في استعادة الانتخابات البرلمانيّة المصريّة 1924

في استعادة الانتخابات البرلمانيّة المصريّة 1924

15 فبراير 2024

حشد في القاهرة بمناسبة افتتاح البرلمان المصري (1924/Getty)

+ الخط -

جاء مقال سابق لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد"، عن مئويّة أوّل انتخابات برلمانيّة في مصر، تضمّن الحديث عن خلفيّات مشهد صدور دستور 1923، وما حملته الكواليس من صراعات، ومساومات، انتهت، في الأخير، إلى صدور الدستور بمكاسب ديمقراطيّة، تمثّلت في إقراره مبدأ "الأمّة هي مصدر السلطات"، وفي إنشاء هيئات مُنتخَبَة من الشعب، هي مجلس النوّاب، ويكون أعضاؤه جميعاً بالانتخاب، ومجلس الشيوخ رئيسه وخُمسان من أعضائه بالتعيين من الملك، وثلاثة أخماسه بالانتخاب، والوزارة تستمدّ شرعيّتها من مجلس النوّاب.

جاء المشهد التالي بإصدار قانون الانتخابات، فقد تمّ تقسيم البلاد إلى 214 دائرة انتخابيّة، وحرصت الحكومة بدعم من "الأحرار الدستورييّن"، على أن يكون الانتخاب لمجلس النوّاب على درجتيْن (الأولى بانتخاب المندوبين الثلاثينييّن، بانتخاب كلّ 30 ناخباً مندوباً منهم، وفي الثانية ينتخب المندوبون الثلاثينيّون نائباً عن دائرتهم)، ظنّاً منهم أن هذا سيصبّ في صالح تمكين الأعيان، وذوي الملكيّات الكبيرة في الأرياف، من تمثيل الشعب. وفي المقابل، سيحول دون حصول خصومهم رجال "الوفد" على مقاعد المجلسيْن.

كان إصدار الدستور وقانون الانتخابات في إبريل/ نيسان 1923 تدشيناً للمعركة الانتخابيّة التي انطلقت منذ ذلك الحين، واستمرّت محتدمة حتى إجراء الانتخابات في يناير/ كانون الثاني 1924، وشهدت تلك الفترة عملية تهيئة المناخ الديمقراطي للانتخابات، فأُلغيَت الأحكام العرفيّة، وبدأت سلسلة من قرارات الإفراج عن المحكومين عسكريّاً، والمعتقلين السياسيين الذين زُجّوا في السجون والمعتقلات إبّان أحداث ثورة 1919. بدأت في مايو/ أيار 1923 بإطلاق سراح أعضاء الوفد الذين يقضون عقوبة السجن، حمد الباسل، ومرقس حنّا، وويصا واصف، وواصف بطرس غالي، وعلوي الجزّار، ومراد الشريعي، وجورج خيّاط، كذلك أفرجت السلطات العسكريّة عن أعضاء هيئة الوفد المُعتقلين، السيّد القصبي، وفخري عبد النور، والأميرالاي محمود حلمي، ونجيب الغرابلي، وراغب إسكندر، ثمّ جاء الإفراج عن أعضاء الوفد المنفيّين في سيشل، مصطفى النحّاس، وفتح الله بركات، ومكرم عبيد، وسينوت حنّا، وعاطف بركات، وقد وصلوا إلى مصر في يونيو/ حزيران 1923 واستُقبِلوا استقبالاً حافلاً، كذلك صدر قرار بالإفراج عن 250 شخصاً كانوا يقضون أحكاماً بالسجن، وزال الحظر الذي كان مفروضاً على بعض المنفيّين في الخارج.

كان للاستقبال الجماهيري الحافل الذي حظي به سعد زغلول لدى عودته أسوأ الأثر على خصوم "الوفد"، فزعزع ثقتهم في الدعم الشعبي المُنتظَر في الانتخابات

وفي 17 سبتمبر/ أيلول 1923، عاد سعد زغلول إلى مصر من جبل طارق، ووصل إلى الإسكندريّة، فاحتفلت الأمّة بعودته احتفالات عظيمة عمّت القُطر المصري كلّه، وأعادت هذه الاحتفالات إلى الأذهان حفاوة الشعب به عند عودته الأولى في إبريل/ نيسان 1921، فإنها كانت صورة تطابقها في المعنى، ولا تقلّ عنها كثيراً في اتّساع مداها، وفقاً لوصف عبد الرحمن الرافعي.

كان للاستقبال الجماهيري الحافل الذي حظي به سعد لدى عودته أسوأ الأثر على خصوم "الوفد"، فزعزع ثقتهم في الدعم الشعبي المُنتظَر في الانتخابات. وهنا كتب قطب الأحرار الدستوريّين محمد حسين هيكل باشا، قائلاً إن استقبال سعد "جعلنا نحن الأحرار الدستوريّين نفكّر طويلاً في أثر ذلك على مجرى الانتخاب... لقد كنّا إلى ذلك اليوم نقدّر أننا سنحصل على أغلبيّة في مجلس النوّاب، لكن استقبال سعد كان حارّاً إلى حدّ جعلنا نفكّر في الأمر من جديد".

