عزيزي عزيز.. كل مائة عام وأنت طيب

عزيزي عزيز.. كل مائة عام وأنت طيب

20 ديسمبر 2015

خصوم نيسين أحاطوه بستار من التعتيم بعد وفاته (أنترنت)

+ الخط -
في مثل هذا اليوم، قبل مائة عام، ولد كاتبي المفضل، الكاتب التركي الكبير عزيز نيسين، تعرفت عليه مصادفة، قبل 25 عاماً، حين اشتريت بتراب الفلوس من سور الأزبكية أعداداً قديمة من مجلة "لوتس" التي كان يصدرها اتحاد الكتاب الأفرو آسيويين، فقرأت في بعضها قصصاً مترجمة له، قبل أن أعرف أن ذلك الاتحاد الذي كان نشيطا في ستينيات القرن الماضي، دعاه لزيارة مصر وسورية والإقامة فيهما فترة قصيرة، وقد اكتشفت في آخر زيارة لي لتركيا عام 2013 أنه كتب عن الزيارتين كتاباً، من الغريب أنه لم يُترجم، على كثرة ما ترجم له إلى العربية، خصوصا على أيدي مترجمين سوريين، كما وجدت في زيارة سابقة كتاباً ضخماً صدر يضم مراسلاته مع ابنه علي، وقد اقتنيت الكتابين على أمل أن يطلبهما مني مترجم متخصص في اللغة التركية، فيساعد على وصولهما إلى محبي عزيز نيسين من قرّاء العربية، والذين تتزايد أعدادهم، بدليل الطبعات التي لا تنتهي من أعماله المترجمة إلى العربية، لا أدري إذا كانت تركيا ستحتفل رسمياً بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد عزيز نيسين، أم أن الصخب السياسي المتزايد سيغطي على مناسبةٍ كهذه. لكن ما أنا متأكد منه أن كاتباً عظيماً مثل عزيز نيسين لا يخص فقط بلده تركيا وشعبها، بل يخص قراءه في كل بقاع الأرض، وهم أولى بالاحتفال والاحتفاء به، تقديرا لما منحهم من متعة وبهجة وإلهام، وهذا إقرار مني شخصياً بذلك، أتوقع أن تشاركني فيه.  

(1)            

"بين حين وآخر يسألني الكثيرون: كيف تكتب بهذه الكثافة؟ يقولون إن هناك جنيات وساحرات يلهمن الكتاب والفنانين... عن نفسي، لا أملك ساحرة إلهام، لكنني أملك جنية إلهام وغول إلهام، جنياتي لا يشبهن البشر أبداً، إنهن يمتلكن عشرة بالمائة من الإنسانية، وتسعة بالمائة من أشكال الوحوش. جنياتي لا يعشن فرادى، بل على شكل قطعان، الساحرات منهن قبيحات الشكل والمنظر، والجنيات رائعات الخُلق والخَلق، الساحرات يضربنني والجنيات يمسدن شعري وجسدي، جنيات الإلهام وساحرات الوحي، عندما يهمسن في أذن الفنان، يلهمنه ويفتحن أمامه أبواب الفن والإبداع، ولكن ساحراتي وجنياتي يتعلقن على ظهري دائما ويضربنني كالوحوش ويصرخن في وجهي. هيا اكتب، لا تتوقف اكتب. لماذا أنت متوقف هكذا؟ من سمح لك أن تنام؟ هيا استيقظ. لا تجلس هكذا. هيا تحرك بسرعة. لا يحق لك أن تمرض أو تكتئب أو تتوقف. هيا تحرك. اكتب... إذا لم أكتب. ماذا أفعل يعني؟ من زمان، تعلمت أن لا شيء يلهم الإنسان، ويدفعه إلى العمل الزائد مثل الحذاء المثقوب... عندما أنظر إلى المروج الخضراء الندية، أتمنى التمدد فوقها طولاً وعرضاً، حتى لو لحظات. لو أستطيع المشي حافياً فوق الرمال. أحس وكأن تعب السنين الماضية من حياتي سيغرق في جوف الأرض، سيأتي يوم أرتاح فيه نهائياً. ولكن، مع الأسف، لا أعرف إذا كنت سأرتاح فيه من التعب أم لا. عندما يسألني أحدهم كيف تستطيع الكتابة بهذا الشكل؟ أشعر حقاً بغضب خفي مفاجئ، كأننا نكتب على كيفنا. نكتب لأننا في ضائقة. في فاقة. ولكن، لو حصل شيء لا يمكن تصديقه، وولدت مرة ثانية، وجئت إلى الحياة مرة أخرى، لن أستطيع اختيار سوى هذه الطريق، أظل هكذا، أتمنى الرحيل سعيداً من تعب هذا العمر اللذيذ. أكتب بمواضيع مختلفة. أبحث في أمور كثيرة، وأبدع في متاهات الأدب المختلفة، وأعتقد أن سبب ذلك يعود إلى معاشرتي جميع طبقات المجتمع عندنا، وعملي بائع أحذية وراعياً وجندياً ومحاسباً ورساماً وبائع صحف وماسح أحذية وبقالاً وحلاقاً وكاتباً صحفياً، أما البطالة فقد كانت من أصعب المسالك على الإطلاق".

