في احتكار المقاومة والفضيلة

في احتكار المقاومة والفضيلة

12 سبتمبر 2015
+ الخط -
تقول الحكاية إن زيداً وعمراً جاعا يوماً، فعزما السَطوَ على بستان تفاح. حمل زيدٌ عمراً على كتفيه، ودخلا أرض البستان، وشرع عمرٌ يقطف التفاح، ثم سارعا بالخروج بالهيئة نفسها التي دخلا بها. ليمثلا، أخيراً، أمام القاضي الذي طلب منهما، في غياب أدلة قاطعة تدينهما، حلف اليمين. فحلف عمرو بأن قدميه لم تطآ أرض البستان، وحلف زيد أن يديه لم تمسا تفاحا داخل أسواره. ولولا ذكاء القاضي، لانتهت القصة بهزيمة العدالة. 

لسنا هنا بصدد واقعة سَطو، لا سيما أن من نحن بصدد الحديث عنهم هم من أهل البستان وشركاء فيه أُصلاء. لكننا أمام المبدأ نفسه الذي تقوم عليه تلك الحكاية التراثية، لعلّي أسميه "الكذبة الصادقة". هي كذبة، لأنها لا تعكس الواقع على حقيقته، وهي صادقة، لأنها فقط تريد أن تبدو كذلك، عبر تخريج لفظي، يعيد تركيب الوقائع لتتطابق معه.
هذا النوع من الكذب الصادق، تمارسه حركة حماس في غزة. فبعد "الكذبة الصادقة"، حول تغيير اسم مدرسة غسان كنفاني إلى مرمرة، مجدداً، يشتكي بعض أهالي غزة، ويحتج ناشطوها، وحماس تنفي. فبعد نفيه وجود أي قرار يفرض ارتداء الحجاب في مدارس البنات الثانوية، رأى وكيل وزارة التربية والتعليم، زياد ثابت، أن من حق مديرة المدرسة منع أي طالبة من دخول الصف، إذا كان "شكلها غير مقبول"، محجبةً كانت أم لا. بينما أكد مندوب الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، وولي أمر إحدى الطالبات، أن مديرة مدرسة أحمد شوقي أصرّت على منع ابنته من حضور الحصص الدراسية، لا بسبب شكلها غير المقبول، بل لعدم ارتدائها الحجاب.

منذ سيطرتها على القطاع، اتهمت "حماس" بالسعي إلى أسلمة المجتمع الفلسطيني، وأنها تتخذ إجراءات تحد من الحريات الشخصية والعامة. وفي العام 2009، وبعد يوم من نفي قاطع من الحركة ومسؤوليها هذه التهم، أطلقت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، في 26 يوليو/ تموز، حملة "نعم للفضيلة"، رأى المشرفون عليها أنها تهدف إلى الحث على الأخلاق الحسنة وارتداء الفتيات للحجاب، لكن عدداً من أهالي غزة اشتكوا من قسرٍ وإكراهٍ من ناشطي الحملة، كأصحاب المحلات التجارية المتخصصة بالـ"لانجري"، مرتادي شاطئ غزة ومقاهي الإنترنت، وغيرهم. ولم تأتِ تلك الحملة تماشياً مع أيديولوجيا حماس التي يضغط أنصارها لتكريسها في المجتمع الفلسطيني، وحسب. بل، أيضا، من باب المزايدة على التيارات السلفية، المتنامية في غزة تحت جناح تلك الأيديولوجيا، أو استرضاءً لها، لا سيما أنها أتت بعد أيام من اشتباكات بين "حماس" وحركة جند أنصار الله.
وفي 27 يوليو/ تموز من العام نفسه، استنكر بيان صحافي صادر عن سبع جهات حقوقية قراراً لرئيس مجلس العدل الأعلى في غزة، يفرض على المحاميات ارتداء الحجاب، وعدّه "مخالفاً الأصول الدستورية والقانونية". وبالإضافة إلى الجامعة الإسلامية في غزة، بدأت جامعات وكلياتها فرض الحجاب ضمن الحرم الجامعي، مثل جامعة الأقصى. وأخرى، بإصدار قوانين صارمة تحدد معايير اللباس "المحتشم" المسموح به.
أما العام الدراسي 2009 ـ 2010، فبدأ بقرار صادر عن وزارة التربية والتعليم، يقضي بإلزام الطالبات في المدارس الحكومية (الثانوية) بارتداء الحجاب. وقال مدير التربية والتعليم لغرب غزة في حينه، محمود أبو حصيرة، في تصريح منسوب له، إن المديرية ألزمت الطالبات بارتداء الزيّ الشرعي، وإن "الإسلام يفرض على الفتيات ارتداء الحجاب والسترة"، لكن موجة عارمة من الاحتجاجات جعلت وزارة التربية، كعادتها، تنفي صدور قرار مماثل، مع اعتراف وكيلها يوسف إبراهيم، أن قراراً "غير مباشر"، حسب وصفه، بتأنيث مدارس البنات اتخذ، لكنه لن يطبّق كاملاً، فهناك مدارس ستحتفظ بمعلمين ذكور، وأخرى ستخلو منهم.
يبدو أن قرارات عديدة لحكومة غزة، لا سيما المتعلقة بقطاع التربية والتعليم، هي من ذاك النوع "غير المباشر"، والذي يعني، في النهاية، استصدار قرار، ورصد ردود الأفعال، ثم نفيه بغرض التمويه عليه، وتوكيل مدراء المدارس بتمريره بعد التنصل منه، باعتباره اجتهاداً شخصياً لا يتعلق بسياسة الوزارة.