وصف الرافعي مشهد الانتخابات، قائلاً: "اهتمّت الأمّة بالانتخابات اهتماماً عظيماً، دلّ على ارتقاء النضج السياسي في البلاد، وتتبّع الناس بلهفة إجراءات التمهيد للانتخابات، وتألّفت اللجان الشعبيّة في مختلف المدن والقرى، وكان معظمها من لجان الوفد". واصل الرافعي: "كانت الدلائل والملابسات تدلّ على أن الوفد سينال الأغلبيّة الساحقة في الانتخابات، فشخصيّة سعد وزعامته للأمّة، والمنزلة التي نالها في نفوس المصريين، كانت وحدها كفيلة بهذا الفوز، ولا غرو فقد تركّزت فيه الثورة، لأنه كان زعيمها، وكان نفيه مرّتيْن، ممّا زاد الشعب تعلّقاً به والتفافاً حوله، وتلبية لندائه في الترشيح للانتخابات... فكان ترشيح الوفد يضمن في الغالب فوز كلّ من يتقدّم للانتخابات". أمّا هيكل باشا، فقد ذهب إلى نقطة أبعد، حيث ذكر أن النظر إلى سعد انتقل من أنّه زعيم سياسي له رأيه الذي يُناقَش، إلى أنه "نبيّ الوطنيّة" المُرسَل من السماء، والذي يجب أن تعنو الجباه له، ومن يخالفه أو يخرج عليه، هبط من درجة الخيانة إلى الكُفر! ... وعلى هذا النحو، أصبحت كلمة سعد وحياً، وقد وجب تنفيذ أمره أيّاً كان، وهذا هو ما أدّى بالشيخ القاياتي إلى أن يقول يوماً: "إذا رشّح الوفد حجراً وجب انتخابه"(!). في المقابل، اقتصرت خُطب الأحرار الدستوريّين وأحاديثهم في مجالسهم على الطعن المُقذِع في سعد، ما أثار حنق الشعب عليهم، خصوصاً ممّا فعلوه مع سعد خلال رحلته بالوجه القبلي، وقد وصفها الرافعي بقوله: "في الحقّ أنها كانت أفاعيل خالية من السداد والاستقامة".

الممارسة العمليّة لنصوص الدستور أتت بصيغة جديدة، عندما احتلّ "الوفد" مساحات الحركة التي أنشأتها نصوص الدستور

وفي 12 يناير/ كانون الثاني 1924 أُجريَت الانتخابات في أجواء من النزاهة، فلم يُسمح لرجال الإدارة الحكوميّة بالتدخّل في إرادة الناخبين، وحملت النتائج مفاجآت مدوّية، فقد اكتسح مرشّحو حزب الوفد المقاعد اكتساحاً، في حين سقط أقطاب "الأحرار الدستوريّين" سقوطاً مدوّياً، فلم ينجح منهم سوى محمّد محمود باشا، واللافت أنهم سقطوا أمام شخصيّات وفديّة عاديّة مغمورة، فقد سقط إسماعيل صدقي في طنطا أمام المحامي نجيب الغرابلي، كذلك سقط علي المنزلاوي في سمّنود أمام مصطفى النحّاس. وكان كلا الفائزين آنذاك من أوساط النّاس، ولم يكونا من النُّخبة أو الوجهاء، كما هو حال الخاسرين.

أمّا المفاجأة الأكبر، فكانت سقوط يحيى إبراهيم باشا الذي كان يشغل آنذاك منصبي رئيس الوزراء ووزير الداخليّة أمام المرشّح الوفدي أحمد مرعي أفندي في دائرة منيا القمح، وهي واقعة فريدة غير مسبوقة أو ملحوقة في تاريخ مصر الحديث، حملت دلالات ناطقة على مدى نزاهة تلك الانتخابات. حصد "الوفد" أكثر من 90% من مقاعد مجلس النوّاب، حيث فاز مرشحّوه بـ195 مقعداً من 214، في حين حصل "الأحرار الدستوريون" على ستة مقاعد فقط، بينما حصل الحزب الوطني على أربعة مقاعد، من بينهم عبد الرحمن الرافعي، الذي عُرفَ لاحقاً بشيخ المؤرّخين المصريين، وفاز بمقعد دائرة المنصورة بفارق صوت واحد فقط عن منافسه.

كانت الصيغة النظريّة التي قام عليها الدستور تقول إن الأحرار الدستوريين هم الطرف الذي سيمثّل الأمّة أو الديمقراطيّة، في مواجهة الاستبداد، في صراع مسرحي يغلب عليه طابع الصوريّة، بيد أن الممارسة العمليّة لنصوص الدستور أتت بصيغة جديدة تماماً، عندما احتلّ "الوفد" مساحات الحركة التي أنشأتها نصوص الدستور، ما نزع عن العلاقة طابع الصوريّة، وأحاله صراعاً حقيقيّاً بين الديمقراطيّة أو الإرادة الشعبيّة التي مثّلها "الوفد"، والاستبداد الذي مثّله القصر وأحزاب الأقليّة، والمفارقة الطريفة هنا أن خصوم "الوفد" قد أسدوا خدمة جليلة، رغماً عنهم من دون قصد منهم، إلى خصمهم اللدود "الوفد" الذي لم يشارك في صياغة الدستور، ولم يضطرّ إلى تقديم تنازلات إلى القصر في عمليّة صياغته، وقبلها لم يقبل المساومة مع الإنكليز في صدور "28 فبراير"، كما فعلوا هم، في حين أنه كان الطرف الذي قطف الثمار وحصد المكاسب الديمقراطيّة التي حملها أوّل تطبيق عملي لنصوص الدستور الجديد.