هارفارد والانتقال الديمقراطي في تونس ونخب كسيحة

هارفارد والانتقال الديمقراطي في تونس ونخب كسيحة

22 اغسطس 2022
+ الخط -

أثار تعيين الرئيس التونسي الأسبق، منصف المرزوقي، ثم رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، أستاذين زائرين في جامعة هارفارد في الموسم الجامعي المقبل سيلا من حبر لم يجف بعد في تونس، في وسائل التواصل الاجتماعية والصحافة المكتوبة. تستكثر بعض هذه الكتابات على الزائريْن تعيينهما في إحدى أعرق الجامعات، والتي تصدّرت غالبية التصنيفات العالمية للجامعات وذهبت بعض المواقف إلى اعتبارهما يقدمان معلومات للولايات المتحدة يستحقان عليها محاكمة قاسية.
تعرّض المرزوقي إلى حملة ظالمة، في أثناء رئاسته الجمهورية وبعدها، ومع ذلك ظل وفيا لقناعاته. لم تغيّره السلطة، وخرج من الباب الكبير، وكان أول رئيس في تونس بعد الثورة يسلّم الحكم إلى من خلَفه منحنيا لإرادة الناخبين، في موكب مهيب، ستبقى صور ذلك المشهد في ذاكرة العرب. استسلم الرجل لحكم صناديق الاقتراع، واستقبل خصمه السياسي اللدود، الرئيس الذي خلفه، الباجي السبسي، بما يليق، وغادر قصر قرطاج.
ظلّ المرزوقي منحازا للثورة والديمقراطية، غير أنه لم يغفر لحركة النهضة ركونها إلى من يعدّهم رؤوس الثورة المضادّة في تونس، ورأى في التوافق بينها وبين فلول حزب التجمع  الدستوري الديمقراطي (الحاكم سابقا) وبقاياه طعنا للثورة. انحاز إلى الثورة السورية، وناهض نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، وانتقد علنا بعض الأنظمة العربية، وظل في ذلك كله على مبادئه وقناعاته. لم يُحاكم في أثناء ولايته أحدا من خصومه، حتى الذين افتروا عليه ونعتوه بأبشع النعوت، واختلقوا عليه قصصا غريبة، اعترفوا فيما بعد أنها كانت أكاذيب وخيالا في خيال. غادر الرجل المشهد السياسي واستقرّ في فرنسا إلى أن حلّ الانقلاب في 25 يوليو/ تموز 2021، فناهضه منذ ساعاته الأولى، وظل يعمل على تشكيل جبهة واسعة ضده، غير أنه لم يسلم من أخطر اتهامات السلطة الحالية، حين رأت في تصريحاته استقواء بالأجنبي وخيانة لبلده، فأصدرت أحكاما بسجنه أربع سنوات.

تجربة الانتقال الديمقراطي التونسية غدت موضوعا أكاديميا. لقد دخلت، بكل التباساتها وتعقيداتها، مختبر البحث الأكاديمي في أرقى الجامعات

كان  أنصار الرئيس قيس سعيّد يروّجون أن المرزوقي مطلوب للعدالة الدولية، وأن الإنتربول جادّ في العمل على القبض عليه. ولذلك جاء تعيينه زائرا في جامعة هارفارد تسفيها لكل تلك الادّعاءات. أما يوسف الشاهد فهو قادم من حزب نداء تونس الذي تحلّل واختفى تماما من المشهد السياسي الحالي، وهو من غير جيل المرزوقي وقادم من خلفية معرفية وثقافية مغايرة، فالرجل لم يشارك إطلاقا، لحداثة سنه ربما، في النضال الديمقراطي ضد حكم بن علي. درس في فرنسا، واشتغل لفائدة منظمات أميركية مختصة في التنمية الزراعية... وعلى هذا النحو، تستدعي جامعة هارفارد رؤيتين وروايتين مختلفتين للانتقال الديمقراطي في تونس تراوحان ما بين المبدئية العقائدية، ويمثلها المرزوقي، والبراغماتية الذرائعية ويمثلها الشاهد. 
وبقطع النظر عن موضوعية المقاييس التي اعتمدتها الجامعة العريقة، وجدارة هذا أو ذاك في تقديم قراءة الرجلين وشهادتهما على تلك العشرية في تونس، فإن الرسالة التي يمكن أن نقف على بلاغتها تكمن في عدة دلالات. لعل أهمها أن تجربة الانتقال الديمقراطي التونسية غدت موضوعا أكاديميا. لقد دخلت، بكل التباساتها وتعقيداتها، مختبر البحث الأكاديمي في أرقى الجامعات. يضع العقل العلمي هذه التجربة ضمن مختبره. وستحرص العلوم السياسية والجيوسياسية المنفتحة على تخصّصات عديدة أخرى على فهم ما حدث، وتحديدا الأسباب التي أدّت إلى هذه المآلات، وهي تحتاج حتى تجيب عن الأسئلة العلمية العديدة والمؤرّقة أن تستمع إلى "محاضريْن شاهدين" قد يقدّمان روايتين مختلفتين.

حرصٌ خفيٌّ في تونس على إنكار أن تكون عشرية الانتقال الديمقراطي موضوعا للبحث العلمي

على خلاف هذا العقل الشغوف بمعرفة التجربة التونسية، على أهميتها، يذهب بعضهم إلى ترذيل التجربة وشطبها، حقدا أو جهلا. ثمّة في تونس حرصٌ خفيٌّ على إنكار أن تكون عشرية الانتقال الديمقراطي موضوعا للبحث العلمي. أما الكتابات الأكاديمية التونسية القليلة التي تناولت هذه التجربة فتظلّ، في معظمها، محاكمة غير منصفة لهذه  التجربة. وتصدُر هذه الكتابات، عادة، عن أكاديميين لهم مواقف متسرعة من بعض الأطراف السياسية. أما عربيا، فقد ظلّ الاستثناء البليغ منحصرا تقريبا في كتابات عزمي بشارة التي راكمت مباحث عميقة عن هذه التجربة، وسدّت فراغا بحثيا محيّرا بشأن هذه العشرية، عزّزتها إصدارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات التي غطّت الثورات العربية ومختلف مآلاتها.
على خلاف اهتمام العقل الأكاديمي الأميركي بالتجربة التونسية، يذهب بعضهم إلى تلوينٍ صبيانيٍّ للعشرية، فيصفها بالسوداء، متوهما أن التلوين مفتاح الفهم، والحال أن التلوين ذاته طمس لحقيقة الأشياء واختزال كسيح لتعقد الحقائق.
لا نقدّر حق التقدير أثر البحث الجامعي في القرارات الأميركية، فالعقل الأكاديمي في الولايات المتحدة في تشكّله وأثره في السياسات الخارجية يختلف، إلى حد ما، عن التراث الجامعي الفرنسي الراكن إلى أبراجه العاج عادة. وسيكون لهذا كله أثره في السياسات الأميركية تجاه ما يجري في تونس حاليا. وليس مصادفة أن يحدُث هذا في مناخات توتّر لم تعرفه من العلاقات التونسية الأميركية من قبل.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.