المَساعيد... قرية تونسية مَنسية

المَساعيد... قرية تونسية مَنسية

04 أكتوبر 2016

من أهالي المساعيد في القرية (العربي الجديد)

+ الخط -
في المساعيد، وهي قرية في ريف القيروان، يراقب عم صالح بقلبٍ كسير، وعينٍ دامعة دجاجاته التي تموت عطشاً، وبقراته التي تتضوّر جوعاً، ولا يكاد ينبس بكلمةٍ من شدّة الإحساس بالإحباط والقنوط، وعبثاً أحاول دغدغة صمته ومساءلة وجهه الشاحب. يقول بصوت متهدّج: "يا ولدي، نحن لم نطلب المستحيل... نريد حنفية ماء في كل منزل... نريد أن نشرب ماءً مثل بقية الناس، نريد لشويهاتنا أن ترتوي مثل شويهات العالم... أغلقوا البئر العموميّة منذ سنوات، لأسبابٍ لا أعلمها، وحالوا بيننا وبين شرب مائها العذب، فأصبحنا كاليتامى نتهافت على آبار بعض الخواص من الفلاّحين الذين نشتري من عندهم ماءً قد نجده وقد لا نجده... باعت الدولة ماءنا للشركات الكبرى، وتركتنا للعطش ... في بيوتنا، لا توجد حنفيّة ماء واحدة... ونضطرّ إلى الذهاب أميالاً لنظفر بشيء من الماء، نُقيم به قوتنا ونضمن به معاشنا".
على امتداد الطريق المتهالكة التي تصل بين أجزاء القرية، وهي مسلك فلاحي تهرّأ إسفلته، ولم يتم تعهّده بالتعبيد والصيانة من زمن بعيد، يزدحم أطفالٌ ونساءٌ وشيوخ على حنفيّة عموميّة أو إثنتين، يأتون من كل فجّ عميق، يمتطون أحمرتهم، ومعهم خزّانات ماءٍ كبيرة أو صغيرة، ينتظرون ماءً قد يأتي وقد لا يأتي ألبتّة. كانت وجوههم مكدودةً من شدّة التعب، وجباههم تتصبّب عرقاً من شدّة الزحام والحرّ، ومن وطأة شظف العيش في قريةٍ أحبّوها واختاروا البقاء فيها، على الرغم من المصاعب والمكاره، لأنّ فيها ضيعاتهم، وديارهم، وشويهاتهم، وأشجارهم.

بادرني أحدهم بالسؤال، وقد رأى في يديّ قلما وآلة تصوير، هل أنت صحفي؟ قلت: نعم، قال: هاذي غْريبة والله !!هاذي بدعة أوّل مرّه تْصير... نحن منسيّون من زمان، يا صاحبي... لا يلتفت إلينا الإعلام، ولا نظهر في التلفزيون، ولا تكتب عنّا الأقلام... لأنّها مشغولةٌ بمطالب الأحياء الراقية، وبأبّهة المدن الكبرى... أمّا نحن فالوجه الآخر لتونس الخضراء، بل نحن وجهها الخفيّ المغيّب ... تصوّر، لا يزورنا من ذوي المكانة سوى السّاسة الذين يأتون القرية من موسم انتخابي إلى آخر ثم ينصرفون... يقدّمون لنا وعودًا ورديّة بالتنمية، وتحسين الحال، ويحدّثوننا عن منجزاتٍ وهميّةٍ، وعن إصلاحاتٍ قادمة كاذبة، وينصحوننا بالصبر والأمل، ثم يرحلون إلى غير رجعةٍ، وكأنّ شيئاً لم يكن ... وكأن شيئا لم يُقَلْ... .
ويقول محمد الصغير الجليبي (محامي) "طالت معاناة أهل القرية على مدى سنين من قيام دولة الاستقلال، فلا شيء تطوّر، ولا شيء بعد الثورة تغيّر، مازالت ظروف العيش صعبة، وحتى المرافق الأساسيّة لضمان العيش الكريم غير موجودة. وعلى الرغم من وجود المساعيد في موقع سهلي استراتيجي بين أربع مدن (حفوز- العلاء - الوسلاتيّة - مكثر)، فإنها لم تنل حظّها من التنمية، ولم يتم وصلها مع بقيّة الحواضر بطريق معبّدة، واسعة ومهيأة على أحسن وجه، حتى أنّ الأهالي يجدون صعوبةً في الحركة وفي التداوي وفي جلب الماء وتدريس الأبناء، وغير ذلك من المتاعب كثير".
في المساعيد، لا توجد حافلات، ويمشي الأطفال أميالا على الأقدام، أو يركبون سيارات النقل الريفي، ليدركوا مقاعد الدّراسة، ولا توجد على الطريق الرّئيسيّة الوحيدة أعمدة تنوير كهربائي. ولا تجد في المساعيد مكتبة عموميّة واحدة، ولا ملعب كرة قدم، فقط بعض المقاهي القليلة المزروعة على الطريق، والفارغة من روّادها غالبًا. أمّا مستوصف القرية، فلا يُفتح إلّا مرّة في الأسبوع، ولا يوجد فيه من الكادر الطبي سوى ممرّض واحد وطبيب واحد، لا يظهر سوى مرّة في الأسبوع، والدواء قليل وليس في القرية صيدلية واحدة. أمّا مسجد المساعيد فبدأ تشييده زمن الحبيب بورقيبة، ولم يكتمل بناؤه، بل ظلّ مجرد جدران بلا سقوف، فتحوّل على التدريج إلى مصب للفضلات، ومرتع للحيوانات والمفسدين.
أمام هذه التقصير الفادح في توفير أسباب العيش الكريم لشباب القرية، لا تستغرب أن تسمع، من حين إلى آخر، بانتحار شاب أو طفل، ولا تعجب من نزوح الأكفاء من أبناء القرية إلى المدن الكبرى. وفي هذا السياق، يقول نجيب مختاري (مدير مدرسة): "على الرغم من الظروف الصعبة، أُقيم هنا، وأعمل في القرية. لكن شباباً كثيرين أكفاء اضطرّوا إلى مغادرتها، لعدم توفر المرافق الحياتيّة الضرورية، ولعدم وصل منازل الأهالي بشبكة توزيع المياه، ولندرة وسائل النقل والمؤسسات الصحيّة". ويردف جمال بصيلي (قيّم بالإعدادية): "على الرغم كم أنّنا نحبّ هذه الأرض، لم تبذل الدولة جهدا لاستبقاء الشباب فيها، فلا مواطن الشغل ولا أماكن التثقيف والترفيه موجودة، وحتى الربط بشبكة الهاتف الجوّال رديء هنا، ولم تصل إلينا شبكة الإنترنت بعد".
على الرغم من بهاء الطقس وهدوء المكان، وامتداد السهول وشموخ أشجار الزيتون، تشعر في المساعيد أنّك خارج التاريخ وخارج الجمهورية، وأنّك مواطن تونسي من درجة ثالثة، مقطوع عن العالم، ومنسي، بل منسوخ، من ذاكرة وزراء الفلاحة والصحة والتجهيز والنقل، ومنسوخ من ذاكرة نواب مجلس الشعب والأحزاب وسلطان البلاد.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.