لماذا الفلسطينيُّ لا يستكين؟

لماذا الفلسطينيُّ لا يستكين؟

23 يونيو 2023
+ الخط -

تزداد ضراوة الصراع في فلسطين، ويكثِّف المحتل أدواته العسكرية الدموية، والاستيطانية والتهويدية، بالتوازي مع الدعائية المضلِّلة والمزيِّفة للحقائق، بادِّعاء دولة الاحتلال السمة الأخلاقية، والنتيجة رمي الفلسطينيين بنقيضها؛ من إرهابٍ وإجرامٍ وتعصُّب، عملًا بالمثل العربي: "رمتني بدائها وانسلّت". وثالثة الأثافي تلك الأداة المعنوية النفسية. لكن الاحتلال، بالمفرَّق وبالجُملة، مع تلك الأدوات والإمكانات، لا يصل إلى منطقة الاطمئنان والحسم. 
ولعل المعركة بدأت منذ أنكر الإسرائيليون المحتلون وجود الشعب الفلسطيني، أو بتصويرهم الفلسطينيين أنهم البادئون في إشعال الصراع، وإيذاء أبناء صهيون، و"قد تمثّلت اللمسات الأخيرة التي أضفاها الإسرائيليون على هذا النهج الفكري في تصنيف ضحاياهم الفلسطينيين، باعتبارهم " متعصِّبين" و"إرهابيين" لا بدَّ من ردّ سلوكهم إلى ينابيع تُراثية بدائية متأصِّلة في نفوسهم العربية والإسلامية. ومن هنا، أمكن تفسير الدوافع وراء المقاومة الفلسطينية للصهيونية وإسرائيل في سياقٍ أبعد ما يكون عن سياق النزاع نفسه، وبالتالي عن المسؤولية الخلقية لإسرائيل والصهيونية". (وليد الخالدي، "قبل الشتات").
وبعد كل تلك العقود التي انطوت على كل ما أمكن للمحتل حشدُه؛ من أسباب الإخضاع والتيئيس والردع، تتواصل الأجيال الفلسطينية كأنها مَدَدٌ، من بعد مدَد، في المقاومة والنضال، وليس ذلك من فراغ، فما السبب؟ أو ما الأسباب؟

مما يشحذ عزيمة المقاومين الحاضنةُ الشعبية المتينة، وتمجيد الشعب الفلسطيني، واحتفاء الجميع بالذين يبذلون أرواحهم، وأجسادهم، على طريق التحرير والمقاومة

لعل الأساس يكمن في إيمان الفلسطينيين الراسخ والأكيد بأحقيَّتهم في وطنهم، ثم توفُّر محفِّزات التضحية والفداء ومعاني الاستشهاد؛ حيث يستمرّ الاشتباك المفضي إلى الاستشهاد، تلو الاستشهاد؛ تكذيبًا وإبطالًا لأوهام الاحتلال؛ أن ما لا يأتي بالقوة يأتي بمزيدٍ من القوة. وقد بلغ عدد القتلى في سنة 2022 رقمًا غير مسبوق، 146 شخصًا، وارتفعت وتيرة القتل في منذ مطلع السنة الجارية (2023) إلى ما يزيد عن 115 فلسطينيًّا؛ استجابة لتعليمات من قادتهم تهوّن إطلاق الرصاص؛ بهدف القتل، حتى من دون خطورة ظاهرة يشكِّلها أولئك المستهدفون. وفي هذا السياق، تدور المشاورات بين قادة الاحتلال السياسيين والعسكريِّين حول توسيع "حملة كاسر الأمواج" المستمرّة ( بدأت أواخر مارس/ آذار 2023) لعمليةٍ عسكريةٍ واسعة، على غرار عملية السور الواقي 2002، وبرغم اتّخاذ قوات الاحتلال "زمام المبادرة" منذ "حملة كاسر الأمواج"، وتكثيفها المستمرّ عمليات القتل والاعتقال، مدعومة بإمكانات مادّية واستخبارية واسعة، في بيئة الضفة الغربية المسيطَر عليها أمنيًّا، ومقطَّعة الأوصال بحواجز عسكرية احتلالية، ثابتة ومتنقِّلة، إلا أن المقاومين في جنين، وفي شمال الضفة الغربية وغيرها، لا ينفكّون يخيِّبون آمال الاحتلال، ويُربِكون مخططاته، بل وينالون من قوة ردعه، وهيبة آليَّاته، ويصيبون قادته بالصدمة، كما حدث في مخيم جنين؛ من تفجير ناقلة جنود تُدعى "الفهد" (مصفَّحة ضد الرصاص والعبوات الناسفة الصغيرة)، بعبوة ناسفة محكمة؛ ما أبقى قوات الاحتلال عالقة تحت مرمى النيران الفلسطينية 12 ساعة، قبل أن تضطرّ إلى الاستنجاد بطائراتٍ مروحية، وهذا، ولا شك، يؤشِّر إلى تطوُّر نوعي في الإمكانات القتالية، يدفع قادة الاحتلال إلى إعادة حساباتهم، ويمنح الفلسطينيين والمقاومين دفعةً معنوية، مقابل النيْل من الروح المعنوية لجنود الاحتلال. ثم ودون إبطاء، تمكَّن مقاومون من اقتحام مستوطنة عيلي، شمالي رام الله، وقتلوا، على الأقل، أربعة مستوطنين، برغم إعلان جيش الاحتلال حالة التأهُّب تحسُبًا من ردّ على قتله ستّة فلسطينيين في جنين. 
ومما يشحذ عزيمة المقاومين تلك الحاضنةُ الشعبية المتينة، وتمجيد الشعب الفلسطيني، واحتفاء الجميع بالذين يبذلون أرواحهم، وأجسادهم، على طريق التحرير والمقاومة... وليس كالشعور بالظلم المتزايد والمستفزّ، بما فيه تعمُّد انتهاك المقدَّسات الدينية الجامعة؛ ذلك الظلم والانتهاكات الممنهَجة والمُمَأْسَسة، والتي بلغت مرحلة التحام عقيدة المستوطنين السياسية بعقيدة الدولة نفسها، أو الحكومة الراهنة، في أقلّ تقدير. كما تظهره، مثلًا، اعتداءات المستوطنين المتكرّرة، كما في هجومهم الهمجي على بلدة ترمسعيا، شمالي رام الله، تخلَّله إحراق 30 منزلًا، ونحو 70 مركبة، وإحراق مئات الدونمات الزراعية، وخلال التصدّي لهم، استشهد مواطن برصاص جنود الاحتلال، وأصيب 11 مواطنًا. وغير بعيد عنها ما ارتكبه المستوطنون في بلدة حوّارة، وما عاثوه في قرية اللبّن الشرقية، جنوبي نابلس؛ بحرق ممتلكات الفلسطينيين ومتاجرهم، وحرق مزارع الفلسطينيين، ومركباتهم، ومهاجمة منازلهم، على مرأى وحماية من جنود الاحتلال.

كان في صلب الحالة المقاومة وعيُ الفلسطينيين وجيل الشباب بالمرحلة التي بلغتها الصهيونية وكيان الاحتلال في مشروعهما للإجهاز على فلسطين

هذا الالتحام بين جماعات المستوطنين والحكومة، أو الدولة، يؤشِّر عليه، أيضًا، وبوضوح، منْح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يُعَدُّ مؤيِّدًا قوميًّا متطرِّفا للحركة الاستيطانية، كلَّ السيطرة للموافقة على التخطيط للبناء في مستوطنات الضفة الغربية. هذا القرار الذي تمَّت الموافقة عليه في اجتماع مجلس الوزراء، والذي يدخُل حيِّز التنفيذ بأثر فوري، يسرِّع ويسهِّل، بشكلٍ كبير، عملية توسيع المستوطنات القائمة في الضفة الغربية وإضفاء الشرعية، بأثرٍ رجعي، على بعض البؤر الاستيطانية غير القانونية. لقي هذا القرار ترحيبًا حارًّا من قيادة المستوطنين؛ بسبب التعزيز المرجَّح للبناء الاستيطاني. وفي هذا التطوّر النوعي شكلٌ واضح من أشكال الضمّ، فهمه المستوطنون تمامًا حين قالوا: إنه سيجعل الموافقة على التخطيط "روتينية"، وسيجعل تخطيط البناء في الضفة الغربية أشبه بالتخطيط في إسرائيل السيادية". ليتّسق ذلك مع مخططات دولة الاحتلال، الهادفة إلى تعزيز قدرة إسرائيل على تحقيق هدف سموتريتش المعلَن بزيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى مليون مستوطن. ولتحقيق تغيير الحالة الديمغرافية لصالح المستوطنين، أعلن وزير الإسكان، الحاخام يتسحاق جولدكنوف، إنه ينوي توظيف الضفة الغربية؛ لحلِّ مشاكل السكن في إسرائيل، حيث إنه يقصد، وفق مختصِّين بالشؤون الإسرائيلية، "حلَّ مشكلة السكن لأتباع التيار الحريدي الذي ينتمي إليه، وهو التيَّار الأكثر فقرًا، والأكثر اهتمامًا بالبحث عن حلول لمشكلة السكن"، وهو التيَّار المعروف بارتفاع منسوب المواليد لدى نسائه. فكان في صلب الحالة المقاومة وعيُ الفلسطينيين وجيل الشباب بالمرحلة التي بلغتها الصهيونية وكيان الاحتلال في مشروعهما للإجهاز على فلسطين، وتصفية الوجود الفلسطيني السياسي والوطني والهُويَّاتي فيها. 
بالتزامن مع انسداد الأفق السياسي وإفلاس الخطاب التفاوضي؛ عن اجتراح أيِّ حلول أو رؤى واقعية، وتاليًا الإخفاق في تحصيل أيّ تحسُّنٍ في مستوى الحياة، بل الحاصل هو تجاهل حكومة الاحتلال صورة السلطة الفلسطينية، مع عدم ممانعتها تلقّي نتائج تعاونها، والمطالبة بمزيد منها، ومن أجهزتها الأمنية؛ الأمر الذي حرّك حتى أفرادًا من تلك الأجهزة لتنضمّ إلى شعبها، ولتقدِّم التضحيات، ولتُوقِع بالمحتل، خلافًا لموقف السلطة الرسمي والمعلن.

لم يتبقَّ للفلسطيني شيءٌ يخسره، ولم يعد يملك ترف الانتظار، أمام تسارع الاحتلال وسفوره عن مخطّطاتٍ صارت تطرح على شكل مشروعات قوانين

وبكلمة موجزة، لم يتبقَّ للفلسطيني شيءٌ يخسره، ولم يعد يملك ترف الانتظار، أمام تسارع الاحتلال وسفوره عن مخطّطاتٍ صارت تطرح على شكل مشروعات قوانين، كما مشروع التقسيم المكاني للمسجد الأقصى، بعد أن تحقّق، تقريبًا، التقسيم الزماني. وينصُّ مشروع القانون (أعدّه عميت هاليفي عضو الكنيست عن حزب الليكود الحاكم الذي يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، والساعي إلى تنفيذ فكرة تحظى بإجماع يهودي وصهيوني، والذي يلقى رواجًا لدى الائتلاف الحكومي وأحزاب اليمين)، على تخصيص محيط المسجد القِبْلي، جنوبًا، للمسلمين، في حين تُخصَّص لليهود قبَّة الصخرة التي (ستتحوَّل) إلى "الهيكل" المزعوم، وحتى الحدِّ الشمالي لساحات الأقصى.
وفي الختام، ما يجري من اشتداد الصراع وتفاقُم المواجهات الدموية يمثل استحقاقًا لا بد منه أمام مشروع صهيوني احتلالي إحلالي، بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر، ووصل إلى هذه العقيدة العنصرية التي تترجم بعضَها أفواهُ غلاة المتطرّفين؛ من أبناء الحركات الدينية القومية؛ من الدعوة إلى استباحة دم العرب الفلسطينيين، هكذا لمجرَّد أنهم عرب فلسطينيون، ودعوات لتكرار النكبة في اعترافٍ ضمنيٍّ بمسؤولية قادة الاحتلال، آنذاك، عن الفظائع التي دبَّروها في أثناء أحداث النكبة، من قتل وترويع أفضى إلى تهجير قرابة 700 ألف فلسطيني عن مدنهم وقراهم التي دُمِّرت عمدًا. ثم جعلت من حقّ العودة للفلسطينيين المهجّرين خطًا أحمر غير قابل للتفاوض. في الوقت الذي شجعت فيه تدفُّق اليهود من خارج فلسطين، تحت عنوان "حقّ العودة" إلى الوطن وأرض الأجداد.