تدرك حكومة حماس، حين تمارس هذا النوع من الكذب الصادق، واقع التنوّع في المجتمع الغزّي، على الرغم من محاولتها تصويره مجتمعاً "إسلاموياً" على قد أيديولوجيتها. وهي تخشى ردود أفعال فلسطينية ودولية، إذا ما طبقت أحكام الشريعة في غزة، لكنها تتعرّض لضغوط أنصارها، واتهامات الحركات السلفية الجهادية المشككة في تمثيلها "الإسلام الصحيح"، بسبب عدم جديتها في تطبيق أحكام الشريعة. ويبدو اليوم أن صراعاً اجتماعيا هو على أشده، على الرغم من ظروف الحصار الخانق، والعدوان الإسرائيلي المتكرر على القطاع، في ظل عدم قدرة حماس على التوفيق بين الأيديولوجي والوطني.
قبل أيام، أثار أنصار "حماس" ضجة واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي، حول معسكر للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تم بانتهائه تخريج عشرات الفدائيات، لكن سفورهن كان كافيا لدى هؤلاء لنفي الفضيلة عنهن، وطالبوا الحركة بعدم السماح لتكرار تلك المظاهر التي لا تمثل، برأيهم، الشعب الفلسطيني وتاريخه النضالي. يبدو أن "حماس" نجحت في مصادرة بعض الذاكرة الفلسطينية، أقله ذاكرة أنصارها، بحيث يبدأ تاريخ الشعب الفلسطيني مع "حماس"، وربما ينتهي به أيضا. ومعها أيضا تبدأ، لا المقاومة واحتكارها فحسب، بل الفضيلة أيضا. وربما لو كانت عهد التميمي (14 عاما) من المحجبات، لرأينا اهتماماً يتجاوز مجرد مجاراة الشعور الفلسطيني العام، من إعلام "حماس"، بتلك الفتاة وبنموذج المقاومة الشعبية السلمية في قرية النبي صالح التي شكلت التميمي جزءاً منه.
لم يكن الشعب الفلسطيني عديم الفضيلة قبل "حماس"، ولن يخلو بعدها، مثل غيره من شعوب الأرض، من الرذائل. لكن، لا يمكن لأحد أن يمارس دور الرب على الأرض، فيشيطن بعضهم ويجعل آخرين ملائكة. فحتى السذّج لم يعد في الوسع إقناعهم بأن الحجاب دائما رمز الفضيلة، وأن السفور دائما رمز للفسوق. لكنه، أي الحجاب، بات مدخلاً للسيطرة على المرأة الفلسطينية، ومصادرة إرثها النضالي والتحرري، وما حظيت به من مكانة مميزة في المجتمع الفلسطيني. وبالتالي، إحكام السيطرة عليه أيديولوجيا.
سيزداد الصراع الاجتماعي الفلسطيني تفاقماً، إذا لم تحسم "حماس" موقفها لصالح الوطني، متضمناً الشراكة والتعايش، على حساب أي أيديولوجيا إقصائية. وإذا كان تقرير أممي، صدر أخيراً، حذّر من استمرار التوجهات الاقتصادية الحالية التي قد تحوّل قطاع غزة، خلال خمس سنوات، مكاناً غير صالح للعيش، فإن ما هو أشد خطورة أن يحوّل هذا الصراع الاجتماعي القطاع إلى مكانٍ لا يصلح للتعايش. "حماس" مطالبة بقدر أكبر من الشفافية، تُضيّق الهوة بين تصريحاتها وممارساتها. أوليس في ذلك أيضا فضيلة، لا تقل فضيلة عن الحجاب؟ فكما أنه لا حقيقة لوجود كذبة بيضاء، لا توجد كذلك كذبة صادقة.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.