أزمة مارس 1954 وسقوط الديمقراطية في مصر

أزمة مارس 1954 وسقوط الديمقراطية في مصر

05 ابريل 2016

عبد الناصر ومحمد نجيب .. صراع مبكّر

+ الخط -
مثلت أزمة مارس/ آذار 1954 نقطة مفصلية في تاريخ مصر الحديث، فصلت ما قبلها عمّا جاء بعدها، لما كان لها من آثار كارثية على مسار الحياة السياسية المصرية، دامت أكثر من ستّة عقود، ولم نجنِ حصادها المرير إلا بعد قيام ثورة 25 يناير. ووفقاً لرواياتٍ عديدة في مذكّراتهم، كان هدف "الضبّاط الأحرار" من انقلابهم في 23 يوليو/ تموز 1952 مجرّد مطالب إصلاحية خاصة بالجيش، إلا أنهم فوجئوا بالتنازل السريع للملك فاروق عن عرشه ومغادرته البلاد، ولم يكن لديهم أي تصوّر عن المشهد السياسي الجديد، سوى المبدأ الفضفاض، والذي حلّ سادساً وأخيراً في أهدافهم، وهو "إقامة حياة ديمقراطية سليمة"، لكن مسار الأحداث المتتابعة لم يكن مبشّراً بأي قدر من الديمقراطية، فقد عرفت الثقافة المصرية، في الحقبة شبه الليبرالية، التعدّدية الحزبية، والممارسة الديمقراطية، واتسمت تلك الفترة بقدر كبير من الحيوية السياسية والفكرية، وأفرزت مجالاً سياسياً خصباً، شابته ممارسات القصر والاحتلال، بالإضافة إلى الأزمة الاجتماعية المتفاقمة، حتى جاء انقلاب 1952 ليدكّ بمطرقة الدولة ما أنجزته الحركة الوطنية المصرية طوال قرن ونصف. فقد تعامل ضبّاط انقلاب 1952 مع الحقبة شبه الليبرالية بسياسة الهدم الشامل، ولم يحاولوا استبقاء الإيجابيات والبناء عليها، بعد التخلّص من السلبيات ومعالجتها، وإنما قرّروا التخلّص من المشهد السابق برمته، وإهالة التراب على كل ما حمله من إيجابياتٍ وسلبيات، وأجهزوا على آليات الديمقراطية من الدستور إلى الحياة النيابية.
وساهمت عدّة أطراف في دفع مسار "23 يوليو" إلى طريق الاستبداد والدكتاتورية، جمعهم عداؤهم الشديد لحزب الوفد الذي كان يحظى بشعبيةٍ جارفة منذ تأسيسه عقب ثورة 1919، فلم يخسر أي انتخابات نزيهة خاضها، ومثّل رأس حربة الحركة الوطنية المصرية في مواجهة القصر والاحتلال، وقد رأوا أن انقلاب 1952 فرصة مثالية للتخلّص منه. وكانت جماعة الإخوان المسلمين أول هذه الأطراف، فقد كانت الشريك السياسي الوحيد لضبّاط 1952 في انقلابهم، وظنّت أن هذا الانقلاب قام لحسابها، وهو ما أثبتت الأيام لاحقاً أنه وهم كبير. ولعب سياسيون وقانونيون من رجال القصر وأحزاب الأقليّة، مثل علي ماهر، وعبد الرزّاق السنهوري رئيس مجلس الدولة، وسليمان حافظ وكيله حينذاك، دوراً كبيراً في إغراء الضبّاط بالسير في طريق الديكتاتورية، بتسويغ اللجوء إلى الإجراءات الاستثنائية، مبتكرين مصطلحات جديدة مثل "الشرعية الثورية" و"الفقه الثوري"، وقد كانت أول مسمار في نعش الديمقراطية، ومهدّت الطريق أمام العصف بالدستور، وبالحياة النيابية التي تعني عودتها مباشرةً عودة "الوفد" إلى السلطة.
كانت أزمة تعيين مجلس الوصاية على العرش، بعد تنازل فاروق لابنه الرضيع، أول خرق للدستور، فقد كانت المادة 52 من دستور 1923 المعمول به المنظّمة لشأن الوصاية، بدعوة البرلمان إلى الانعقاد، وأداء الأوصياء اليمين القانونية أمامه، إلا أن البرلمان الذي جاءت به انتخابات 1950 كان بأغلبية وفدية، وتمّ تعطيله بعد حريق القاهرة وإقالة حكومة مصطفى النحّاس، ودعوته إلى الانعقاد تعني عودة "الوفد" إلى السلطة. وفي 31 يوليو/ تموز 1952 صدرت فتوى قسم الرأي في مجلس الدولة، في جلسة ترّأسها السنهوري، بعدم جواز دعوة البرلمان المعطّل للانعقاد، في مخالفةٍ صريحة للدستور.
ولم تكتف جماعة الإخوان المسلمين بالوقوف ضدّ عودة البرلمان الوفدي، وإنّما ذهبت إلى خطوةٍ أبعد بمهاجمة دستور 1923، كما ذكر عبد العظيم رمضان في كتابه "الإخوان المسلمون والتنظيم السري"، في بيان لها في أغسطس/ آب1952، شنّت فيه هجوماً حاداً على الحياة النيابية، زاعمة أن التجارب الدستورية والبرلمانية السابقة "لم تقدّم نيابة صالحةً ولا تمثيلاً صحيحاً"، وأنّها انتهت إلى أن أصبحت "أداةً تُعطي شهوات الحكّام ومظالم السلطان صيغة قانونية"، وعلى الرغم من مطالبتها بإلغاء الأحكام العرفية، إلا أنها اعتبرت أن دستور 1923 "لا وجود له من ناحية الواقع أو ناحية الفقه"، مطالبةً بإسقاطه، والمسارعة بعقد جمعيةٍ تأسيسيةٍ لوضع دستور جديد، يستمد مبادئه من مبادئ الإسلام الرشيدة.

