النُخبة السياسية المصرية والعلّة المُزمنة... ثورة 1919

النُخبة السياسية المصرية والعلّة المُزمنة... ثورة 1919

03 مارس 2017

متظاهرون في القاهرة أثناء ثورة مارس 1919(ويكيبيديا)

+ الخط -
جاء مقال سابق لكاتب هذه السطور، في"العربي الجديد"، على النُخبة السياسية المصرية وعلّتها المُزمنة، المتمثّلة في انقسامها وإعادة إنتاجه بصورة مأساوية، ما كان دوماً السبب الرئيسي في تصفية إنجازات الشعب من انتفاضات وثورات، في مواجهة الاستبداد، والاستعمار، وكان المقال عن إهدار النُخبة فرصة تاريخية لاحت بتولية محمد علي على يد الزعامة الشعبية. 

في نهاية القرن التاسع عشر، أُجهِضَت الثورة العرابية بصورة كلية، بسبب عدّة عوامل، مثل نقصان الكفاءة، وتغليب قادة الثورة العوامل الشخصية على المصلحة الوطنية، والأطماع الخارجية، وكانت المحصّلة وقوع مصر في براثن الاحتلال البريطاني.
وبعد نحو ثلاثة عقود، انطلق المصريون ليسطّروا ملحمة جديدة في تاريخ نضالهم، عبر قيامهم بثورة 1919 المجيدة التي تُعدّ أفضل الثورات في تاريخ مصر الحديث، فقد قدّمت نموذجاً رائعاً للثورة الشعبية التي جمعت المصريين على اختلاف عقائدهم، وطبقاتهم، وفئاتهم، وأجيالهم، مُجتَمعِين خلف مطلبيْن، الاستقلال والدستور.
وعلى الرغم من عظمة ثورة 1919، إلا أنها حقّقت نجاحاً جزئياً، لا كلياً، بالحصول على استقلال شكلي منقوص، بتصريح 28 فبراير/ شباط 1922 الذي رفضه سعد زغلول رفضاً قاطعاً، وبصدور دستور 1923، وكان انقسام النُخبة السياسية هو السبب.
تمخّضت ثورة 1919 عن قيادة ثورية ممثّلة في حزب الوفد، وزعامة شعبية حقيقية ممثّلة في الزعيم الوطني العظيم، سعد زغلول، الذي حاز شعبية كاسحة جارفة، بطول مصر وعرضها في أعقاب الثورة. وكان مشهد استقبال جموع المصريين له لدى عودته إلى مصر من باريس، بعد غياب دام عاميْن منذ نفيه إلى مالطة، مشهداً تاريخياً مهيباً بحقٍّ، في 4 أبريل/ نيسان 1921 في الإسكندرية. وعلى طول طريق القطار إلى القاهرة، ثمّ في شوارع القاهرة حتى بيته، وهو استقبال، بإجماع المؤرّخين، لم يُتَح لفاتحٍ من الفاتحين، أو ملك من الملوك، في أي عصر من العصور في تاريخ مصر، بتعبير عبد العظيم رمضان.
وكان ذلك الاستقبال التاريخي بمثابة توكيل شعبي جديد، منحه المصريون لسعد زغلول بوصفه الممثّل الحصري لجموع الشعب المصري، وللقضية الوطنية، وهو ما انعكس على المسلك 
السياسي الذي اتبعه زغلول في مواجهة الاحتلال، والقصر، وكذلك على جناح "المعتدلين" داخل "الوفد". وبحسب تعبير المؤرّخ طارق البشري، كان بصر المعتدلين متعلّقاً بإنهاء الحماية فحسب، فقد توقّف مفهوم الاستقلال لديهم عند هذه النقطة، بينما كان بصر سعد زغلول مشدوداً إلى تحقيق الاستقلال التام، بما يعني إنهاء الحماية وإنهاء الاحتلال العسكري، بجلاء القوّات الأجنبية عن مصر بشكل كامل، وهو المطلب الأساسي للحركة الوطنية المصرية.
نشب خلاف بين سعد زغلول وعدلي يكن الذي أسس حزب الأحرار الدستوريين، بسبب عدم الاتفاق على الشروط الأربعة التي تقدّم بها زغلول للاشتراك مع الوزارة في المفاوضات، وتمركز الخلاف حول الشرط الرابع، أن تكون لحزب الوفد أغلبية المفاوضين، وأن تكون له الرئاسة، حيث رأى زغلول أنّ هذا أمر بديهي، باعتبار أنّ "الوفد" هو وكيل الأمّة الذي حاز ثقتها، وهو ما ظهر جليّاً في مشهد استقباله الأسطوري، في حين رأى عدلي أن التقاليد السياسية لا تسمح مطلقاً أن يدخل رئيس الوزراء في لجنة، ولا يحظى برئاستها.
