فرنسا... مشكلة أقلية أم خطايا دولة؟
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
اهتزّت فرنسا مجدّدا على وقع جريمة قتل، برصاص أفراد من الشرطة الفرنسية، ضحيتها شاب من أصول مغاربية في السابعة عشرة من العمر، كان على وشك التحوّل إلى رقم في قائمة ضحايا رجال الأمن لولا تسجيل مصوّر يفند الرواية المحبوكة من عناصر الشرطة. جريمة بشعة، تدفع تطوّراتها المتلاحقة البلاد نحو أتون حرب أهلية؛ بين الـ"نحن" (الفرنسيون) والـ"هم" (المهاجرون)، بدعوى الدفاع عن النفس وحمايتها من "الغزو" الأجنبي، أو بمبرّر إثبات الذات وفرض الوجود كآخر مختلف.
حدث يأتي في وقت ما زال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعالج فيه جراح معركة سن التقاعد، لينفجر لغم جديد في وجهه، بوقع أكبرٍ وتداعيات أخطر، ما اضطرّه إلى تعليق زيارته الرسمية إلى بروكسل، ليعود على وجه الاستعجال إلى باريس بغية البحث عن سبل لمواجهة أعمال العنف والشغب المتزايدة بشكلٍ غير مسبوق في أحياء الضواحي في مختلف أنحاء المدن الفرنسية. وكذا التغطية على خطايا وزير خارجيته جيرالد دارمانان، الذي خاطب الفرنسيين واعدا إياهم بأن "الجهورية ستفوز"، وكأن البلد في حربٍ مع عدو خارجي.
بدت الحكومة الفرنسية شبه تائهةٍ في تعاطيها مع أزمةٍ غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الخامسة، إذ لأول مرة انتقل المحتجّون من مرحلة الاعتداء على الدولة من خلال مبانيها (رمزية المؤسّسات) إلى مرحلة الاعتداء على المتاجر الخاصة بالنهب والسرقة، فعمدت إلى جانب المقاربة الأمنية القائمة على عسكرة الشوارع والأحياء (45 ألف رجل أمن في الشوارع)، في مشهدٍ أشبه ما يكون بالإجراءات المتّخذة لمواجهة فتيل الحرب الأهلية في إحدى دول العالم الثالث، إلى استجداء مساعدة الآباء والأمهات، وأحيانا تهديدهم ومعهم أطفالهم بالعقوبات القاسية، نظير استمرارهم في المشاركة بالاحتجاجات.
أيا تكن الصيغة التي تهتدي إليها فرنسا لإنقاذ ماء وجهها من أزمةٍ بنيويةٍ مركّبة جرّت عليها وابلا من الانتقاد، وعكست الآية بعدما صارت باريس موضوعا لبيانات الإدانة والاستنكار، بينما اعتادت أن تكون هي صاحبة هذه البلاغات في مواجهة دول العالم الثالث. يبقى الثابت، واستنادا إلى أكثر من مؤشّر، أن المعالجة ستكون بمواجهة أعراض المشكلة، وليس الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الأمر. فالظاهر أن فرنسا، رجال سياسة وأفراد مجتمع، غير مستعدّة بعد للنظر إلى المرآة بعيدا عن المساحيق الخدّاعة.
عجزت الحكومات الفرنسية عن مداواة جرح غائر تقيّح عام 2005، حين انتفضت الضواحي، قرابة ثلاثة أشهر، ضد السياسات التمييزية للداخلية الفرنسية
صحيح أن مسؤولية جهاز الشرطة ثابتة في هذه الأحداث، ما يؤكّد من جديد مشروعية المطالب المنادية بضرورة مراجعة القوانين المنظّمة لعمل هذه المؤسّسة، فآخر إصلاح خوّل نقابات الشرطة سلطاتٍ واسعة النطاق يعود إلى عام 1995. لكن الرئيس لن يُغامر، وحتى إن تجرّأ بعدما أضحى الأمر مدار جدلٍ وطني، فسيكون من أجل ذرّ الرماد في العيون لا غير. وذلك للدور المحوري لهذا الجهاز بالنسبة لحكومته، فقد كان في الصفّ الأول عند مواجهة الاحتجاجات ضد إقرار قانون إصلاح التقاعد، وقبل ذلك كان اليد الطولى له لتنفيذ الإجراءات الصارمة خلال فترة الحجر الصحي.
لكنها تبقى عارضة أمام المسؤولية الجسيمة للدولة على أكثر من صعيد، فما تحصُده فرنسا اليوم ثمار سياسة تطويق المهاجرين داخل تجمّعات سكانية خارج المدن، فالضواحي كانت دوما الوعاء الأوحد لاستيعاب الأجانب، خوفا من تأثيرهم على المواطنين وعلى الثقافة والحضارة الفرنسيتين. ما أوجد عالميْن منفصليْن بعضهما عن بعض داخل فرنسا، لكل منهما إيقاعه الخاص. حقيقة يدركها الجميع، إلى درجة أن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون تعهد في رسالته لعام 2017 بالعمل على معالجتها، بإفرادها بندا خاصا التزم فيه بمكافحة عزلة الشبان داخل الضواحي والتوترات في المجتمع الفرنسي.
إقصاء وتهميش لم تنجح وصفاتٌ كثيرة مجرّبة في تجاوزه، وتحقيق ما يسمّى "الاندماج"، وذلك عائدٌ، بالدرجة الأولى، إلى أن هؤلاء أبناء شرعيون لفرنسا؛ فالمنتفضون ينتمون إلى الجيل الرابع من أبناء المهاجرين، وهم نتاج المؤسّسات التعليمية والبرامج التربوية الفرنسية، وليسوا وافدين أو طارئين عليها أو فقط ضيوفا عابرين. فضلا عن المشكلة الدلالية لكلمة الاندماج في الوعي الجمعي الفرنسي، التي لا تعني شيئا سوى الانصهار والتماهي مع مبادئ الجمهورية وقيمها، من دون أي اعتراف بالخصوصية أو على الأقلّ احترامها، كأضعف الإيمان، في مجتمع يقدّم نفسه مدافعا عن قيم التعدّدية والتنوع (معركة المثليين حاليا).
أضحت الماكرونية عنوانا عريضا لانحسار سياسي خارجي وانهيار مجتمعي داخلي، بدلا من كونها سبيل النجاة الأمثل للدولة والأمة الفرنسيتين
عجزت الحكومات الفرنسية عن مداواة جرح غائر تقيّح عام 2005، حين انتفضت الضواحي، قرابة ثلاثة أشهر، ضد السياسات التمييزية للداخلية الفرنسية، بقيادة نيكولا ساركوزي، الذي انتخب بعد سنتين رئيسا للبلاد (2007 - 2012). داء العطب قديم، إذن، فالسيناريو ذاته يتكرّر اليوم، بعد مرور قرابة 20 عاما، ولكن في سياقٍ بمتغيّرات داخلية وخارجية تزيد الأمر تعقيدا، وتعيد إلى الواجهة سؤالا لطالما تستّر عليه الفرنسيون بسياسة عمى الألوان؛ إنه إشكال "الهوية الفرنسية".
عاجلا أم آجلا ستفلح الحكومة الفرنسية في وأد فتيل هذه الأزمة، لكن ذلك لا يعني قطعا معالجةً جذريةً للموضوع، لأن مثل هذه المعضلة بحاجةٍ إلى سياسي وازن من طينة رجل دولة، لا مجرّد تكنوقراطي بلا طعم ولا لون، يتعاطى السياسة مثل موظفٍ في البنك يحرص على تنويع قائمة زبائنه. هو ذا حال الرئيس ماكرون، المفتقد ما يكفي من الخبرة والدربة لمواجهة أزماتٍ بهذا الحجم والنوعية، فرحلة الرجل نحو دخول قصر الإليزيه أشبه بسقوط هوائي بالمنطاد.
هكذا أضحت الماكرونية (نسبة إلى إيمانويل ماكرون) عنوانا عريضا لانحسار سياسي خارجي وانهيار مجتمعي داخلي، بدلا من كونها سبيل النجاة الأمثل للدولة والأمة الفرنسيتين، كما روّجت ذلك نخب المال والأعمال التي كانت وراء سطوع نجم المخلص الذي انتظر الجميع أن يجدّد البلاد، بإطلاق إصلاحاتٍ كبرى تمهيدا للجمهورية السادسة، لا أن تدفع سياساته البلاد نحو انقسام مجتمعي يُنذر بحربٍ أهلية تأتي على ما بناه الأوائل.
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.