كنت سأصبح في منتهى السعادة والفخر لو كنت أنا الذي كتبت السطور السابقة المليئة سحراً وهماً وشجنا، لكنني لست الذي كتبها للأسف، بل كتبها الروائي والقصاص والمسرحي والصحفي والساخر التركي العملاق، عزيز نيسين، أستاذي ومعلمي وملهمي وأحد آبائي العظام، والذي لطالما سألت الله عز وجل مخلصاً أن يعينني على ترك صحيفة أعمال باهرة مشرفة مشرقة، كالتي تركها، أو أفضل من التي تركها، فعشمي في الله كبير.

اختار عزيز نيسين هذه السطور لكي يُصَدِّر بها سيرته الذاتية غير المكتملة "هكذا أتينا إلى الحياة"، أي أنه أراد أن تكون مدخل القارئ إلى التعرف عليه واحداً من أغزر الكتاب إنتاجا في العالم وأكثرهم رواجا وتأثيرا وترجمة، فقد رحل تاركاً خلفه مائة وعشرين كتاباً، صدرت جميعا في حياته التي دامت ثمانين عاماً من الحرمان والعطاء والصخب والعنف والسخرية والإنسانية، فضلا عن كتب أخرى، يتم نشرها حتى الآن، بعد جمعها من تراثه المديد الذي تركه في عشرات الصحف والمجلات التي كان يكتب فيها بأسماء مستعارة سنوات طويلة، تم منعه فيها من الكتابة لأسباب سياسية، تعددت بتعدد الحكام الذين سجنوه أو نفوه أو منعوه من الكتابة.

قد يُذَكِّرك هذا العدد الضخم من الكتب الذي تركه عزيز نيسين خلفه بكُتّاب من بني جلدتنا يكتبون على روحهم كتباً مليئة بالهذر والنقل من الكتب العربية والأجنبية، ليس فيها إبداع أو ابتكار، وقد تظن كتب عزيز نيسين من هذا النوع، لكنك ستذهل، عندما تعرف أن كل ما تركه نيسين خلفه كان أعمالا إبداعية أصلية، ما بين رواية وقصة قصيرة ومسرحية وسيرة ذاتية ومسرحيات وقصص للأطفال، وللأسف، لم يترجم منها إلى العربية سوى أقل من نصفها.

(2)            

عزيز نيسين ليس هو الاسم الحقيقي للرجل، فاسمه الحقيقي محمد نصرت، وقد اختار لنفسه

اسماً مستعاراً، هو عزيز نيسين، ليكتب به في الصحف، عندما كان طالبا في الكلية العسكرية، حيث كان ممنوعا على العسكريين أن يكتبوا في الصحف، فما بالك به، وهو ينشر قصصا ومقالات ساخرة، ولأنه "فقري" من يومه، فقد اختار لنفسه هذا الاسم الذي يعني بالتركية "ماذا أنت؟"، أي أنه على حد تعبير أحد مترجميه، فاروق مصطفى، اختار كنية يسخر بها من شخصه، ويعتبر نفسه نكرة، فيوجه إليها تساؤلاً هازئاً مستخفاً بصيغة غير العاقل "ما أنت أو ماذا أنت؟"، وربما كان ذلك مدخلاً يساعدك على فهم شخصية هذا الكاتب العظيم.

