الجنازاتُ أنواعٌ والموتُ واحد

الجنازاتُ أنواعٌ والموتُ واحد

19 سبتمبر 2022

(شربل عون)

+ الخط -

شهدتُ، قبل أسبوع مضى، في أثناء وجودي في لندن، حدثاً مهمّاً أحدثَ ضجيجاً إعلامياً كبيراً، وشغل تفكير الناس، يتمثّل برحيل ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية (1926 ــ 2022) التي بقيت في موقعها 70 عاماً، وأخذ الحدث طابعاً غريباً واستثنائياً عالمياً مقارنة بأحداثٍ خطيرةٍ تهدّد مصير العالم. وقد يعود تضخّم الحدث إلى أنّ هذه المرأة بقيت تحمل عرش بريطانيا كلّ هذا الزمن، وكانت تملك ولا تحكم. وشهد "حكمها" الطويل تبدّل عهود وتغيّر زعماء وأفول دول واندلاع حروبٍ مضطرمة وباردة، وبقيت سبعة عقود رمزاً لمملكة وريثة إمبراطورية كانت تحكم نصف العالم لا تغيب عنها الشمس. تمتد مراسم توديعها رسمياً وشعبياً عشرة أيام، ما قد يدعو إلى مقارنة الحدث بجنازاتٍ أخرى لملوكٍ ورؤساءٍ وأمراءٍ وشيوخٍ... إنّها دروس من التاريخ، فلكلّ بلد تقاليده وعاداته ومراسمه التي يلتزمها عند موت زعيم البلاد، فالجنازات أنواع، لكنّ الموت واحد. وفيما تتنّوع الأسباب، تتعدّد نهايات الزعماء، فمن حظي بموتٍ مشرفٍ نالَ شرف الجنازة في الدنيا، ومن حظي بموتٍ بائسٍ كأن نفيَ أو قتلَ أو سحل أو أعدم أو شنق أو... لم ينل عزّاً وتكريماً، وبعضهم لم يجد له قبراً. 
الجنازة تقليد طبيعي لدى كلّ البشر، وقد تطوّرت كي تكون رسمية وشعبية ودولية معاً، لها مراسمها في تشييع الزعماء والقادة والمبدعين المشهورين عبرَ التاريخ، وهي مظهر دنيوي اكتسب صفةً دينيةً لدى كلّ الشعوب. فالمراسم لا يمكن أن تكون إلا بأداء الصلاة على الميت، أو تأدية المناسك الخاصة في كلّ الأديان والمعتقدات... وهناك من يطيل في دفن الميت، ومن يسرّع لإكمال ذلك كما لدى المسلمين. الجنازات تُختصر بالتشييع، لكنّ المراسم اتّخذت لها برامج دنيوية أخرى، تخصّ أساليب التوديع وإلقاء النظرة الأخيرة والتطواف في أرجاء البلاد، كما في حالة مراسم رحيل إليزابيث الثانية.

قد تكون جنازة الملكة إليزابيث الثانية أفخم جنازة في القرن الواحد والعشرين، مقارنةً بجنازات زعماء وملوك ورؤساء سبقوها

عُرفت بريطانيا بتقاليدها الملكية في جنازات ملوكها وأمرائها، وحتى زعمائها الآخرين. ومن المثير جداً أنّ كلّ فرد من أفراد العائلة المالكة قد سُئل في حياته عن جنازته، فأقرّ ما يراه ليحفظ في سجل بذلك كما فعلت إليزابيث الثانية التي ما إن فارقت الحياة، حتى استخرج المجلد الخاص بأسلوب جنازتها، التي أقرّت أن تكون بريطانيا في حالة حزن عشرة أيام. وكما تتبّع العالم برنامج بريطانيا في كلّ الخطوات التي تنفّذها اليوم الاثنين 19 سبتمبر/ أيلول مرسومة منذ سنين خطوة خطوة، وقد وجدت نفسي قرب قصر بكنغهام بعد ساعتين من إعلان خبر الوفاة، فتدفّق الناس عند المساء تحت وابل من زخّات المطر. وخلال ساعات، امتلأت الساحة بكلّ كبير وصغير، وجدت كبار السن يحملون الزهور، ووجدتُ الشابات اليافعات، ومن بينهنّ صينيات وهنديات وأوروبيات يحملن القناديل والشموع. بعد يومين فقط، امتلأت شوارع القصر وحدائقه الغنّاء بالزهور والبطاقات الملوّنة، وقد كتبت بخط اليد مع رسومات وكلمات الوداع. قرأت بعض تلك الكتابات التي تعبّر عن عواطف ساخنة لرحيل ملكة بريطانيا التي عايشت ثلاثة أجيال. وبدأت المراسم المعروفة التي ستُختتم بالجنازة والتشييع بحضور معظم ملوك العالم ورؤسائه وأمرائه ضمن إجراءات تحدّدها الحكومة البريطانية، وقد تكون جنازة الملكة إليزابيث الثانية أفخم جنازة في القرن الواحد والعشرين، مقارنةً بجنازات زعماء وملوك ورؤساء سبقوها. وكان محمد حسنين هيكل قد وصف جنازة الملك حسين بن طلال في الأردن بأنها "جنازة القرن" في 7 فبراير/ شباط 1999، وقد سبقتها جنازة الرئيس جمال عبد الناصر التي وصفت في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1970 بأنها الأكبر في العالم، واعتبرها كثيرون "أعظم جنازة في التاريخ"، حيث حضرها ما بين خمسة وسبعة ملايين مشيّع في القاهرة، فضلاً عن رؤساء وملوك ووفود رسميّة دوليّة مع أمواج المواطنين المصريين. كذلك كانت جنازة الزعيم الصيني، ماو تسي تونغ، في 1976 مؤثّرة للغاية ومبهرة، وشارك فيها أكثر من مائة ألف مشيّع في ساحة تيان إن مين في بكّين.