ثمّ تطوّر الخلاف إلى صدام كبير، بعد الهجوم الكاسح الذي شنّه سعد زغلول على الحكومة، في خطبته في شبرا في 25 أبريل، والتي قال فيها إنّ رئيس وزراء مصر يُعيَّن ويسقط بإشارة من المندوب السامي البريطاني، وإنّ رئاسة رئيس الوزراء لوفد المفاوضات تعني أنّ "جورج الخامس يفاوض جورج الخامس"(!).
بعدها بأيام، انتقل الخلاف إلى داخل هيئة "الوفد" نفسها، في اجتماعها في 28 أبريل، وكما روى شيخ المؤرّخين، عبد الرحمن الرافعي، رأت الأغلبية عدم اشتراك الوفد في المفاوضات مع عدم محاربة الوزارة فيها، في حين أصرّ سعد زغلول على موقفه، وعلى إعلان عدم الثقة بالوزارة، فاستقال علي شعراوي من "الوفد" في هذا اليوم، في حين كتب خمسة من المخالفين (هم محمد محمود، حمد الباسل، أحمد لطفي السيد، محمد علي علوبة، عبد اللطيف المكباتي) بياناً إلى سعد زغلول نشروه في الصحف، اعترضوا فيه على عدم اكتراثه برأي الأغلبية، وقد ردّ عليهم زغلول ببيانٍ، في اليوم التالي، اعتبرهم فيه مُنفَصلين عن "الوفد"، وانضم إلى المُنشّقين عبد العزيز فهمي، وحافظ عفيفي، وعبد الخالق مدكور، واستقال جورج خيّاط من "الوفد" في يونيو، فاعتبرهم زغلول جميعاً مُنفصلين، وبقي معه كلّ من مصطفى النحّاس وواصف بطرس غالي وسينوت حنّا وويصا واصف وعلي ماهر.
وهنا، انتقل الخلاف والاستقطاب من الطور"النخبوي" إلى الطور"الشعبوي"، فقد اندلعت مظاهرات عاتية عدائية في كلّ مكان ضدّ عدلي يكن وحكومته، وضدّ الأعضاء المُنشّقين، منادية بسقوطهم ورميهم بالخيانة، ورشق بعضها منازلهم بالطوب والحجارة، قابلتها الحكومة بعنف، وتعقّبت أنصار سعد زغلول من الموظّفين، وتطوّرت إلى اشتباكاتٍ عنيفة في طنطا، تلتها أخرى أعنف بين الأهالي والأجانب في الإسكندرية، وبين أنصار زغلول وخصومه في أسيوط إبّان زيارته لها.
يقول المؤرّخون إنّ سعد زغلول كان محقّاً في موقفه من الاشتراك في وفد المفاوضات، لكنّه لم
يكن مُحقّاً في حملته الهجومية الهادرة الشعواء على عدلي يكن وحكومته، وكما ذكر عبد العظيم رمضان، كان هذا الصدام بداية مرحلة صاخبة في حياة مصر الداخلية، أُرسيَت فيها كل تقاليد الصراع الحزبي العنيف والخصومة الحادة. أمّا محمد شفيق غربال فكتب واصفاً آثار هذا الصدام في كتابه "تاريخ المفاوضات المصرية - البريطانية": (وإن ما جرى في تلك الأيام لم يزل أثره حتى الآن، فقد طبعت تلك السنوات الحياةَ السياسية في بلادنا بالبُعد عن القصد والاعتدال في التفكير والحُكم، وطبعتها بتوخّي المنفعة، أو المصلحة القريبة جداً في الخطّة السياسية، فلا ينظر الزعيم إلا إلى الأثر المباشر لعمله، وأصبح العمل في السياسة، وفي الإدارة، وفي التعليم، وفي العلم، مجرّد "مناورة" تدفع شيئاً أو تجلب شيئاً، وأصبحت الحياة في مصر معركة، أو سلسلة معارك، وليت ذلك كان مقصوراً على جيل سنة 1921، فينتهي السوء بانقراضه، ولكن ذلك الجيل وما بعده جذب لجوّه ومعاركه الناشئين، ولمّا اشتدّ هؤلاء جذبوا مَن بعدهم وهكذا دَوَالَيْك).