لا ألومك ألبتة، إذا كنت لم تسمع بعزيز نيسين من قبل، فثمة جهل مطبق لدى كثير من مثقفينا ونقادنا به، فهم لا يقدّرون عادة إلا من يجد تقديراً في الأوساط الغربية التي نستهلك كل ما تصدره لنا، حتى لو كان نطيحة أو متردية أو منخنقة، وكم أخذ الواحد فينا من مقالب طنطن لها النقاد طويلاً، وأطنبوا في تمجيدها وتفخيمها، ولم نجد منها ما يروي ظمأ، أو يشفي غليلا.

ليس التجاهل الغربي للرجل الذي كان معروفاً بميوله اليسارية المتطرفة، والمعادية للغرب، وحده الذي كان وراء التعتيم عليه، بل كان ظلم ذوي قرباه في تركيا أشد مضاضة عليه، فقد عاش الرجل حياة كلها معارك وصراعات سياسية وأدبية، وكان لديه من الاعتداد بنفسه ما يجعله لا يصمت على ما رآه في زمنه من نفخ لكُتّاب "مديوكر" محدودي الموهبة، لأن لديهم انتماءات سياسية، أو شللا نقدية، أو تربيطات حزبية، جعلتهم ينالون ما لا يستحقونه من الاحتفاء والتقدير. أخذ يسلق نقاد زمنه بألسنة حداد، في أعمال أدبية ساخرة، رصد فيها تناقضات المثقفين والكتاب الأتراك، الذين لم يرحموا الرجل في حياته، فكانوا يصفونه، تحقيراً واستخفافاً، بكاتب النكات أو الكاتب الهزلي، في حين اعتز به مثقفون أتراك آخرون، في مقدمتهم ديمرتاس سيهون، والذي كتب عنه كتابا أسماه "جحا عصرنا عزيز نيسين"، ربط فيه بين القيمة الرفيعة التي حظي بها نصر الدين خوجة، أو جحا في تاريخ الأدب العالمي، والقيمة التي قدمها عزيز نيسين في كتاباته وقصصه الساخرة.

 سخريات نيسين من الأدباء المسيسين المحدودي الموهبة لم تجعله يسلم من عداء أغلب نقاد عصره، بل إن أغلبهم لم ينسوا له هجماته اللاذعة ضدهم، فأحاطوه بستار من التعتيم والتجاهل بعد موته، ما أدى إلى تناقص حاد في مبيعاته بعد رحيله عام 1995، بعد أن ظل أكثر من خمسين عاما أعلى كتاب تركيا مبيعا. أعترف أنني من فرط عشقي الرجل، صدمت حين ذهبت إليها أول مرة بعد رحيله بعشرة أعوام، فقد كنت أظن أنني، بمجرد نزولي إلى أرض تركيا، سأجد ملايين الأتراك يقرأون كتبه، ويحفظونها عن ظهر قلب، كنت قد قرأت عن المؤسسة الخيرية التي أقامها في اسطنبول للأطفال الأيتام، والتي أوقف عائدات كتبه من أجلها، بل وأصر على أن يدفن فيها. وكنت أظن أن الرجل من الشهرة بمكان، بحيث لا يخفى مكان مؤسسته على أحد، لكنني فوجئت أن أغلب من أسألهم عنه، وبعضهم مثقفون وجامعيون، لا يعرفون شيئاً عنه، وبعضهم سمع به أو قرأ فقط بعض قصصه للأطفال، وبعضهم شاهد أفلاماً سينمائية كوميدية مأخوذة عن روايات له. أحبطني ذلك جداً إلى درجة أن سؤالي عن الرجل اتخذ شكلاً من الهوس، فأخذت أراهن زوجتي على كل شخص ممن نقابلهم بأنه سيكون لا محالة ممن يعرفون الرجل، وكنت أخسر الرهان كل مرة، ثم جاءت الصدمة الكبرى عندما دخلت إلى أكبر مكتبات اسطنبول في شارع الاستقلال في منطقة تقسيم الشهيرة. وجدت عزيز نسين معروفا هناك، لكنني صدمت عندما لم أجد كتبه ضمن الأعمال الأدبية، بما فيها الشعبية الرائجة، بل وجدتهم يضعونها ضمن قسم اسمه بالتركية "مزاح"، وهو مصطلح عربي، انتقل إلى اللغة التركية، وبات يطلق على كتب التسلية أو الكتب الساخرة، بحيث تتجاور كتبه مع كتب النكت والطرائف والنوادر، ما يعني أن أعداء نسين وخصومه وحاسديه نجحوا، أخيراً، في تصنيفه كما رغبوا تماماً، وفرضوا ذلك الذوق على أصحاب المكتبات، حتى لو لم ينجحوا في فرضه على معجبي عزيز نيسين الذين أجبروا مكتبات قليلة على تخصيص أماكن خاصة لكتبه، من دون تصنيف محدد لها.

