عن إعلام "السامسونغ" في مصر

عن إعلام "السامسونغ" في مصر

12 فبراير 2023
+ الخط -

انطلقت منذ أيام وصلة من تراشق السباب المتبادل بين إعلاميين مصريين وبعضهم بعضاً، وبينهم وبين كتّاب ووسائل إعلام سعوديين، وذلك على خلفية تراكم التصريحات السعودية التي تفيد بأنها لن تعطي منحاً بدون مقابل، وهذا حقّها فمن حكم في ماله فما ظلم. فبينما انتقد إعلاميو القنوات المملوكة من الأجهزة السيادية الإعلامي عمرو أديب الذي انتقد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مجارياً انتقادات بعض الكتّاب السعوديين، انطلق آخرون تطوّعاً أو فرضاً لكيل السباب للسعودية والسعوديين.

كما كتب رئيس تحرير صحيفة الجمهورية، التي كانت إحدى أكبر الصحف القومية المصرية وأعرقها، مقالاً بعنوان "الأشجار المثمرة.. وحجارة اللئام والأندال"، موجّهاً لسبّ السعودية، وذلك عقب انتقادات كتّاب سعوديين النظام المصري الحالي، وقضية سيطرة الجيش على اقتصاد البلاد، وغيرها من مشكلات البلاد، وانتقاد حاجة النظام الدائمة للتمويل، وتوقع الحصول عليه من دون قيد أو شرط، قوبل المقال بنقد شديد محلياً وخارجياً، لتعود الصحيفة، وبتعليمات من الجهات الأمنية، لتحذف مقال رئيس تحريرها في موقفٍ مخز للصحافة وللدولة المصريتين.

قد يعجب بعضهم من هذه التراشقات بين إعلام نظاميْن تربطهما علاقاتٌ استراتيجية قوية. ولكن عندما ننظر إلى خريطة ملّاك الإعلام المصري، فإن الدول الخليجية التي يجري سبّها هي مالك رئيسي في سوق الصحافة والإعلام المصري الحالي، وإن شئت فانطقها بالمصري، لتصبح "سوء"، فهي بقايا صحافة سيئة الصنعة والسمعة، تقوم على الردح والسباب والشيطنة أحياناً، والتزلّف والتملّق أحايين أخرى، وهي في جوهرها لا تمثّل مصر والمصريين بقدر ما تعبّر عن الوضع المزري للسلطة الحالية، في أردأ نسخة وفي قاعه، حتى تجد لها قاعاً جديداً، وكأن مهمتها البحث عن قاع.

صحافة وإعلام هجرَهما كل المهنيين، وأصبح منتسبوهما إما مطبلين مهللين يسبّحون بحمد السلطة ومن بيده السلطة، أو متزلفين للحصول على صورة مع ضابط هنا وعسكري هناك، لعلها تنفعهم عند قضاء مصلحة حكومية، ما يذكّرك بما يسميه المصريون "الحتّة"، وهي قطعة قماش يمكنك أن تستعملها في مسح كل شيءٍ حتى الحذاء.

صحافة وإعلام هجرَهما كل المهنيين، وأصبح منتسبوهما إما مطبلين مهللين يسبّحون بحمد السلطة ومن بيده السلطة، أو متزلفين للحصول على صورة مع ضابط هنا وعسكري هناك

مثل هذه الصحافة وذلك الإعلام إنما هو سبّة في جبين العمل الصحافي والإعلامي المصري. المشكلة أنه لا يعبّر عن ذاته حتى، بل عن جوهر النظام السياسي الأمني الذي يطلب التنفيذ الحرفي للتعليمات، كما لو كنّا في كتيبة عسكرية، الأمر الذي حدا بمذيعة أن تقول إنه جرى التوجيه من هاتف "سامسونغ"، وهي على الهواء مباشرة، جرّاء خطأ فادح لمعدّي إعلام "السامسونغ" هذا.

يسبّ هذا النوع من الصحافة والإعلام أصحابه ومنتسبيه، سواء كان هؤلاء ممن يمتلكونه ملكية حقيقية، ومعروفُ حجم تغلغل بعض الدول الخليجية وسيطرتها على القطاع شراء وبيعاً وإنشاء لبعض القنوات والصحف والمواقع، أو حتى علاقتها برجال الأعمال المحليين والأجهزة السيادية المالكة لتلك القنوات، وكذلك علاقة السعودية تحديداً بأشهر الإعلاميين، وبالذات الأخوين عمرو أديب وعماد أديب، إلى الحد الذي يشيع فيه أنهما إعلام السعودية في مصر، وهما ضمن الأعلى مشاهدة والأغلى أجراً.