انتهى المشهد بتشكيل المنشقّين الذين كانوا أعضاء حزب الأمّة القديم حزب "الأحرار الدستوريين" الذي كان ممثِّلاً لليبرالية الأوتوقراطية، والذي كان سيفاً في يد الاحتلال والقصر، لضرب "الوفد" رأس حربة الحركة الوطنية المصرية الذي جمع المصريين، واستوعب طموحهم الوطني والحضاري، وكان الحزب السياسي الحقيقي الوحيد في تاريخ مصر الحديث الذي كان بمثابة "جبهة وطنية"، عكست تشكيل الأمّة المصرية بأسرها، وتمكّن من التمددّ بلجانه، في طول البلاد وعرضها، بحَضَرها وريفها.
بيْد أنّ "الوفد" عانى من الانشقاقات التي ضربته، والتي نتجت عن خلافاتٍ لم تكن مبدئيةً بقدر ما كانت شخصية، وفق تعبير الدكتور يونان لبيب رزق، فبعد انشقاق "العدليين"، وقع انشقاق "السبعة ونصف" عام 1932، بعد خلافٍ بين مكرم عبيد ونجيب الغرابلي. وفي 1937، وقع انشقاق آخر بعد صدام بين مكرم عبيد وفهمي النقراشي، نتج عنه خروج الثاني وتشكيل حزب الهيئة السعدية، ثمّ جاء انشقاق 1943 بعد خلاف بين أشهر صديقيْن في تاريخ السياسة المصرية، مصطفى النحّاس ومكرم عبيد، نتج عنه طرد الثاني من "الوفد" وتشكيله حزب الكتلة الوفدية.
صحيح أنّ هذه الانشقاقات لم تنل من جماهيرية "الوفد" الكاسحة، إلا أنها أسهمت في عرقلة مسيرة القضية الوطنية، وإضعاف الحياة الحزبية بعدما ألقت بظلالٍ سلبيةٍ عليها، بسبب الانقسامات التي ضربت النُخبة السياسية، فقد تمترست أحزاب الأقلية بالقصر والاحتلال لمواجهة شعبية الوفد الجارفة، ونكاية في زعامته، كما ساعدت القصر على القيام بـ "انقلابات دستورية" من أجل إطاحة حكومات "الوفد"، وتعطيل دستور 1923. فخلال الفترة من 1924 حتى 1952، لم يحكم "الوفد" سوى سبع سنوات وتسعة أشهر فقط، بصورة متفرّقة، ولم يُعمَل بدستور1923سوى عشر سنوات، ... وهكذا أهدرت النُخبة السياسية بتشرذمها فرصة تاريخية أخرى في ثورة 1919.

دلالات