الفلسطينيون والطريق إلى الجنة

الفلسطينيون والطريق إلى الجنة

14 نوفمبر 2015
+ الخط -
فشلت، في عام 2000، مباحثات كامب ديفيد الفلسطينية الإسرائيلية في التوصل إلى اتفاق الحل النهائي، على الطريقة الإسرائيلية - الأميركية. وبعد اقتحام آرييل شارون باحة المسجد الأقصى، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وسرعان ما اتخذت طابعا عسكرياً، وبرزت العمليات الانتحارية وسيلة أساسية استخدمتها الأذرع العسكرية لبعض الفصائل الفلسطينية، لاسيما كتائب عز الدين القسام (حماس)، وسرايا القدس (الجهاد الإسلامي)، وكتائب شهداء الأقصى (فتح). قدّمت تلك العمليات لإسرائيل مادة دسمة للاستثمار الإعلامي والسياسي، وُظّفت في التحريض على الفلسطينيين، وتبرير الإجرام بحقهم. دفع الفلسطينيون كلفة باهظة على الصعد كافة، واغتيل ياسر عرفات بعد حصار في المقاطعة في رام الله، في ظل تواطؤ دولي وصمت عربي. وفي فبراير/شباط من عام 2005، وقّعت في شرم الشيخ اتفاقية الهدنة التي أعلنت فعليا انتهاء الانتفاضة.
منذ ذلك التاريخ، يستمر الاحتلال الإسرائيلي، ويمارس إجرامه بحق الفلسطينيين، لكسر إرادتهم وتركيعهم، ودفعهم إلى تقديم مزيد من التنازلات، بدافع مزيد من اليأس، ولا سيما بعد أن تحولت حكومة نتنياهو، وبوقاحة غير مسبوقة، إلى حكومة لا شأن لها سوى تمثيل مصالح المستوطنين اليهود ومتطرفيهم، والتستر على إجرامهم، وإشباع نهمهم بقضم مزيد من أراضي الفلسطينيين، ومطالبتهم الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية. في المقابل، كان الشتات الفلسطيني قد أخذ في التصدّع، مع استكمال الفصائل الفلسطينية نقل ثقلها السياسي والتنظيمي إلى الداخل الفلسطيني. وأدى الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني إلى تكريس الانقسام السياسي والديمغرافي الذي لا يزال جاثما على صدور الفلسطينيين، وعصفت بهم الصراعات المناطقية والأيديولوجية، ما زادهم بؤساً وفقراً وإحباطاً، وبدت الهجرة فكرة معقولة لمزيد من شبانهم، إذا ما استطاعوا إليها سبيلا.
بُرِّرت العمليات الانتحارية عملياتيا، من خلال ما تسمى "استراتيجية توازن الرعب". وأيديولوجيا، بوصفها أقصر الطرق إلى الجنة. لكن توازن الرعب لم يكن سوى انتصار وهمي ومؤقت، طالما لم يغيّر موازين القوى القائمة التي كانت دائماً في صالح قوات الاحتلال، كما أن الرعب في الجانب الإسرائيلي استجرّ معه مختلف ردود الأفعال الوحشية. وخلال عقد، أخذ الخط البياني للعمليات الانتحارية الذي بلغ ذروته في الانتفاضة الثانية بالانحدار. ولا يعود ذلك لتغير في الذهنية التي تتبنى فلسفة أقصر الطرق إلى الجنة، بقدر ما يعود إلى عوامل موضوعية. تَمثّل أهمها، في إغلاق المعابر وإحكام الحصار على قطاع غزة، التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في الضفة، وتفكيك كتائب شهداء الأقصى.

