الخروج من ثلاجة الموتى

الخروج من ثلاجة الموتى

31 مايو 2016
+ الخط -
كان يتعيّن على المحارب الذي خرج للتوّ من ثلاجة الموتى أن يقرّر إلى أيّ أطراف الصراع ينحاز، في دقيقة واحدة فقط، لأن الحرب المحتدمة حوله لن تترك له أزيد من ذلك، وإلا يجد نفسه ضحيةً، بدل أن يكون قاتلاً كما اعتاد.
نفض ثيابه من بقايا الجليد، على عجل، وراح ينظر إلى الأطراف المتحاربة من حوله، علّه يتذكّر الطرف الذي ينبغي له أن يلتحق به. لكن، من دون جدوى، لأنه فقد ذاكرته تماماً في ثلاجة الموتى، وتجمّدت معها كل معتقداته التي كان يؤمن بها سابقاً.
هو يتذكّر فقط أن صراعات أصحاب المعتقدات والنظريات تندلع عند النقطة التي يحاول فيها كل طرفٍ الاستحواذ على مساحةٍ من الأرض، تتلاءم ومعتقده الذهني، فأدخله قادته في أتون صراعاتٍ قديمة، للاستحواذ على مناطق نفوذ طائفيةٍ وسياسية، تتناسب و"عظم" الطائفة نفسها، التي كانت تتبرّم من صغر الكرة الأرضية في مقابل عظمة معتقداتها.
أوشكت الدقيقة على النفاد، والمحارب الخارج من ثلاجة الموتى ما يزال يمعن التفكير، ثم تنبّه إلى محاربين آخرين، يخرجون من الثلاجة نفسها، ويُشاطرونه حيرته. لكن، ما هي إلا لحظات حتى عادت الدماء تسري بحرارةٍ في عروقهم، والحماسة تتوهج على ملامحهم، ثم صرخوا بصوتٍ واحد: "إنها الحرب.. إنها الحرب"، ثم راح كل واحدٍ منهم ينخرط في صفوف أقرب طرف إليه، لا على وجه التعيين، لأن الهدف هو الحرب نفسها.
أيضاً، لم يكن مستغرباً، والحال تلك، أن يتبادل المحاربون سادتهم، حتى في ذروة المعركة، فكم من مرّةٍ ترك المحارب منهم خندقه، ليلتحق بخندق الخصم، لا عن قناعةٍ طائفيةٍ أو مذهبيةٍ، بل لتبدلاتٍ مصلحية على الأغلب، أو بحثاً عن حربٍ أخرى أشدّ ضراماً، وأفدح ضحايا، على غرار ما ذكره لورنس العرب في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة)، حين كان رجال القبائل المتحالفون معه يبدّلون ولاءاتهم بين الطلقة والطلقة، فتراهم يحاربون معه نهاراً، ويقاتلون ضده ليلاً، ثم تنعكس الحال صباحاً، ويعودون إلى القتال معه.
على الجانب الآخر، كان الالتباس الذي حدث مع المعنيين باستخراج جثث المحاربين من ثلاجة الموتى، متوقعاً، نظراً لأن حفظ الجثث كان يتم في مختبرٍ واحد، على اختلاف التوجهات السياسية والطائفية للمتحاربين، إذ كان الأجداد يعتقدون أن جثث المحاربين ستحافظ على معتقداتها، مهما تقادم الزمن عليها.
والحال أن ما كان يهم الأجداد المتصارعين على مناطق النفوذ الطائفي والمذهبي هو "حفظ المعتقد"، عن طريق "حفظ الجسد"، وهو ما قادهم، تالياً، إلى أن يكتشفوا مبكراً، وقبل علماء الغرب، الطريقة العلمية لحفظ السلالات، على اختلاف معتقداتها، من الاندثار، فابتكروا طريقةً ناجحةً لتبريد جثث المحاربين، وحفظها في الثلاجات، ومن ثم استخراجها، حين تأزف الحروب المستقبلية التي كانوا يؤمنون بحتمية اندلاعها، كونهم غرسوا بذورها بأنفسهم.
على هذا المنوال، حفظ الطغاة والمستبدون سلالاتهم، في ثلاجات الموتى، دفاعاً عن نوعهم، وكذا فعل الطائفيون والمذهبيون. لكن، في مختبرٍ واحد، وبجيناتٍ مشتركة، قيّض لها أن تنبت مجدّدا، في عروق المحاربين الجدد، وليتوزعوا تالياً على المناطق المرشحة للنفوذ في المزارع العربية، منها سورية والعراق واليمن وليبيا بالطبع، لكنها لن تكون آخرها حتماً.
عموماً، أسفر المشهد الحالي عن عبثيةٍ غريبةٍ، قوامها محاربون يبحثون عن حربٍ، أي حرب، من دون تعيين. المهم أن تكون حرباً، ولا بأس أن تغلف أحياناً بالملة والمذهب، ما دامت النتيجة فوضى في القتل والذبح والخراب والتدمير. وفي نظر هؤلاء، لا تتسع الأرض للجميع، بل لطائفتهم أو ملتهم أو معتقدهم فقط، ولا تختلف نظرتهم للجنة عن الأرض، لأنها، بالنسبة لهم، "منطقة نفوذ" خاصة بهم وحدهم.
ويبقى السؤال: ماذا لو عرف هؤلاء المتناحرون أن الأرض والجنة تتسعان للجميع، إلا لهم؟
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.