وأنا أتأمل كتب عزيز نيسين في موقعها القصي في مكتبات اسطنبول الرفيعة، شعرت بضيق

شديد، ليس فقط لأنني أدركت أنه لا كرامة لنبي في وطنه، وأننا ورثنا عن الأتراك أشياء كثيرة، منها عدم تقدير مبدعينا حق قدرهم، بل لأنني أدركت مأساة الكاتب الساخر في المجتمعات المتخلفة، أو التي لم تصل إلى درجة رفيعة من التقدم بعد، قارنت بين مصير مارك توين أو برنارد شو وغيرهما من الكتاب الساخرين، وبين مصير عزيز نيسين في تركيا، ومصير كاتبنا الكبير محمود السعدني الذي تعامل معه النقاد والمثقفون في بلادنا بخفة وتعالٍ، ولم يقدروه حق قدره، مع أنني أعتبر مثلاً رباعية الولد الشقي التي كتبها من أعظم الأعمال الروائية وأصدقها وأكثرها إمتاعاً وأهمية، لكن النقاد للأسف احتفوا بأعمالٍ أقل موهبة وتميزا منها، لأسباب تبدأ بالشللية الأدبية، وتنتهي بأذواقهم المريضة فعلاً. أخذت أستعرض أوجه الشبه بين عزيز نيسين ومحمود السعدني، سواء من حيث الحياة الحافلة المدهشة، أو المعاناة التي عاشها كل منهم ليبقى على قيد الحياة، فضلا عن أن يحقق تلك الشعبية الكاسحة لدى القراء، ثم أخيراً التجاهل شبه التام للرجلين من النقاد والمثقفين والأجهزة الثقافية الرسمية، على الرغم من كل ما حققاه من نجاح.

(3)            

 لم أتمالك نفسي من البكاء، وأنا أطالع كتب عزيز نيسين المطبوعة طباعة فاخرة، والتي يوجد خلف كل منها صورة له مع الأيتام في مؤسسته الوقفية، لتذكير القارئ بأن عائدات الكتاب ذاهبة لهم. تذكرت وأنا أشاهد صوره مع الأيتام ما أذهلني وأسرني وزاد غرامي به، وهو يتحدث عن ما دفعه لكي يتخذ خطوة إنسانية نبيلة كهذه. يقول في إحدى حواراته الصحفية التي يظهر فيها الفرق بين الأديب الذي لا ينفصل أدبه عن حياته الشخصية وأدباء الثرثرة والتنظير: "عشت طفولة معذبة في ملجأ للأيتام، وأعتقد أن حياتي كلها من صنع هذا الملجأ، فلولا رعايته، لما كان هناك عزيز نيسين. لذلك، مهما فعلت من أجل مؤسسات الأيتام، لن أسُدّ بعض الدين الذي لها في عنقي. خطرت فكرة إقامة الملجأ ببالي عام 74، فقد أدركت حينها أن الجلوس مع هؤلاء الأطفال وتربيتهم وتوفير الحماية الاجتماعية لهم، وإشعارهم بإنسانيتهم، أهم بكثير من التسكع في الشوارع، أو الجلوس على المقاهي من أجل الثرثرة، أو ارتياد الحانات من أجل الشرب. لذلك، اشتريت سبعين ألف متر مربع، وأقمنا عليها خمسة أبنية من سبعة أبنية سيتم إنجازها مستقبلا، وقد خصصت لدعم هذا الملجأ ريع تسعة وخمسين كتاباً من كتبي، كان قد بيع منها حوالي أربعة ملايين نسخة وكانت ستوفر للملجأ دخلاً لا بأس به".
استبد بي الشوق لزيارة مؤسسة عزيز نيسين، وقراءة الفاتحة على قبره، وزيارة المتحف المصغر المقام له، والذي كنت قد قرأت عنه، ورأيت صوره في أغلفه كتبه، بحثت عن العنوان بداخل الكتب فلم أجده. سألت في كل مكتبة دخلت إليها، فلم أستدل على العنوان، فكّرت أن أتصل بالدليل ويا زين ما فكرت، فقد أصبح لدى الأتراك فعلا حكومة إلكترونية، حصلت من الدليل على تليفون "عزيز نيسين وقف" )هكذا يسمونه)، واتصلت به ظنا مني أنه في اسطنبول، ومع إن زيارته لم تكن سهلة أبدا، إلا أنني عزمت على أن أشد الرحال إليه، لعلي أجد بين ورثته من يساعدني على تحقيق حلم من أهم أحلام حياتي، بتحويل بعض رواياته إلى أعمال درامية.

لم أكن أتخيل أن "وقف عزيز نيسين"، أو حلمه الذي نذر له سنين طويلة من عمره، وأغلب مبيعات كتبه سيكون بكل هذا الجمال، كنت أتخيل من قراءاتي عنه، قبل أن أسافر إلى تركيا، أنه لن يكون سوى شقة فيها مجموعة من الأيتام، أو في أحسن الأحوال فيلا من دورين، كما هو حال الملاجئ لدينا، لكنني فوجئت تماماً بما رأيته.

سبقتك في الكلام، ولم أقل لك إن الوقف لم يكن داخل اسطنبول أساساً كما توقعت من فرط ما قرأت عن اسطنبول في كتابات عزيز نيسين، والتي قرأت أنه أوصى بأن يدفن فيها، لكن ما قرأته لم يكن صحيحاً على ما يبدو، كان علينا، أنا وزوجتي، لكي نصل إلى وقف عزيز نيسين ومدفنه، أن نركب مترو الأنفاق من ميدان تقسيم في وسط المدينة نصف ساعة، حتى نصل إلى قرب نهايته في محطة يني بوسنيا، أو البوسنة الجديدة، كما أطلق عليها، نسبة لاكتظاظها بالهاربين من البوسنة، كما قال لنا بعضهم، ثم ننزل هناك، لنخرج إلى محطة أتوبيسات، تشبه موقف عبود في كآبته، وإن اختلفت عنه كثيراً، فهي نظيفة للغاية. من هناك، ركبنا، كما قيل لنا، أتوبيساً ينادي عليه صبي رخيم الصوت بالطريقة المصرية "شطالجي.. شطالجي". كان الأتوبيس مكيفاً، مع أنه مخصص لخدمة مناطق شعبية وفقيرة، بعد تحرك الأتوبيس، يمر الصبي على الركاب، ليسأل كلاً منهم عن وجهته، وفي يده كشف به اسم كل منطقة، وأمامها سعر الركوب الخاص بها، اتضح أن وقف عزيز نيسين إحدى المحطات الرئيسية في القائمة، فرحت للرجل كثيراً، لا تدري لماذا، ربما لأن تراثنا المصري يحتفي بفكرة المحطة والاسم الذي يطلق عليها، وربما لأننا لم نعتد فكرة أن يطلق على المحطات أسماء أدباء، أخذت أتخيل لو جاء اليوم الذي نسمع فيه عبارات مثل: "يا حضرات المحطة الجاية إبراهيم أصلان.. اديني تذكرتين خيري شلبي .. كنت نازل بهاء طاهر بس راحت عليا نومة هانزل إبراهيم عبد المجيد بقى وأتمشاها".