وتوالت خطوات هدم معالم الديمقراطية، والسير في طريق الديكتاتورية، ففي ديسمبر/ كانون الأول 1952، أُعلِن عن سقوط دستور 1923، وفي يناير/ كانون الثاني 1953، جاء الإجهاز على الحياة الحزبية، بصدور قرار بحلّ الأحزاب، ومصادرة أموالها. وفي سبتمبر/ أيلول 1953، تمّ تحديد إقامة مصطفى النحّاس، وتشكيل أول محكمة استثنائية لنظام 23 يوليو، سُميت "محكمة الثورة". وفي يناير 1954، انتهى التحالف التكتيكي بين الضبّاط وجماعة الإخوان المسلمين، وجاء الدور عليها، فصدر قرار بحلّها، واعتقال عدد كبير من أعضائها، ثمّ نشبت أزمة داخل "مجلس قيادة الثورة"، على خلفية الخلاف حول عودة الحياة النيابية بعد عودة الجيش إلى ثكناته، على إثرها استقال محمد نجيب من منصب رئيس الجمهورية في 23 فبراير/ شباط 1954، وتمّ تعيين جمال عبد الناصر رئيساً للمجلس قبل عودة نجيب مجدداً، إثر مظاهرات عارمة في 27 فبراير. بعدها، توالت جولات الصراع بين أنصار الديمقراطية وأنصار الديكتاتورية، ففي 5 مارس أصدر مجلس قيادة الثورة قراراتٍ باتخاذ إجراءات فورية لتشكيل جمعية تأسيسية بالانتخاب المباشر، على أن تجتمع في 23 يوليو 1954، وتتولى وضع دستور للبلاد، كما تباشر سلطات البرلمان إلى حين وضع الدستور وانتخاب برلمانٍ جديد، كما تقرّر إلغاء الرقابة على الصحف، والتعهّد برفع الأحكام العرفية قبل انتخاب الجمعية التأسيسية.
وتحت وطأة ضغوطٍ متوالية للقوى الديمقراطية، أصدر مجلس قيادة الثورة، في 25 مارس، قراراتٍ نصّت على حلّ مجلس قيادة الثورة في 24 يوليو 1954، مع عدم السماح للمجلس بتكوين حزب سياسي، وعلى السماح بقيام الأحزاب، كما نصّت على عدم جواز الحرمان السياسي، وعلى إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية بحرية كاملة، وأن يكون لها سلطة البرلمان. كانت القوى الديمقراطية تشعر بأنها على مرمى حجر من حسم الصراع وتحقيق الانتصار، فقرّرت أن يكون 28 مارس يوماً للإضراب العام، للمطالبة بإنهاء الحكم العسكري فوراً، من دون الانتظار حتى 24 يوليو 1954، وتشكيل حكومةٍ مدنيةٍ لإجراء الانتخابات، وكان الإضراب المزمع بمشاركة نقابة المحامين وأعضاء هيئات التدريس في الجامعات، والجبهة الطلابية، والنقابات العمالية. ومثّلت نقابة عمال النقل المشترك بيضة القبّان في حسم الصراع، لأن من شأن إضراب عمّالها إصابة حركة المواصلات في العاصمة بالشللّ، فحاول كل طرف استمالتها، وكان من المُعلن مشاركتها في الإضراب، حتى توجّه رئيس اتحاد نقابات عمّال النقل المشترك، الصاوي أحمد الصاوي، إلى مقرّ "هيئة التحرير"، وهي باكورة التنظيمات الشمولية لدولة يوليو 1952، والتقى رئيسها أحمد طعيمة، وتمّ الاتفاق على تحويل الإضراب من المطالبة بالديمقراطية إلى المطالبة بإلغاء قرارات 5 و 25 مارس. وفي 28 مارس 1954، خرجت أعجب مظاهرة في التاريخ، هاتفة بسقوط الحرية والديمقراطية والبرلمان والأحزاب. وفي 29 مارس، تمّ توجيه مظاهرة إلى مجلس الدولة، اعتدت على رئيسه السنهوري. وقد ذكر خالد محي الدين، لاحقاً، في مذكراته "الآن أتكلّم" أن عبد الناصر اعترف له بأنه دفع أربعة آلاف جنيه لتدبير تلك المظاهرات، وهو ما كتبه أحمد طعيمة في مذكراته "شاهد حقّ".
وفي 29 مارس، قررّ مجلس قيادة الثورة إرجاء تنفيذ قرارات 5 و25 مارس حتى نهاية فترة الانتقال. وفي 15أبريل/ نيسان، أصدرالمجلس قراراتٍ كانت بمثابة الضربة القاضية للقوى الديمقراطية، عندما قررّ حرمان كل من تولّى الوظائف العامة في السنوات العشر السابقة على 23 يوليو 1952من حقوقه السياسية. وبدعوى تطهير الصحافة، قررّ المجلس حلّ مجلس نقابة الصحفيين، ووجّه ضربة للحركة الطلابية، عندما منح المسؤولين في الجامعات كل السلطات لضمان انتظام الدراسة فيها.
وقبل نهاية 1954، كان نظام يوليو قد أحكم قبضته على المجال العام، بعد هدمه كل البنى السياسية، والمجتمعية القديمة، من أحزاب ونقابات وجمعيات، مُجهِزاً بذلك على ما بنته الحركة الوطنية طوال قرن ونصف. ومنذ ذلك الحين، ودّعت مصر عصر التعدّدية السياسية، والممارسة الديمقراطية، ودخلت عصر التنظيم الشمولي الأوحد والديكتاتورية، ووقع المجال السياسي أكثر من 60 عاماً في أسر الثنائية الصراعية المنكودة "دولة يوليو 1952 - جماعة الإخوان المسلمين"، ولم يظهر الحجم الحقيقي للكارثة إلا بعد ثورة 25 يناير 2011، عندما اكتشفنا مدى التفريغ والتجريف، وهو ما أعاد إنتاج الثنائية المنكودة نفسها.