بين جموع الناس المودعين للملكة إليزابيث الثانية، وعند قصرها الذي تحيط به الحدائق، عدة جنسيات وأعراق من البشر

ولم يحتكر الزعماء وحدهم الجنازات العظمى، بل كانت جنازة أم كلثوم في 1975 في القاهرة حدثاً هائلاً، وباقياً في الذاكرة العربية، إذ يعدّ علامة فارقة في حياة كلّ العرب الذين عاصروها. وقد شيّعها قرابة أربعة ملايين إنسان أطربتهم بصوتها، ليودّعوها، ولكن روحها مقيمة في إبداعاتها الخالدة. وكان المهاتما غاندي قد حظيَ في الهند بتشييع هائل، إذ تدفقت الملايين لتودّعه عام 1948. وسار الملايين من الكوريين الشماليين وراء جنازة رئيسهم، كيم إيل سونغ، ولكنهم خرجوا مجبرين على توديعه عام 1994. وكانت وفاة الأميرة ديانا أشبه بفاجعة مُني بها شعب بريطانيا، فضلاً عن محبة العالم لها، لما كان لها من مواقف إنسانية. وقد سار في جنازتها في لندن بعد وفاتها في باريس في 6 سبتمبر/ أيلول 1997 قرابة ثلاثة ملايين مشيّع، اصطفوا في الشوارع بحزن شديد، وامتلأت لندن بالزهور. وقدر عدد الذين حضروا جنازة البابا يوحنا بولس الثاني بين مليونين وأربعة ملايين في روما 2005. كذلك حظي نجم البوب الأميركي، مايكل جاكسون، بشهرة في حياته، فكانت جنازته خاصة، وقد راقبها العالم. واصطفّ قرابة مليون إنسان في لوس أنجليس لتقديم العزاء عام 2009. وهناك أسماء أخرى حظيت بتكريم استثنائي كبير، مقارنة بزعماء آخرين ماتوا ميتة مهينة، وكانت نهاياتهم مريرة، ولم يحظوا بأيّ تكريم أو تشييع أو أيّ تعاطف علني، أمثال لويس السادس عشر وقيصر روسيا نيكولاس رومانوف والسلطان عبد الحميد الثاني وأدولف هتلر وموسوليني والملك فاروق والملك فيصل الثاني ونوري السعيد وعدنان مندريس وعبد الكريم قاسم ومحمد رضا بهلوي وذو الفقار علي بوتو وتشاوشيسكو وصدّام حسين ومعمر القذّافي وغيرهم.
ما يثير الاستغراب حقاً، أن أجد بين جموع الناس المودعين للملكة إليزابيث الثانية، وعند قصرها الذي تحيط به الحدائق، عدة جنسيات وأعراق من البشر. وجدت فتيات صينيات ومن جنوب شرق آسيا، وشباباً من الأفارقة، ومن بلاد الكومنولث ومن أميركا اللاتينية ومن الأوروبيين المتنوعين، ومن الآسيويين هنوداً وعرباً وفرساً وأتراكاً وكرداً، في هذا الزمن الذي نسي العالم فيه الاستعمار والإمبريالية ودور بريطانيا. وجدتُ أطفالاً ومراهقين وشباباً وكهولاً وعجائز ونسوة يهرعن لوداع هذه الملكة التي لم يعرف البريطانيون وغيرهم من الأحياء غيرها رمزاً لبلادهم أولاً وللأنظمة الملكية ثانياً. وقبيل مشاركة زعماء العالم في التعزية والتشييع، حدّدت بريطانيا ضوابط أمنية وسياسيّة وإعلاميّة، بالنظر إلى ضخامة الحدث ونفقاته المذهلة.