بدأ الأتوبيس رحلته بالسير في طريق محاذٍ لمطار إستطنبول المسمى مطار أتاتورك ككل

شيء في تركيا تقريباً. بعد قليل، اتجه الأتوبيس يميناً بمحاذاة بحيرة خلابة تحيطها حقول شاسعة مزروعة بأزهار عباد الشمس (إذا كنت ممن يعتقدون أن ذكر اسم عباد الشمس حرام شرعاً، فدعني أقل لك عباد الشمس عباد الشمس عباد الشمس). كان خليط الألوان بديعاً، ولولا خوفنا من التوهة، لطلبنا النزول من الأتوبيس، لنتمشى ونتملى في هذا المنظر البديع الذي لا يراه أمثالنا عادة، إلا في خلفيات الكمبيوتر، ولوحات المطاعم الشيك، بعد محطات كان يركب في كل منها عدد من الركاب، بعضهم من الفلاحين، بما يحملونه من منتجات غذائية، سيطرت روح أتوبيسات هيئة غرب الدلتا على الأتوبيس، ولم يعد للمكيف أي مفعول، وبدأ العرق يشر من كل حتة في الأتوبيس، لكن شيئاً سحرياً كان يحفظ لكل راكب من الركاب مساحةً لا تتعدى السنتيمترات، تعصمه من الالتصاق بمن إلى جواره، الأهم أنه لا أحد مشغول بالنظر إلى الآخر غيرنا طبعاً. عادتنا ولن نشتريها طبعاً، أما الباقون فالكل ينظر باتجاه لا يبحلق فيه في الآخر، المشكلة الوحيدة في هذا الجو الحضاري أن الكرسي كان ضيقاً للغاية، بحيث التصقت ركبتي فيه التصاقاً، لم يبد أنني سأفلت منه. طلبت من زوجتي عند قدوم المحطة أن تبادر بالنزول وتتصنع أنها لا تعرفني، لكي تنقذ نفسها من حرج الضحكات التي ستنطلق، عندما يراني الناس وأنا أحاول فك نفسي من أسر الكرسي، لكنها كانت أصيلة، بحيث وقفت بكل إباء وشمم لتنتظرني، وأنا أقوم من الكرسي بالورب، وربما لذلك كافأتها السماء بأن أحداً لم يضحك على زوجها، لأن أحداً لم ينظر لنا أساساً.

عندما وصلت إلى الباب، حيث قيل لنا أننا وصلنا إلى وقف عزيز نيسين، أطللت على المكان فوجدت مبنى كبيرا يقع وسط حقول خلابة تقع على ضفاف بحيرة ساحرة، داهمني الشك أن يكون هناك مليونير تركي، اسمه عزيز نيسين، يمتلك مثل هذا القصر، ونكون وقتها قد شربنا مقلبا متيناً. استوقفت زوجتي لحظة، وسألت الصبي (بتاع الأتوبيس)، مشيرا إلى المبنى، بلهجة متسائلة "عزيز نيسين وقف؟"، رطن بكلام فهمت من لغة جسده أن معناه "أيوه هوه خلص ما تقرفناش"، وعندما بدأ الناس في النظر إلينا أول مرة، متأففين من تعطيلنا لهم، نزلنا فوراً من الأتوبيس.

