"المركز العربي"... الجبال لا تهزّها الرياح

"المركز العربي"... الجبال لا تهزّها الرياح

06 اغسطس 2016

من ندوات المؤتمر في تونس(المركز العربي للأبحاث ودارسة السياسات)

+ الخط -
منذ قام قبل قرابة ستّ سنوات، غدا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مشروعاً نهضوياً عربياً يتبنّى القضايا الاستراتيجية والمصيرية للأمّة العربيّة، وكان حاضنا أساسّياً للثورات العربية التي انطلقت عقب نشأته وتطوّره السريع، إذ أثمرت الجهود التي بذلها، ليل نهار، رائد المشروع ومديره العام، الدكتور عزمي بشارة، عن نتائج ومعطيات مذهلة على مختلف الأصعدة، سواء في عقد عشرات المؤتمرات، أو في رصد الأوضاع وتحليل الاتجاهات، من خلال مشروع استطلاع الرأي العام، أو من خلال إصدار عشرات الكتب والمنشورات القيّمة، فضلا عن إصدار أربع مجلاتٍ أكاديمية محكمّة، وكذلك مع ولادة مشروع معهد للدراسات العليا في تخصصّات اعتبارية، فضلاً عن المشروع الاستراتيجي "المعجم التاريخي للغة العربية".
ولعل أكثر ما يثير الاهتمام تسجيل ونشر التاريخ الآني لأوضاع ومتغيرّات بلدان عربيّة وإقليميّة ودولية تمرّ بتحوّلات خطيرة، مثل مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية وفلسطين والعراق وتركيا وإيران والبحر الأحمر والقرن الأفريقي والصين وغيرها، وما يعيشه العالم العربي من ظواهر صعبة، وما تجتاحه من أزمات ومشكلات. هذه المنجزات وغيرها ينبغي، على ذوي الأخلاق العالية، أن يقدّروا دورها، ويحترموا أصحابها، وأن يشجّعوا ريادتها وطواقمها، بدل أن تستبدل بهجماتٍ ومحاولاتٍ بائسة، للنيل منها في زمنٍ، نحن أحوج ما نكون فيه إلى معالجة الأفكار وتبادل الآراء في سلاسل حواراتٍ معمّقةٍ، بديلاً عن هوس الشعارات، وترديد الهتافات السياسية لإجهاض الجهود، والنيل من المشروع النهضوي العربي الذي يؤمن بالحريّات، وبإتاحة الحياة الكريمة لكلّ أبناء هذه الأمة التي خذلتها الأنظمة الاستبدادية الحاكمة على مدى زمني طويل. وثمّة من يعمل من خلال مرتزقة على إحباط كلّ الأنشطة الخيّرة، ووضع العصيّ في العجلة الدائرة.
يختتم اليوم 6 أغسطس/ آب 2016، في مدينة الحمّامات في تونس مؤتمر أكاديمي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، افتتحت جلساته أول من أمس، 4 أغسطس/ آب، وبحثت فشل عمليّة التسوية، ودراسة تحوّل خيار المقاومة المسلحة ضد العدو الإسرائيلي من
استراتيجية تحريرٍ إلى فعل دفاعٍ عن النفس، مع الضرورة التي باتت ماسّة للبحث عن خياراتٍ جديدةٍ لمقاومة إسرائيل، والتصدّي لمشروعاتها في الاحتلال، والعمل على إفشالها بالتصدّي لها. يقول المركز العربي، بشأن المؤتمر، إنه "برزت، في الآونة الأخيرة، المقاطعة بوصفها أحد أهم أشكال المقاومة ضد الاحتلال؛ إذ وصلت حركة المقاطعة ضد إسرائيل، بأشكالها المختلفة، إلى درجةٍ من التطوّر، تتطلّب التعامل معها بوصفها أداةً نضاليةً أساسيةً في العمل الوطني الفلسطيني المقاوم، والتي أخذت تتحوّل إلى محور عملٍ للقوى الديمقراطية العربية والعالمية المتضامنة مع الحق الفلسطيني، وتوظّف قواعد القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان ضد ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه".
هكذا، وبالنظر إلى أهمية هذا الموضوع الحيوي، وكيفية تأثير المقاطعة، والنظر في سبل تعزيزها، وضرورة تحويلها إلى "استراتيجية عمل ونضال متكاملة في العمل الوطني الفلسطيني وحركة التضامن العربي والعالمي، فقد سعى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى عقد هذا المؤتمر الأكاديمي في تونس تحت عنوان: "استراتيجية المقاطعة في النضال ضدّ الاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي: الواقع والطموح"، وتشارك فيه نخبة من الأكاديميين والناشطين في حركة المقاطعة، من فلسطين والوطن العربي والعالم، علماً بأن هذا المؤتمر يندرج ضمن جملةٍ من الندوات والمؤتمرات والملتقيات والسيمنارات التي ينظمها المركز العربي، وكلها تُخصّص لمناقشة موضوعاتٍ راهنة، تهمّ المواطن العربي على كل الأرض العربية، وفي مقدمتها القضية المركزية الفلسطينية، وكيفية مناقشة سبل تمكين الشعب الفلسطيني من تحقيق تطلعاته المشروعة في تقرير مصيره، والتخلص من الاحتلال الإسرائيلي البغيض، وإنشاء دولته الحرة المستقلة على أرضه التاريخية.
حاولت مجموعةٌ، لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد، الإساءة إلى المؤتمر، وتعطيلها جلسته الثانية، وكانت تناقش استراتيجيات مقاومة التطبيع وتعزيز حملة المقاطعة العالمية ضد نظام الأبارتهايد الإسرائيلي. بدت هذه "المجموعة/ الشرذمة"، من خلال الرايات التي رفعتها مع شعاراتها المضادة التي ردّدتها، أنها تشايع النظام السوري الحاكم وحلفاءه، وقد تبنّت المجموعة شعارات المؤتمر لتحرّفها عن الاتجاه الحقيقي ضد المؤتمرين. والمؤكد أن وراءها جهاتٌ تقف موقف الخصم من المركز العربي وعميده، الدكتور عزمي بشارة، الذي ما فتئ يقول كلمته واضحةً وصريحةً وجليةً ضد كل الغلاة والمستبدين والمطبعين، وضد سياسات التفرقة والانقسام والطائفية، مع عمله الدائب على تطوير أشكال المقاومة ومضامينها على الأرض. وبالنظر إلى تحول المقاطعة إلى شكلٍ مؤثر ضد الاحتلال الذي يتبع نظام الفصل العنصري، فإن من الضرورة تأييده، لا الوقوف ضده.
وعليه، من يريد العبث وإفشال المؤتمر إنما يؤيد إسرائيل وعملياتها، من خلال التطبيع مع نظام
فصل عنصري سمي "الأبارتهايد". بدا، منذ اللحظات الأولى، أنها محاولةٌ رخيصة بائسة، باءت بالفشل، وجاءت لتعطيل أعمال مؤتمر، يسعى أكاديمياً، إلى أهدافٍ قومية سامية، كما بدا جلياً، مما ردّدوه في لهجتهم، أنهم لم يؤمنوا بالقضية الفلسطينية، بل اندفعوا ضمن خطةٍ معدّة من خصوم سياسيين ألداء للمركز العربي، واستراتيجيته التي يقودها رجلٌ جاء من قلب فلسطين، ويحمل تاريخاً نضاليا مشرّفاً، فضلا عن حمله هموم هذه الأمة، ويعمل من أجل علاج حاضرها المليء بالأسقام، والتفكير في مستقبلها ومصيرها.
وعليه، يعدّ المؤتمر صيغةً متقدمةً في الدعوة إلى المقاطعة الرسمية العربية، وفصلاً رائعاً من مقاومة التطبيع العربي مع إسرائيل، وعلينا أن نعلم أن ساحات المقاطعة تمتد في كل عالمنا العربي، وأميركا الشمالية، وأميركا اللاتينية، وفي أصقاع من أوروبا، ما فرض السؤال: لماذا يحصل العكس في أوروبا الشرقية والشرق الأقصى؟ ومن الأمور المهمة الأخرى أن لمقاطعة منتوجات المستوطنات تأثيرها في الاقتصاد الإسرائيلي. كما ينبغي التمييز الأوروبي والعالمي بين مقاطعة إسرائيل ومقاطعة منتوجات المستوطنات. ومن المهم أيضاً تكريس المقاطعة الأكاديمية والثقافية، ودور كل منهما في تغير سمعة إسرائيل وصورتها في العالم. كما تضمن أيضا موضوع الشباب والمقاطعة، من خلال الدور الذي تقوم به الحركات والاتحادات الطلابية، كما هي الحاجة ماسّة لبناء استراتيجية فلسطينية، لمواجهة الاستراتيجية الإسرائيلية وخططها.
وفي هذا الصدد، نقول إنّ الجبال لا تهزّها أيّة رياح، وإنّ الأشجار المثمرة يريدون إماتتها أو احتكارها لأنفسهم. القضية الفلسطينية قوميةٌ ومركزيةٌ وإنسانية في آن، ولا يمكن أن تهيمن عليها أطرافٌ داخلية أو خارجية موتورة، وغير مؤهّلة وغير نزيهة ومدفوعة الأثمان، كما لا يمكن إسكات مؤتمر أكاديمي عن أداء مهمّته النبيلة. هذا النفر الذي قام بهذه المحاولة لن يجني إلا الخيبة والفشل، فالمركز العربي سيبقى مؤسسةً قوميةً بكل مقوماتها وأخلاقياتها ومبادئها، وهي لا تلتفت أبداً إلى هؤلاء وأمثالهم، وهو ليس في حاجةٍ إلى أخذ إذنٍ من أي طرفٍ يدّعي احتكار القضية، أو وسائلها في النضال وتحديد المصير.
عملت أستاذاً باحثاً في المركز العربي ثلاث سنوات (2011- 2014)، ووجدت عمق نزاهته، وشمول اهتماماته، وقوّة انحيازاته الكاملة لقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية وتعميق الوعي، ورفض الاستبداد، ومناصرة تطلعات كلّ المجتمعات العربية إزاء الحياة بكرامة وحرية، فضلاً عن إيمان المركز بالارتقاء بالإنسان العربي، وتنمية قدراته وتطوير أفكاره. وهذا أحد أهداف العلوم الاجتماعية التي يتبنى المركز العربي عملية تطوّرها في الحياة العربية المعاصرة. ما يقوم به خصومه، وما يتقوّلونه من تشويشاتٍ، وما يطلقونه من شتائم، لا تؤثر أبداً على سيرورته ومبادئه وأخلاقياته، وسيبقى المركز العربي طوداً شامخاً، ولن ينال منه أحدٌ أبدًا، بحول الله.