وفي ظل هذه الظروف، توفرت لبعض الفصائل بدائل جديدة، تراجع معها الاعتماد على العمليات الانتحارية، من دون أن يعني ذلك التخلي عنها نهائيا، كتنامي القدرة الصاروخية التي استهدفت العمق الإسرائيلي، مع فاعلية أقل للقبة الحديدية، في التصدي لصواريخ غير دقيقة المسار، وأقل تطوراً، ناهيك عن تطوير قدرات عسكرية واستخباراتية ولوجستية، استخدمت الأسلوب العلمي للقيام بعمليات كوماندوس نوعية، خلف خطوط العدو، كما في الحرب الإسرائيلية على غزة أخيراً. ومع تراجع زخم العمليات الانتحارية، بدأت تتصاعد وتيرة عمليات ذات طابع فردي، اعتمدت على عمليات الطعن أو الدهس أو كليهما معا، وسُلطت عليها الأضواء في الحراك الشعبي الذي تشهده اليوم الساحة الفلسطينية.
لا يمكن تحميل المسؤولية لأشخاص فقدوا الأمل، ولم يعد لديهم ما يملكونه غير تخليهم عن حقهم في الحياة، انتقاماً للجرائم المرتكبة بحقهم، بل يتحمل الاحتلال الإسرائيلي بالدرجة الأولى تلك المسؤولية، حين يصرّ على سياسة التيئيس، وحين لم تخلق سياسة العقاب الجماعي التي طالما مارسها للتنكيل بذوي منفذي تلك العمليات، وهدم بيوتهم، سوى مزيد من الانتحاريين. لكن، لا تزال فلسفة أقصر الطرق إلى الجنة التي تبارك هذه العمليات وتمجدها تمارس دورها أيضا. ويمكن تلمس هذه المباركة في إصرار بعضهم على تسمية هذا الحراك الشعبي بـ"انتفاضة السكاكين"، الأمر الذي يصادر على الفعل الجمعي لمئات الشبان المنخرطين في فعاليات هذا الحراك، لصالح حالات فردية لا تمثل جوهره.
فعلى الرغم من أجواء الإحباط، انطلق هذا الحراك الشعبي، يحدوه ويحرّكه الأمل، ليمثّل انتصار الإرادة على اليأس، واستعادة الجماهير لزمام المبادرة. وإذا أردنا وضع الأمور في نصابها الصحيح، توجّب علينا ربما أن ننظر إليه، لا على أنه تمرد على الاحتلال وحسب، ولا مجرد هبة تنفيس عن الاحتقان، بل هو جزء من الرغبة في التغيير التي اجتاحت شعوب المنطقة. ومع مزيد من التفاؤل، يُناط بهذا الحراك أن يأخذ بيد مزيداً من أولئك الذين سقطوا مرغمين ضحايا لليأس، ونقلهم من ردود الأفعال إلى الأفعال.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن عمليات طعن جنود الاحتلال ومستوطنيهم، باستخدام السلاح الأبيض، ليست بالتكتيك الجديد كلياً، فقد استخدم في أثناء الانتفاضة الأولى التي فرضت نفسها في النهاية، انتفاضة الحجارة، بعد أن حسم الفعل الجمعي، لا عمليات فردية، مسارها، وهو ما أكسبها ديمومةً وفعلاً، وتأثيراً غير مسبوق، لجمت البطش الصهيوني، عبر تقنين الكفاح الفلسطيني، فوفرت عوامل الصمود والثبات للمضي قدماً، وحافظت على التفوق الأخلاقي للضحية على الجلاد. أما العمليات الانتحارية التي كانت أقصر الطرق إلى الجنة، فلم تكن أقصر الطرق إلى فلسطين.
في مارس/آذار من عام 1972، أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تخليها عن استراتيجية خطف الطائرات. مكنتها هذه الخطوة الجريئة من بناء تحالفات جديدة في الساحة الدولية، وخدمت استراتيجيتها الكفاحية، حين وفرت لها داعمين جدداً، وبدأت القضية الفلسطينية تكسب مزيداً من الأصدقاء، وتفرض حضورها في المحافل الدولية، ولم يتعارض ذلك مع نهج الكفاح المسلح الذي تصاعد، كماً ونوعاً منذ السبعينيات، وبقيت الجبهة الشعبية فصيلاً رائداً فيه. واليوم، يتعاظم البعد الدولي، القانوني والحقوقي، للقضية الفلسطينية، بعد المكاسب الأخيرة في الأمم المتحدة، واحتدام الصراع مع الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية في المحافل الدولية، واللجوء إلى القضاء الدولي، وتتوفر فرصة مواتية لتحقيق مصلحة فلسطينية، تتمثل في الإعلان عن التخلي نهائياً عن العمليات الانتحارية بكل أشكالها. وعندها، سيتحمل الاحتلال الإسرائيلي وحده المسؤولية القانونية والأخلاقية عن هذه العمليات، بوصفه المحرّض الوحيد عليها، عبر الاستمرار بخنق كل فرص الحياة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أما الكفاح المسلح الذي كان وسيبقى حقا مشروعا للشعب الفلسطيني، وتكفله الشرائع والمواثيق الدولية، فينبغي أن يوضع في إطار استراتيجية نضالية جامعة، كأحد الخيارات المتاحة، لتحقيق أهداف سياسية تحظى بالإجماع الفلسطيني، في ظل فلسفة تقدس الحياة، ولا تستثمر اليأس، وتقيم أعراسا للشهداء، من دون أن تمجد الموت في ذاته. عدا ذلك لن يكون الكفاح المسلح طريقاً، لا إلى فلسطين، ولا إلى الجنة، بل وسيلة لفرض سيطرة فصائلية على الساحة الفلسطينية.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.