتحاق بأخرى، بحثا عن فضاء أفضل للتعبير والتأثير. فيما يستجيب آخرون إلى إغراء المال، وطلب التوزير والشهرة عبر الانخراط في لوبيّاتٍ حزبيّة نافذة داخل البرلمان. ومن الناحية الموضوعيّة، فإنّ خفوت الرّابطة الأيديولوجية الجامعة، وسوء التسيير، واستئثار رئيس الحزب بالقيادة وصناعة القرار، وعدم قبول الاختلاف والتداول على المسؤوليات، وعدم الاحتكام إلى المؤسّسات في إدارة البيت الحزبي والتعاطي مع الشأن العامّ، وقلّة الشفافيّة والنقد الذاتي، وضبابيّة الهويّة البرامجيّة وتهميش الشباب ومحدوديّة التمويل، وغياب الممارسة الديمقراطيّة في أحزاب ترفع لافتة الديمقراطيّة، يدفع ذلك كله مجتمعا كثيرين إلى هجرة أحزابهم الأصلية، والانخراط في موجة السياحة الحزبيّة.
يُمكن القول، ختاما، إنّ شيوع السياحة الحزبيّة في تونس يدلّ على تحرّر الفعل السياسي في البلاد. لكنّ خطورة الظاهرة في أنّ تفشّيها بين النّواب يُنذر بهدم جسر الثقة بين الناخبين والسياسيين، ويجعل فعْل الاقتراع عبثيّا وبلا جدوى، بالنظر إلى أنّ النّائب يتنصّل من تبعات انتخابه في قائمة حزبيّة معيّنة، وينصرف منتقلا تحت قبّة البرلمان من حزب إلى آخر، تلبية لمطامحه الشخصية، ولإغراء المال الفاسد واللوبيات النافذة. ومعلوم أنّ ذلك يُحبط النّاخبين، ويدفعهم إلى العزوف عن المشاركة السياسيّة. لذلك، الحاجة أكيدة لمعالجة الظاهرة قانونيّا وضبط انتقال النوّاب من حزب إلى آخر، بشروط معلومة دستوريّا على نحوٍ يضمن توازن المشهد الحزبي، وسيرورة التجربة الديمقراطيّة من ناحية، ويضمن أخلاقية السياسة من ناحية أخرى.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.