(4)            

هذا إذن هو وقف عزيز نيسين، كما تقول اللافتة المحفورة بالتركية على الباب. صحيح، هذا اسمه، كما ينشر على كتبه. لكن، هل هذا هو المكان حقا، تساءلت "هيّ الكتابة في تركيا طلعت تكسِّب كده زي أوروبا وأميركا؟"، قالت لي زوجتي "إنت هتقر قبل ما تدخل.. مش تستنى لما ندخل الأول"؟ كلام منطقي والله، لنؤجل القر إذن، وندخل من الباب المفتوح بلا حراسة، ونتجول في الحقول البديعة، قبل أن نصل إلى المبنى الأبيض الكبير الذي لفت انتباهنا على بابه دولاب ضخم به عدد كبير من أحذيةٍ، يبدو، من مقاسها، أنها لأطفال من أعمار مختلفة. استغربت أن يترك دولاب كهذا بلا حراسة، فالأحذية تبدو ثمينة للغاية، ثم استغربت أكثر أن أفكر بمنطق حرامي جزم، وأنا قادم لزيارة وقف كاتبي المفضل. عندما دخلنا إلى المبنى، استوقفنا موظف شاب، مُرحِّبا بنا ترحيبا أليطاً، كعادة الأتراك الذين لا يندلقون في ترحيبهم بالآخرين مثلنا، سرعان ما واجهتنا المشكلة الأثيرة لكل من يزور تركيا، اللغة، جميل ألا يتكلم هذا الشعب إلا لغته، ويعتز بها. لكن ما ذنب السياح بس، يا ناس، فشلت كل محاولاتنا في شرح ما جئنا من أجله، لكنه عندما قلت له "يو سبيك إنجليش"، أمسك في كلمة "إنجليش" بقوة وهز رأسه، مشيرا لنا بأن ننتظر قليلاً، ثم دعانا للدخول إلى بهو المبنى لتتفتح مغارة علي بابا بالنسبة لعاشق من عشاق عزيز نيسين مثلي، أدخلنا إلى البهو الذي كان متحف عزيز نيسين الواقع داخل المبنى، وذهب ليحضر لنا أحداً له في "الإنجليش". لم يكن لدينا مانع الآن في أن يتأخر متكلم "الإنجليش"، فلدينا متسع لتفقد مكونات المتحف الذي يضم أغلفة كل كتب عزيز نيسين بالتركية، ومثيلاتها المترجمة إلى عشرات اللغات، لم يكن بينها باللغة العربية سوى كتاب (أطفال آخر الزمان)، كان قد صدر من زمان في سورية، وتذكرت أنه كان قد تم تصديره بمقدمة لعزيز كتبها خصيصا للطبعة العربية من الكتاب الذي يحكي، بشكل ساخر ساحر، عن علاقة عزيز نيسين بأطفال زمانه، وفجوة الأجيال التي تنشأ بين الأطفال والشيوخ.

استغربت ألا يوجد أي غلاف آخر من كتبه التي صدرت بالعربية، والتي زادت على الخمسة والخمسين كتاباً. على جدران المبنى، عُلِّقت صور له خلال رحلاته إلى كل بلاد الدنيا، ليس للأسف من بينها صور له في مصر، مع أنه زارها في الستينيات كما قلت، في موقع من البهو كان هناك "فاترينة" زجاجية بها عدد ضخم من الأوسمة والميداليات التي نالها من كل الدول، من بينها وسام من مصر وآخر من سورية، وإلى جوارها "فاترينة" أخرى، فيها عدد مهول من العملات المعدنية من مختلف الدول، ظننتها هوايته الوحيدة، قبل أن أعرف، فيما بعد، أنها لم تكن قاصرة على العملات. في ركن آخر، آلتان كاتبتان قديمتان جداً، وإلى جوارهما ماكينة خياطة، لعلها من ضخامتها البالغة كانت الأولى في العالم كله. في ممر ملاصق للبهو، وضعت عشرات الرسوم الكاريكاتيرية التي رسمها له عدد من أشهر رسامي تركيا وأوروبا، وكانت تنشر مصاحبة لمقالاته الساخرة وقصصه.

