حياد موريتانيا الصعب وودّها المطلوب

حياد موريتانيا الصعب وودّها المطلوب

17 مارس 2024
+ الخط -

وجدت موريتانيا نفسها وسط حراك دبلوماسي غير مسبوق، فقد أضحت محل اهتمام دول وكيانات إقليمية كثيرة طوّقتها، في الآونة الأخيرة، بالعروض واتفاقيات التعاون في شتى المجالات. وانتقلت فجأة من دولة ظلت منذ الاستقلال عام 1960 على هامش الأحداث والأجندات في محيطيها الإقليمي؛ سواء مع دول غرب أفريقيا أو مع دول المغرب الكبير، إلى دولة تتطلع إلى استثمار موقعها الجيوستراتيجي بغية الاضطلاع بدور جديد في شمال أفريقيا وغربها.

دفعت الأزمات والتوترات المتصاعدة في المنطقة بلاد شنقيط نحو مراجعة سياستها، فسعت الدبلوماسية الموريتانية إلى القطيعة مع حقبة الانكفاء الذاتي لصالح الاضطلاع بأدوار محورية، وبأسلوبٍ ناعمٍ قوامه المشاركة والفعل والتأثير، في نطاقٍ جغرافيٍّ ممتدٍّ على جبهات متعدّدة (المغاربية والساحل والصحراء) بات يستأثر باهتمام القوى الكبرى والصاعدة على حد سواء. استندت في ذلك إلى ما توفّر لديها من عناصر، فقد عزّز اكتشاف ثروات مهمة من الغاز المؤهلات الطبيعية في البلد (الحديد والأسماك والذهب...)، فضلا عن أنها بوابة الربط الوحيدة بين شمال أفريقيا وغربها، ومنحتها التضاريس أفضلية التحوّل إلى قطب طاقي عالمي (الهيدروجين)، ناهيك عن بقائها قلعة الاستقرار الوحيدة في ساحل أفريقي مضطرب.

معطياتٌ أخرى أعادت الأوروبيين مجدّدا نحو موريتانيا، فالشهر الماضي (فبراير/ شباط)، حلَّ رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، بمعية رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، بنواكشوط، لبحث سُبل دعم هذا البلد واستقراره؛ وهو آخر حلقة من عقد تجمّع دول الساحل (2014) الذي انفرط تحت وطأة الانقلابات العسكرية. دعم سخيّ (500 مليون يورو) نظير التحوّل إلى شرطي لأوروبا، ينهض بمهمة وقف تدفق أفواج المهاجرين غير الشرعيين (بزيادة 300% هذا العام)، من دول الساحل والصحراء نحو جزر الكناري، بما في ذلك توطين طالبي اللجوء، بحسب ما كشفت عنه الاتفاقية الموقعة بين الطرفين، يوم 7 مارس/ آذار الجاري، للتعاون المشترك لمحاربة الهجرة غير النظامية.

كان حلف شمال الأطلسي (ناتو) مدخل الاهتمام الأوروبي بموريتانيا، فمنذ تحوّل نظامها السياسي إلى "شبه ديمقراطي"، ونجاح مقاربتها الأمنية ضد انتشار الجماعات المسلحة، شرع الحلف في تعزيز علاقاته بالبلد، حيث اضطلع بمهمة تدريب عسكريين موريتانيين، وإنشاء أربع مراكز لإدارة الأزمات في البلاد. وتوطّدت العلاقة أكثر بعد انهيار منظومة الشراكة الساحلية، بسبب الانقلاب في مالي وبوركينا فاسو، فكان محمد ولد الغزواني أول رئيس موريتاني يزور مقر الحلف عام 2021، حيث حظي باستقبالٍ حارّ من الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ. وفتح حضور موريتانيا أشغال قمّة الحلف في مدريد عام 2022، باعتبارها شريكا من خارج "ناتو"، الباب أمام تكهنات بإمكانية إنشاء قاعدة للحلف فوق التراب الموريتاني.

تواجه موريتانيا تجاذباتٍ أقوى، بحكم لعنة الجغرافيا التي جعلتها بجوار العملاقين المتصارعين في المنطقة المغاربية

يحاول الأوروبيون بهذه المساعي كسب ودّ موريتانيا، أملا في صدِّها عن الانضمام إلى قائمة دول الساحل التي اتجهت صوب روسيا، فموسكو لم تتوقّف عن مغازلة نواكشوط، متجاهلة كل هذه التحرّكات، حيث قام ممثل الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف بزيارة تاريخية إلى البلاد مطلع العام المنصرم، لا سيما أنها آخر أوراق الاتحاد الأوروبي في منطقة الساحل، للتقليل من تداعيات الخطايا الفرنسية هناك، بما في ذلك التوغّل الروسي (مجموعة فاغنر في مالي). فضلا عن أنها، من ناحية أخرى، أحسن البدائل عن الغاز الروسي، فالبلد حديث الانضمام إلى منتدى الدول المصدّرة للغاز.

إقليميا، تواجه موريتانيا تجاذباتٍ أقوى، بحكم لعنة الجغرافيا التي جعلتها بجوار العملاقين المتصارعين في المنطقة المغاربية، فقد كانت البلاد، طوال عقود، حريصة على تبنّي سياسة مسك العصا من الوسط، بوضع رجلٍ في الرباط وأخرى في الجزائر، لأن سقف علاقاتها بالجاريْن محكوم دوما بالحفاظ على التوازن؛ توازن أشبه بالسير على حبل سيرك، ففي أي لحظةٍ يمكن لأحد الأطراف أن يهزّه من الجانب الذي يليه، ما يؤثر في هذا التوازن.

فطِنت القيادة الحاكمة في نواكشوط للأمر، فألزمت نفسَها بمسافة أمان، أبعدتها عن منطق الاستقطاب والاصطفاف، خصوصاً أن البلد دفع الثمن غاليا بسبب قضية الصحراء، كما حكى ذلك أول رئيس موريتاني، المختار ولد داداه، في مذكّراته "موريتانيا في مواجهة العواصف والأمواج"، فاختارت نهج سياسية اليد الممدودة، مع حذرٍ ملحوظ تجاه الطرفين.

أضحى وِدّ موريتانيا مطلوباً في عواصم كثيرة، بسعي عدة حكومات نحو شراكات استراتيجية معها، ما يمنحها فرصة التحوّل إلى لاعب محوري في المنطقة

استطاعت نواكشوط أخيراً ضبط إيقاع التحرّك بين الرباط والجزائر بذكاء ملفت، فبعد غيابها، شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عن أشغال الاجتماع التنسيقي الأول، في مراكش، للمبادرة المغربية حول تسهيل ولوج دول الساحل إلى الواجهة الأطلسية. أعقبه، مطلع العام الجاري (2024)، قرار مضاعفة الرسوم الجمركية على الخضر والفواكه القادمة من المغرب، اعتبره محلّلون مغاربة "حرباً اقتصادية" على الرباط. معطيات دفعت مراقبين إلى الحديث عن بوادر أزمة في الأفق، وسندهم في ذلك الحركية النشيطة في الجبهة الأخرى بتبادل الزيارات رفيعة المستوى تخلّلها تدشين مشاريع استراتيجية على الحدود بين البلدين؛ معبر حدودي ومنطقة للتجارة الحرّة، وطريق برّي (تندوف - الزويرات)، وافتتاح أول فرع لبنك حكومي (بنك الاتحاد الجزائري).

تكهّنات بدّدتها موريتانيا، بعد تحفظ الرئيس ولد الغزواني؛ رغم وجوده في الجزائر، عن المشاركة، مطلع شهر مارس/ آذار الجاري، في الاجتماع الثلاثي؛ الجزائري التونسي الليبي، لـ"تنسيق أطر الشراكة والتعاون" الذي اعتبره كثيرون محاولةً لدفن اتحاد المغرب العربي، في رسالة واضحة المغزى مفادها أن سعي الدبلوماسية الموريتانية إلى علاقات ثنائية جيدة مع الجزائر لا يعني بالضرورة الانتماء إلى حلف أو محور. وقبل ذلك، بزيارة ممثل الدبلوماسية الموريتانية الرباط، أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي، في أعقاب عودته من الجزائر، حيث أعلن العزم على حلّ الخلافات العالقة لما فيه مصلحة الطرفين، ما يؤكّد مجدّدا التزام نواكشوط بسياسة النأي بالنفس عن أي تنافسٍ محتدم بين الجيران.

أضحى وِدّ موريتانيا مطلوبا في عواصم كثيرة، بسعي عدة حكومات نحو شراكات استراتيجية معها، ما يمنحها فرصة التحوّل إلى لاعب محوري في المنطقة، متى أحسنت استغلال ما اجتمع لديها من ظروف ومتغيّرات. دور يبقى رهينا بمدى قدرتها على تجاوز معوّقات ذاتية، مرتبطة بطبيعة الدولة (الجيش/ القبيلة)، وهوية المجتمع (العرب/ الأفارقة)... تُقيد سلوكها، وتضبط إيقاعها، وتكبّل حركيتها في منطقةٍ يرتفع فيها منسوب الصراع الجيوسياسي.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري