هل لا تزال قضية فلسطين مستمرة؟

هل لا تزال قضية فلسطين مستمرة؟

19 مايو 2016
+ الخط -
تمرّ هذه الأيام الذكرى الثامنة والستون على نكبة فلسطين، كما اصطلحنا على تسميتها، ففي مثل هذه الأيام، وتحديداً يوم الخامس عشر من مايو/ أيار 1948، وهو اليوم التالي مباشرةً لإنهاء بريطانيا انتدابها على فلسطين، أعلن الصهيوني العتيد بن غوريون، من تل أبيب، قيام دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، وكانت الدولتان العظميان، في ذلك الوقت، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، أول من اعترف بذلك الكيان. في اليوم نفسه، اندلعت أولى جولات الصراع العربى الإسرائيلي العسكرية في ما عُرف بحرب فلسطين، والتي كان عمادها الرئيسي الجيشان المصري والأردني، تدعمهما قوات عراقية وعناصر من القوات السعودية، وقوات سورية، ووحدات من المتطوعين، خصوصاً من جماعة الإخوان المسلمين، وانتهت تلك الجولة بهزيمةٍ مأساويةٍ للجيوش العربية، أدت إلى تكريس وجود الكيان الصهيوني، والقبول الضمني به، من خلال عقد اتفاقيات هدنة ثنائية بين "دولة إسرائيل" وكل من مصر والأردن وسورية ولبنان، وهى دول الطوق المحيطة بإسرائيل، وكان ذلك بمثابة التدشين الرسمي لما عُرف بمصطلح "القضية"، أي قضية فلسطين التي أطلقنا عليها مسمياتٍ متعددة، اختلفت باختلاف السياق الذي كانت تتطور إليه، وباختلاف نظم الحكم العربية وتوجهاتها لتوظيف القضية، فهي تارة قضية العرب الأولى، وتارة قضيتهم المركزية، وتارة هي قضية الشرق الأوسط، أو الصراع العربي الإسرائيلي، وأخيراً ظهر اتجاه إلى اختزالها في "المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية".
ما يعنينا، هنا، أنه، وعلى مدى الأعوام الثمانية والستين التي هي عمر "القضية" وقعت خلال الأعوام الخمسة وعشرين الأولى منها، أربع جولات عسكرية بين أطراف عربية وإسرائيل، انتهت ثلاثة منها بنكبة في حرب 1948، وهزيمة في حرب 1956، ونكسة في حرب 1967، ثم جاءت حرب أكتوبر 1973، لتضع حداً لتلك الجولات من الحروب النظامية التقليدية، ولتنتقل بالقضية نقلةً نوعيةً حادةً وصادمةً في الوقت نفسه، تمثلت في ما عُرف بعملية السلام العربية - الإسرائيلية التي وضع ركائزها، وخطط لها، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركية إبّان حرب أكتوبر 1973، هنري كيسنجر، وكانت المفارقة الكبرى أن العرب الذين كانوا يرفضون أي حديثٍ عن أي عملية سلام مع العدو الإسرائيلي، بعد كل حربٍ من الحروب التي انتهت بهزيمتهم، في الحرب الوحيدة التي تحقق فيها نصر عسكري على مسرح العمليات، اتجهوا نحو عملية السلام التي خطط لها كيسنجر، حيث وصلت مصر إلى آخر محطات تلك العملية بعقد معاهدة سلام مع إسرائيل في مارس/ آذار 1973، والتي قبلت بالانسحاب من كل سيناء، ليرتفع علمها في قلب القاهرة، بينما اختارت سورية التوقف في منتصف الطريق. واكتفت بتوقيع اتفاقٍ للفصل بين القوات في مايو/ أيار 1974، مع استمرار الاحتلال الاسرائيلى لهضبة الجولان. ولحق الأردن بمصر، ووقع معاهدة سلام مع العدو الإسرائيلي، بعد أن أنهت ارتباطها بالضفة الغربية الفلسطينية، ليرتفع العلم الإسرائيلي في قلب العاصمة عمّان؟ كما اختارت منظمة التحرير الفلسطينية أن تلحق بالركب، ووقعت اتفاقية أوسلو في 1993 التي تمنح المنظمة صلاحياتٍ إدارية فى مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، كما بادرت القمة العربية، في مؤتمرها في بيروت في العام 2002، بتقديم مبادرة سلام شاملة، لا تطلب من العدو الإسرائيلي سوى الانسحاب إلى خطوط يونيو/ حزيران 1967 مقابل وضع حد للقضية؟ والمثير أن العدو الإسرائيلي رفض تلك المبادرة.
وبعد 68 عاماً من بداية النكبة، كانت قد توقفت جولات الحروب العسكرية التقليدية بين العرب والعدو الإسرائيلي، بينما استمرت بعض حركات المقاومة الفلسطينية متمسكةً بنهجها النضالي، وهي الأمل الحقيقي للأمة لتحرير الأرض، واستعادة الحق، ولكن بقيت "القضية" حاضرة، على كل من المستويات، العربي والإقليمي والدولي.
علينا اليوم، في هذه الذكرى، إعادة القراءة الموضوعية للمشهد العربي، وما طرأ عليه طوال تلك السنوات من متغيرات، وكيف انعكست تلك المتغيرات على "القضية"، وماذا فعل العرب بقضيتهم المركزية؟
ما أن وقّعت الدول العربية الأربع، والتي هي دول المواجهة، اتفاقيات الهدنة مع العدو
الإسرائيلى عام 1949، وهي مصر في 24 فبراير/ شباط، ولبنان في 23 مارس/ آذار، والأردن في 3 إبريل/ نيسان، وسورية في 20 يوليو/ تموز، من العام نفسه، ما أن تم التوقيع على تلك الاتفاقيات بشكل منفرد من كل دولة، حتى انطلقت الشعارات عاليةً، مدويةً تهز أركان العالم العربي، وتمحورت حول تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وطرد العصابات الصهيونية من الأراضي الفلسطينية، والتعامل مع إسرائيل في الخطاب الإعلامي، باعتبارها دولةً مزعومة؟ وتبارت النظم الحاكمة في تبرير هزيمة 1948 أمام تلك العصابات؟ بقضايا مثل قضية الأسلحة الفاسدة في مصر، وتخاذل القوات العراقية الداعمة للأردن، بحجة أنه " ماكو أوامر" لدى القادة العراقيين، وغيرها من المبرّرات التي كانت تتكرّر كثيراً عقب كل هزيمة عربية.
وتحت شعار تحرير فلسطين، وقضية العرب الأولى والمركزية، وقعت الانقلابات العسكرية في دولٍ عربيةٍ عديدة، وزاد تسلط تظم الحكم على تنوعها، بدعوى النضال من أجل "القضية"، وأنه لا صوت يعلو على صوت المعركة مع العدو الصهيوني؟
وفي السياق نفسه، سياق النضال من أجل القضية، نشأ تيار ثقافي عام تضمن عشراتٍ من مراكز الدراسات والمعاهد البحثية، وتخصّص مئات الباحثين في الشأنين، الفلسطيني والإسرائيلي، وأمتلأت المكتبات برسائل الماجستير والدكتوراه التي تتناول أبعاد "القضية" وتطورها. وكان للشعراء والأدباء والكتاب والمفكرين والفنانين، وغيرهم من المبدعين، دور كبير في التعبير عن تطور الصراع وأبعاده. وبطبيعة الحال، لا نقلل من أهمية ذلك كله، في الحفاظ على الزخم المطلوب للقضية.
وعلى الرغم من أن العرض على الجانب العربي لا يزال مستمراً، وإن خفّت وتيرته بعض الشيء، نتيجة التطورات التي صاحبت ثورات الربيع العربي والثورات المضادة، إلا أنه على الجانب الآخر، وأعني جانب العدو الإسرائيلي، كان الأمر مختلفاً. وفي تتابع مذهل، نفذ العدو الإسرائيلي مخططاً عدوانياً توسعياً بلا شعاراتٍ رنانة، ولا انقلاباتٍ داخلية حادة في حروب 48 و56 و67، وانتهاء بحرب 73، احتل كل فلسطين التاريخية، بما في ذلك القدس الشريف، وعقد اتفاقيات سلامٍ مع أهم دول الطوق، وهي مصر والأردن.
مرّت 68 عاماً منذ وقعت النكبة التي لا زالت توابعها مستمرة، ولا يزال بعض حكام العرب متمسكين بالحفاظ على القضية التي تحولت هدفاً في حد ذاتها، لأنه باسم "القضية"، عاشت نظم الحكم السلطوية، بعد أن تصدّر العسكر المشهد السياسي. وللمفارقة، باسمها أيضاً، تجرى أكبر عملية لتصفية القضية نفسها.
ولأن الطرف الصهيوني في معادلة الصراع مدعوم بقوى دولية وإقليمية كبرى، قرّر إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في طبيعة العلاقات مع الطرف العربي الرسمي، بتحويلها إلى علاقات جوار ومصالح مشتركة في مواجهة عدو مشترك جديد، وغير ملموس، وهو الإرهاب والخطر الإيراني. ووجد هذا التوجه قبولاً من نظمٍ عربيةٍ عديدة وجدت فيه مبرراً جديداً لاستمرارها، فهل يعني ذلك إسدال الستار على قضيةٍ شكلت وجدان أجيال عربية عديدة؟ وهل يصلح العدو الجديد ليكون ذريعةً لاستمرار نظم الحكم السلطوية والقمعية، أم سيكون للشعوب رأي آخر؟

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.