بعد أن انقضت ربع ساعة، بدا أننا محتاجون بشدة لمن يفك لنا طلاسم عديدة موجودة في المكان، وفي مقدمتها ماكينة الخياطة الموجودة في ركن من المكان، والأهم من ذلك معطف أبيض ملطخ ببقع غير ممكن تحديد لونها بدقة، لم أفهم أبداً سر تعليق معطف متسخ بهذه البقع في صدر المكان، ولم تطل حيرتي، فقد وصل الشاب الأول، وبصحبته رجل عجوز، لكنه يبدو رشيق الخطوة ومفرود الضهر، بما لا يتسق مع تجاعيد وجهه التي تكشف عمره، وشاب بهي الطلعة، اتضح أنه خبير "الإنجليش". رحب بنا بحرارة، وعرّفنا بالرجل العجوز، بوصفه مدير الوقف، ورفيق عمر عزيز نيسين، والوحيد الباقي على قيد الحياة من أصدقائه ورفاقه. سألنا من أين نحن، وعندما قلت له "إيجيبت"، استغرب لحظة مثل باقي الأتراك، قبل أن ننتبه إلى أن الأتراك يستخدمون كلمة "ميصر" أكثر من إيجيبت، بحكم سني احتلالهم الطويلة لها التي جعلت اسم مصر يصبح جزءاً من لغتهم، حتى إن كوز الذرة يطلق عليه إسم "ميصير" لأن الأتراك، كما يقال، عرفوه في مصر وحملوه معهم إليها، رد محتفيا "ميسير.. ميسير.. أوووه.. مرحبا مرحبا"، وكلمة (مرحبا) مشتركة بين العربية والتركية. لم أصدق عندما قال الشاب إننا أول عرب نزور هذا المكان، قلت له ربما زاره غيرنا وأنت غير موجود. ابتسم وقال لنا إنه موجود في هذا المكان منذ افتتاحه قبل خمسة عشر عاما، ثم أشار لنا إلى صورة تجمع عزيز نيسين في شيخوخته، وقد اشتعل رأسه شيباً، وهو يجلس وسط مجموعة من الأطفال، لا يتجاوز عددهم العشرة، مشيرا إلى طفل في الصورة، قائلا: "هذا أنا عندما التحقت بالدار في أول دفعة دخلته"، تأثرنا للغاية، عندما التمعت عيناه بالدموع، لكنه تمالك نفسه، قائلا إن أغلب الأطفال الذين ترونهم في الصورة تخرجوا ليعملوا في الدار، مدرسين ومشرفين رياضيين، وهم الذين يقودون المكان الآن.

نظرت إلى عزيز نيسين في الصورة، كانت على وجهه ابتسامة عريضة، تمزج بين الرضا والفخر. بالتأكيد، كان وقتها سعيداً بما أنجزه. لكن، هل كان يشعر بأن هؤلاء الأطفال الجالسين إلى جواره سيدينون له بكل حياتهم فيما بعد، وسيحملون راية الخير التي رفعها، ليتناقلوها جيلا بعد جيل. سألته عن سر هدوء الدار الشديد، وعدم وجود أحد على الباب، كما يفترض، فقال لنا إن جميع أطفال الدار مشغولون بممارسة النشاط الرياضي الآن، وإن الحارس نفسه يقوم بدور حكم في مباراة كرة قدم، قائلا لنا إنه مع اتساع إمكانيات الدار، وصل عدد الأيتام ومجهولي الهوية الذين تتبناهم وتقوم بتعليمهم وإعاشتهم حتى يكبروا إلى حوالي أربعين طفلاً. لم يشعر بحرج، عندما حدثنا عن كونه من مجهولي الهوية الذين في الدار، بل قال لنا بفخر إن بعضا منهم تخرجوا من هنا، وتزوجوا وأصبحوا ناجحين للغاية في حياتهم. فاض بي الحنين إلى عزيز نيسين، فطلبت منه أن يقودنا إلى قبره، لكي نقرأ له الفاتحة، وندعو له بأن يجزيه الله خير الجزاء على عطائه الإنساني النبيل، ضحك مترجماً كلامنا إلى الرجل العجوز الوقور الذي ضحك بدوره وقال له كلاما بالتركية أذهلنا عندما عرفنا معناه، وزادنا حباً لعزيز نيسين.

نكمل حديثنا غدا بإذن الله.  

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.