لا يعفي هذا التردّي الإعلامي مالكيه في الداخل والخارج، وخاصة السعوديين، سواء من مسؤوليتهم عن هذا التردّي، أو محاولة بعض كتّابهم تبرئة أنظمتهم مما آل إليه الوضع الاقتصادي والاجتماعي والإعلامي في مصر، فهذه الأنظمة هي من أتت بهذا النظام ودعمته مالياً وسياسياً وإعلامياً، وعوّمته كل تلك السنوات، وبدونها لم يكن من الممكن تخيّل وصوله إلى السلطة، أو بقائه فيها كل تلك السنوات.

أفسدت هذه البلدان هذا الإعلام بالمال وغيره، وصادف هذا استعداداً وقابلية شديدة للإفساد، فهو قطاع ينخر فيه الفساد والرشوة والمحسوبية التي تجعل من المستحيل أن يمرّ شخصٌ إلى نقابة الصحافيين، أو إلى إعداد برنامج مغمور من دون واسطة ومحسوبية، أيا كانت كفاءته. دخلت الإمارات والسعودية في حملة استحواذ وشراءات للمواقع والصحف والقنوات منذ ترتيبات "3 يوليو" (2013)، لكنها لم تستطع أن تغيّر من تلك العقليات إلا إلى الأسوأ، فأصبحوا يعملون وفق قاعدة المنح والمنع، بل وحتى بعض المواقع التي كانت تحمل تجارب صحافية شبه مستقلة جرى السيطرة عليها عبر الأجهزة السيادية وثيقة الصلة بالمستثمرين في الإعلام من تلك الدولتين اللتين لم تكتفيا بالتوجيه المالي والسياسة التحريرية العامة، بل دخلتا أيضاً في أدقّ التفاصيل.

على إعلام النظام في مصر إذا ارتضى أن يهين نفسه ألا يترك مصر مهانةً بمعارك وهمية خاسرة مع الخليج

ليست هذه المرّة الأولى للتراشق الإعلامي بين "إعلاميي السامسونغ" وكتّاب السعودية، فقد شهدت السنوات العشر الماضية أكثر من معركة كلامية، كان أشهرها في 2015 وفي 2021، ووصلت حد معايرة السفير السعودي السابق، أحمد القطان، صحافيين وإعلاميين وكتّاباً كباراً بما يأخذونه من عطايا وهبات، على خلفية تراشق كلامي وسباب جرى حينها؛ لأن هناك فجوة كبيرة بين الوعود التي ضخّم الإعلام غير المهني من أرقامها للاستثمارات الخليجية التي ستأتي عقب مؤتمر دعم الاقتصاد المصري، والواقع الذي يقول إن كل هذه الوعود المضخّمة لم تأتِ على النحو المأمول من النظام في مصر وأذرعه الإعلامية التي بالغت كثيراً في تقدير هذا الدعم.

وإذا كان النظام المصري الحالي لا يريد أن يستمع إلى معارضيه في الداخل والخارج في ما يتعلق بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة، فلعله يأخذها من الكاتب السعودي تركي الحمد الذي أسمع قلمُه رؤساء تحرير الصحف المصرية، عندما قال إن مصر، بواقعها الحالي، "هي مصر البطالة والأزمات الاقتصادية والسياسية ومعضلات المجتمع وتقلّباته الجذرية العنيفة"، ولعله يتوقف لحظاتٍ عن سماع التهليل والتطبيل لإنجازاته الوهمية بينما تغرق السفينة.

يبقى على إعلام هذا النظام أنه إذا ارتضى أن يهين نفسه ألا يترك مصر مهانة بمثل هذه المعارك الوهمية الخاسرة مع الخليج، فلا هو يحتمل توتّراً في العلاقة مع مموليه الرئيسيين، ولا الاقتصاد المصري والمصريون في الخارج يحتملون صعود خطاباتٍ شعبوية محرّضة ضدهم في تلك البلدان الأكثر استضافة للعمالة المصرية، والتي بدأت أصواتٌ شعبوية عديدة فيها تنتزع مساحاتٍ في الإعلام التقليدي ووسائل الإعلام، بل ودوائر السلطة أحياناً، وعلى مسيّري "إعلام السامسونغ" أن يدركوا هذا قبل فوات الأوان، وأن يخافوا على أنفسهم حتى بتعبير عمرو أديب الذي صرّح بأنهم ليسوا خائفين على مصر، بل خائفين على أنفسنا وعيالنا، من هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي.