طعنة واحدة وألف جسد

طعنة واحدة وألف جسد

13 أكتوبر 2015
+ الخط -
كان ينبغي على نبينا محمد أن يتوسع بالحديث عن الجسد، الذي إذا أصيب منه عضو، تداعى له سائر أعضاء الجسد بالسهر والحمّى.
كان ينبغي، عليه السلام، أن يحدثنا عن زمن قادم، يكون فيه السهر والحمى لجسد آخر إذا أصابته طعنة سكين، ضجّت من شدة الألم والشكوى أجساد أخرى، لا على قاعدة التضامن الإنساني، أو الأممي، بل على قواعد أخرى، أقلها التواطؤ والعمالة.
تُرى هل يعرف الفلسطيني الذي يغرز خنجره اليوم في خاصرة المستوطن الصهيوني، أن صرخة الألم المنبعثة من جسد هذا المستوطن لا تقتصر عليه وحده، بل تشاركه فيها أجساد مماثلة تمتد من البيت الأبيض إلى البيت العربي الأسود، وأنهم يضربون ألف جسد بطعنة واحدة؟
منْ مُبلغٍ أبطال السكاكين أن الأرض تميد، الآن، برؤوسٍ كثيرة، تشتبك أدمغتها وشرايينها ورئاتها مع مثيلاتها في المستوطنات، لأنها اختارت أن تربط مصائرها مع المحتل الصهيوني، منذ أول سفينة مهاجرين غزاة، رست على شواطئ يافا.
أراهن أن هؤلاء الشبان يعرفون ذلك، مثلما أراهن أنهم لا يستهدفون جسد المستوطن وحده، ففي أعينهم يلوح بريق غامض، يضاهي بريق خناجرهم، يعرف الهدف جيداً، ويعلم أن الطعنة تنغرز عميقا في أجساد تتلوّى غيظاً وكمداً، وتودّ لو تشارك قطعان المستوطنين بطشهم وتنكيلهم بالفلسطينيين.
هم شبان وفتيات متمردون على قائمة النصائح، التي لم تساوِ جَمَلاً، ولا حتى نملة، خصوصاً أنها تصدر عن آباء يحاولون تغليف جسد الخيانة بثوب النصيحة، بدءاً من ذلك الزمن الذي حاولوا فيه إقناع الثوار بلا جدوى السلاح، فأحالوا أنبل الثورات الأممية إلى رهط تجار وسماسرة، ومتعهدين ووكلاء لشركات الوجبات السريعة في وطنٍ، أسرع ما فيه الموت، وأبطأ ما فيه الحياة.
وحين اندلعت انتفاضات الحجارة، راح هؤلاء الآباء يبذلون نصائحهم بلا جدوى الحجر أمام الرشاش والدبابة، في محاولة لتيئيس المنتفضين، وزعزعة ثقتهم بثورتهم، وكان لهم ما أرادوا، خصوصاً وأن التواطؤ لم يقف عند حد النصيحة الماكرة، بل تحول إلى مشاركة فعلية في القمع والتنسيق مع العدو.
وها هم الآباء أنفسهم الآن من يعتبرون أن الخنجر نوع من عسكرة الانتفاضة، وسيؤدي، بالتالي، إلى تجريد الفلسطينيين من تعاطف العالم معهم، وهو قول مردود على الآباء الحكماء، لأن من حق الفلسطيني وحده أن يقرّر أسلوب الدفاع عن النفس، واختيار الأدوات الملائمة لثوراته، بعد أن تخلى العالم كله عنه، وفي مقدمته الآباء أنفسهم.
يبتكر هؤلاء المنتفضون إعجازهم، بعد أن وصلوا إلى قناعةٍ مفادها بأنه، بقدر ما أنجبت فلسطين أبطالاً، ولدت أضعاف ذلك خونة وعملاء ومتواطئين، وصهاينة أكثر من الغزاة أنفسهم، وهو حال لا يختلف كثيراً عن حال أمتهم عبر تاريخها الطويل، ممن تواطأوا مع الغزاة، بدءاً من أبو رغال، مطيّة أبرهة في محاولة هدم الكعبة المشرفة، مرورا بألف علقميّ فتح أسوار بغداد ودمشق للمغول والأميركان والروس، وليس انتهاء بمن يئدون ثورات الربيع العربي، في مصر وطرابلس الغرب وصنعاء.
هذه الثورة لا تقف عند حدود المحتل وحده، بل هي ترث الثورات الموؤودة في الوطن العربي كله، وترث أحلاماً وآمالاً اغتالها طغاة العرب ودواعشهم على السواء، واغتالتها أيضاً مجتمعات عربية، لم تؤمن بعد بأن الحرية غريزة إنسانية، ينبغي أن تسبق الجوع والجنس، وهي ثورة على كل المعتقدات البالية التي لجمت العقل العربي في كهف الأساطير والغيبيات، وانتظار المهدي، وبدائل جمال عبد الناصر وصدام حسين وصلاح الدين.
هي ثورة لن تنتهي، قبل أن تتداعى أجساد الخيانة والخديعة إلى فناء مشترك مع الجسد الصهيوني نفسه. وعندها، سيكون لخنجر المنتفضين في الشوارع الفلسطينية ألف طعنة موازية، تعرف طريقها جيداً، حين يشتبك التماعها بالتماع الشمس العربية.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.