صنمٌ عربيٌّ جديد

صنمٌ عربيٌّ جديد

29 يناير 2018
+ الخط -
ليس اعتقال السلطات المصرية رئيس أركان حرب القوات المسلحة السابق، سامي عنان، مجرد شأن مصري داخلي، أفرزه الصراع على كرسي الرئاسة في مصر، بقدر ما هو مؤشر آخر على الانتكاسةِ الكبرى التي مُني بها الربيع العربي، ونجاحٍ قوى الثورة المضادة في استعادة المبادرة، وإحكام قبضتها على السلطة من جديد.
كان أبرز تحدٍ واجهته الثورات العربية القضاء على الاستبداد، وتفكيك في أفق التحول نحو الديمقراطية بأقل الخسائر الممكنة. وعلى الرغم من أنه تم إجهاض معظم هذه الثورات، والالتفاف على مساراتها السلمية بإشاعة الفوضى والحروب المدمرة وتفكيك النسيج الأهلي، إلا أنها أعطت الانطباع بأن أشياء قد تغيرت، أبرزها سقوط ُجدار الخوف الذي كان يُسيج الأنظمة العربية، ويَحول دون انتفاض الشارع ضدها، وصعوبةُ، إن لم نقل استحالة، إعادة إنتاج الاستبداد العربي، بصيغته التقليدية التي تجعل الحاكم في مرتبة الإله أو يكاد.
لكن يبدو أن هذا الانطباع يتبدّد الآن، ونحن نرى كيف تتم، في مصر، صناعة صنم آخر، يُضاف إلى قائمة الأصنام التي غذت المخيلة السياسية العربية الحديثة والمعاصرة بممارساتها وتُرّهاتها. كنا نعتقد أن هذه الثورات، وعلى الرغم من إخفاقها في اجتراح وصفة تحول ديمقراطي بالقطع مع الاستبداد والفساد والظلم، إلا أنها على الأقل، وبحكم الثقافة السياسية الجديدة التي واكبت لحظة اندلاعها، لن تسمح بظهور أصنام أخرى، تضخ دماء جديدة في الجسد المنهك للسلطوية العربية.
على امتداد العقود المنصرمة، شكّل تحويل الحاكم إلى صنم هاجسا مركزيا لدى النخب التي تعاقبت على السلطة في الوطن العربي. ولم يكن ذلك أمرا هينا، فبناء صورة ''مثالية'' للحاكم كان يتم دائما، من خلال تدخل ممنهج ومدروس لحقول كثيرة، أبرزها الإعلام، والفن، والدين، وغيرها. وبالطبع، كان إنجاز ذلك يتطلب إزاحة أي معارضة حقيقية، حزبا كانت أو زعامة مناوئة، وهو ما كانت تتكفل به أجهزة الأمن والمخابرات، من خلال توظيف دقيق للحقول السالفة الذكر.
بات واضحا الآن أن هناك تحولا مفصليا داخل بنية السلطة في مصر، فعبد الفتاح السيسي لم يعد مجرد عسكري قاد انقلابا خطط له الجيش ونفّذه للإجهاز على المسار الديمقراطي الذي دشنته رئاسيات 2012، إنه الآن الرقم الأقوى في صراع القوة والنفوذ الذي تعرفه المؤسسة
العسكرية المصرية. فاعتقال سامي عنان، وهو أحد أبرز الأرقام في معادلة القوة داخل هذه المؤسسة إبّان الثورة، يؤكد أن انقلاب "3 يوليو" في 2013 لم يكن فقط لإزاحة الإخوان المسلمين، وإعادة السلطة إلى هذه المؤسسة، بل كان يندرج في سياق إحياء نظام حسني مبارك بالآليات نفسها، سواء بالتخلص من الخصوم السياسيين وإقصائهم من حلبة التنافس، أو بإعادة بناء التحالف الاجتماعي الذي تصدع نتيجة ثورة 25 يناير.
وما أشبه اليوم بالبارحة؛ ففي نهاية الثمانينيات، وفي خطوة مفاجئة، أقال مبارك وزير الدفاع آنذاك، المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، بسبب شعبيته المتزايدة داخل الجيش، وعلاقاته النافذة في واشنطن. أثار ذلك مخاوف كبيرة لدى مبارك ورجالاته من أن يقود أبو غزالة انقلابا عسكريا تدعمه الولايات المتحدة. كان مبارك آنذاك بصدد نسخ خيوط تحالفه الاجتماعي مع قوى المال والأعمال، وقيادات الحزب الوطني والمخابرات، وهو التحالف الذي سيطبع بنية نظامه منذ بداية التسعينيات إلى سقوطه في فبراير/ شباط 2011.
الشيء نفسه بالنسبة لنظام السيسي الآن، فبِنيته المغلقة لا تسمح لأي منافس حقيقي بخوض سباق الرئاسة، وبحكم أن إمكانية إقالة عنان غير واردة، بسبب عدم مزاولته أي مهام رسمية، فإن تلفيق تهم واهية له يبدو أقصر طريق للتخلص منه في نظامٍ بلا شرعية. ويكشف اعتقال الرجل واستبعاده من هذا السباق جانبا من استراتيجية العسكرتارية المصرية في إحكام قبضتها على المشهد السياسي، وإفراغه من أي نهوض ديمقراطي محتمل. ولن يتأتى ذلك، على ما يبدو، إلا من خلال السيسي، عكس عنان الذي قد يشكل انتخابه مدخلا مناسبا لحل الأزمة السياسية التي أحدثها الانقلاب، والبحث عن تسوية ما مع "الإخوان"، خصوصا في ضوء إشارته إلى ضرورة الاحتكام للدستور، وعودة الحياة السياسية، والتحول نحو الدولة المدنية، ما يعني تقليص الأدوار السياسية التي تلعبها هذه العسكرتارية، خصوصا أن الانقلاب كان في سياق إعادة بسط هيمنتها على السلطة والمجتمع.
اعتقالُ عنان، وانسحاب مرشحين آخرين، يؤكدان إصرار نظام السيسي على تحويل الاقتراع الرئاسي المقبل موعد ''تجديد العهد'' و"تزكية الإنجازات''، وغيرهما مما يحفل به المعجم البائس للسياسة العربية، وكان الظن أنه في طريقه إلى أن يصبح جزءا من تاريخها.
نحس بحسرة شديدة على ما آلت إليه الأمور في مصر، ليس فقط لأنها البلد العربي الكبير الذي تكون لما يحدث فيه ارتداداتٌ داخل محيطه الإقليمي، ولكن أيضا بسبب النهاية التراجيدية لثورةٍ لم تستطع أن تُحصّن نفسها.