صالح العاروري في شُغلٍ عنكم

صالح العاروري في شُغلٍ عنكم

14 يناير 2024
+ الخط -

لا يحتاج صالح العاروري إلى بواكي من الأنظمة العربية التي تحفّظ معظمها على إصدار بيانات شجب واستنكار فوريّة عقب الاغتيال، لأن بكاءها لن يزكّيه عند خالقه، بل، على العكس، ربما يحمّله ذنبًا عليه أن يتطهّر منه قبل الحساب، فأن يبكي عليك حاكم عربيّ أو يمدحك أو يقرّبك منه فذلك يعني أن عليك أن تعيد حساباتك مع الله والشعب.

العاروري غنيّ بثورته، فقير بهم؛ لأنه طرازٌ من الرجال الذين يخشاهم الحكّام العرب، وينبذونهم، ولا يرحّبون بوجودهم بين ظهرانيهم، مقيمين أو ممثلين لحركات تحرّرهم، وغالبًا ما يطردون، وتسدّ الأبواب في وجوههم، إن كانوا قادة، أو يزجّون في السجون والمعتقلات إن كانوا أعضاء في التنظيم. بل إن دولًا عربية تحاكم مواطنيها الذين قادهم سوء طالعهم إلى "التخابر مع حماس". والتخابر هنا لا يعني التنسيق أو المؤازرة، أو تشاطر المبادئ نفسها، فالأمر قد لا يتعدّى، أحيانًا، مكالمة هاتفية بـ"نمرة" خاطئة مع عضو حمساويّ.

كيف، إذن، يُطلب، والحال هذه، من نظام عربيّ أن يرثي العاروري، أو يتحدّث عن مناقبه، ونضالاته، أو يدين قاتله (لا سمح الله)، إذا كانت هذه الأنظمة هي من ألدّ أعداء حركة حماس، باستثناء دولة أو دولتين تسمحان لها بتمثيل، وتستقبل بعض قادتها السياسيين على أرضها، مثل قطر ولبنان. وليس من المبالغة القول إن معظم هذه الأنظمة رقص لاغتيال العاروري، "الإنجاز" الذي قلّص من أعدائهم فردًا مهمًّا يُحسب له ألف حساب، ويقضّ مضاجعهم إن تحرّك أو تحدّث أو حتّى تنحنح، فهو نمط من الرجال الذين يثيرون الزوابع أينما حلّ وارتحل؛ لأنه لم يتخلّ عن بندقيّته، ولا تزعزعت ثوابته في مواجهة المحتلّ.

هذا الطراز هو عين ما يخشاه حكّام سلّموا أمرهم لتل أبيب، ورضوا بالخضوع والخنوع، وتبنّوا النظرية الصهيونية مبدأ وعقيدة.. ولنا أن نفهم بعد ذلك لماذا لا يهتزّ في أجسادهم عصب أو شعرة جرّاء دولاب المجازر الدائر في غزّة أمام أعينهم، لأن حماستهم بالقضاء على "حماس" أشدّ من نظيرتها لدى إسرائيل، ودوافعهم أزيد وأدهى، ليس أقلّها إجهاض فكرة الرفض في نفوس شعوبهم، والقضاء على الإحساس بأي رغبةٍ بالتحرّر والتمرّد لدى هذه الشعوب، على قاعدة "اضرب المربوط يخاف السايب".

لم يتحركوا لنجدة الغزّيين بسبب "العجز"، أو حرصًا على "السلام" والحيلولة دون توسيع رقعة الحرب، كما يحاول إعلامهم الرسمي أن يوحي دائمًا، بل لأنهم مشاركون فعليون في حرب الإبادة، ولأن مصير هذه المعركة سترسم مصيرهم ومصير عروشهم في المرحلة المقبلة، وليس نتنياهو بكاذب عندما يؤكّد أنه يتلقّى اتصالاتٍ عديدة من حكّام عرب يشدّون على يديه في هذه الحرب، ويطالبونه بمواصلتها، واجتثاث المقاومة في غزّة، فقد اختاروا خندقهم في هذه الحرب إلى جانبه، كما اختاروا "السلام" تحت قبضته، والنوم في فراشه، والصلاة في كنيسه.

شتّان ما بين العجز والتواطؤ، وما بين قلّة الحول وكثرة "الحيلة"، وما استشهاد العاروري غير كاشف جديد في هذه الحرب لدموع لم تعد تقوى عليها التماسيح؛ لأن فرحها الغامر باستشهاده غلب دمعها، والفرح في السرّ أصدق من الدمع في العلن. غير أن العاروري لا يحتاج دمعهم أو فرحهم، لأنه في شغل مع ملائكته، ومع أمنيته الني تحققت بنيله الشهادة التي "تأخرت كثيرًا".

وأمّا الدموع الصادقة، فهي تلك التي تنحدر الآن من مآقي المقاومين في خنادق غزّة، ممّن تربّوا على يد العاروري، أو تلك التي تسيل من عيني طفلةٍ تنتظر دورها لملء صحنها في ملاجئ النزوح.. لكنها دموع أعجل من أن تستقرّ في المحاجر، فالحرب التي أعلنها العاروري ورفاقه لم تزل محتدمة، وفلسطين أصبحت على بعد دمعة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.