بماذا يعِد القرنُ السابع عشر التونسيّين؟

بماذا يعِد القرنُ السابع عشر التونسيّين؟

15 يوليو 2022
+ الخط -

تمرّ تونس اليوم بمخاضات عسيرة ممضّة موجعة لشعبها ولنخبها على السّواء. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه منذ الثورة نهاية 2010 ومطلع 2011 لم يعلُ صوتٌ فوق أصوات أساتذة القانون الدستوري، إذ انبثقت في الجميع حاجة إلى فقهاء القانون الدستوري، ليجدوا المخارج والمداخل الملائمة لانتقال السّلطة وتبادلها، بعد المأزق الذي وضعتهم فيه ثورة الحريّة والكرامة حين توقّفت يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011 على أعتاب قصر قرطاج، ورفضت أن تكمل الخطوة الأخيرة.

والمطّلع على مشروع دستور "الجمهوريّة الجديدة" المنشور يوم 30 يونيو/ حزيران 2022، في الرائد الرسمي للجمهوريّة التونسيّة (الجريدة الرسميّة)، تطالعه بقوّة، منذ التوطئة، هذه الفقرة: "وإنّنا، في هذا الاستحضار لتاريخ تونس الدستوري، تقتضي الأمانة التّأكيد على أنّ من بين أهمّ النصوص الدستورية الدستور الذي عرفته تونس في مطلع القرن السابع عشر وكان يحمل اسم الميزان، ويعرف عند السكّان آنذاك بالزمام الأحمر، لأنّ سفره كان أحمر اللّون. وقد حرّره تونسيون ممن كانوا مؤمنين بقيمة العدل الذي يرمز إليه الميزان. وتم توزيعه على السكان الذين كانوا يلوذون بما فيه من أحكام إن توقعوا حيفاً ممن كانوا يسمون بالخاصة". وقد حافظت هذه الفقرة على وجودها في التعديل المنشور في الجريدة الرسميّة التونسيّة يوم 8 يوليو/ تموز 2022. وهو ما يعني الإيمان الكامل بمحتواها.

هل هناك دستور تونسي في القرن السابع عشر لا يعرف عنه المؤرّخون والباحثون شيئاً؟

إنّها فقرة مربكة للثقافة والتاريخ. هل هناك دستور تونسي في القرن السابع عشر لا يعرف عنه المؤرّخون والباحثون شيئاً؟ الدساتير التي أنشئت في تونس معروفة، وهي دستور عهد الأمان 1861 الذي صدر في عهد محمد الصادق باي (1859 ــ 1882)، وهو بالمناسبة أوّل دستور عربي، ثمّ دستور الجمهوريّة الأولى سنة 1959 الذي أصدره المجلس القومي التأسيسي بعد الاستقلال، فدستور النظام المؤقّت للسلط العموميّة الذي أصدر سنة 2011 بعد تعليق العمل بدستور 1959 إثر الثورة، وصولاً إلى دستور الجمهوريّة الثانية التوافقي الذي صدر سنة 2014. أين "الميزان" أو "الزمام الأحمر" الذي أشادت به توطئة مشروع دستور الجمهوريّة الجديدة لسنة 2022؟ ماذا في تونس القرن السابع عشر، حتى يُشار إليه مرجعاً رئيسيّاً لبناء جمهوريّة جديدة تعِد بالخير العميم؟

بحثنا، في البداية، عند القدامى من مؤرّخي تونس خلال القرن السّابع عشر من أمثال الوزير السرّاج (1659 ـــ 1735) في كتابه "الحلل السندسيّة في الأخبار التونسيّة"، والبارون ألفونس روسّو (1820 ــ 1870) في كتابه "الحوليّات التونسيّة منذ الفتح العربي حتى احتلال فرنسا للجزائر، تعريب وتحقيق محمد عبد الكريم الوافي، وطبعاً ابن أبي الضياف (1803 ــ 1874) في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان"، فلم نعثر له على أثر.

وجدنا الإشارة إلى اتفاقيات يهمّ أغلبها الملاحة البحريّة ومقاومة القرصنة وحقوق الجاليات الأوروبيّة في تونس والامتيازات الممنوحة لها وتحرير المساجين الأوروبيّين في السجون التونسيّة، على غرار اتفاقيّة إنكلترا مع تونس في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1662، واتفاقيّة رويتر الهولنديّة مع تونس في 30 سبتمبر/ أيلول من السنة نفسها، واتفاقيّة الدوق بوفور الفرنسي مع تونس في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 1665، حيث "حمل هذا الدوق الفرنسي الإيالة التونسيّة على الإذعان لعدد من التدابير المتعلّقة بالملاحة البحريّة وبالتجارة وبامتيازات الرعايا الفرنسيّين. ومن المفروغ منه أنّ أحد تلك التدابير كان يقضي بعتق جميع الأرقّاء الفرنسيّين المحتجزين في السجون التونسيّة.

وقد صيغ هذا الاتفاق (يصيب قارئه بالضّجر) على شاكلة جميع نصوص الاتفاقيات التي تُبرم عادة في هذا المضمار، إلّا أنّه يختلف عنها أساساً في ما يتعلّق بأحد بنوده، وهو البند السابع عشر الذي يقضي باعتبار القنصل الفرنسي الممثّل الطبيعي لجميع الدول التي تمارس التجارة مع تونس، فيما عدا الإنكليز والهولنديّين الذين كانوا قد عيّنوا، قنصلاً خاصّاً بهم في الإيالة" (البارون ألفونس، ص 122).

ثمّ ساءلنا المحدثين، نقرأ ما يقوله الباحث في علم الاجتماع ووزير التربية السّابق والنّائب في البرلمان المنحلّ سالم لبيض: "لم تشر كتابات المؤرّخين التونسيّين المختصّين في العصر العثماني الأوّل والثاني (1574 ـــ 1705 ــ 1881) من أمثال عبد الجليل التميمي، ومحمد الهادي الشريف، وتوفيق البشروش، وخاصّة كتابه "جمهوريّة الدايات في تونس" (1591 ــ 1675) إلى وجود نصّ إصلاحي دستوري على غرار نصّ دستور عهد الأمان (1855 ـــ 1861) يسمّى الميزان أو الزمام الأحمر". (مقال منشور في جريدة الصباح التونسيّة بعنوان: "الغالب والمغلوب بين مشروع بلعيد ودستور سعيّد الجديد"، 03 يوليو/ تموز 2022)

لا أثر في القرن السابع عشر، إذن، للزمام الأحمر، فلم يعثر عليه القدامى ولا المحدثون! فهل في تاريخ تونس في القرن السابع عشر ما يجعل الثقافة الدستوريّة للجمهوريّة الجديدة تُؤخذ به، فتحيل عليه وتعدّه مرجعاً رئيسيّاً للتأسيس بعد مضيّ أزيد من خمسة قرون؟ شهد القرن السابع عشر صراعاً بين البايات والدايات لم يخفت ولم يهن، ولم تعرف تونس خلاله الدعة والأمن والاستقرار. فسنة 1591، ثار الدايات على سلطة الباشا المعيّن من السلطان العثماني المعزّز بأكثر من ثلاثة آلاف جندي إنكشاري، واستولوا على الحكم. وابتداءً من سنة 1643 تراجعت قوّة الدايات مقابل تنامي سلطة البايات المراديّين، فهل من بين دايات القرن السابع عشر قدوة يحلم التونسيّون بأن يحكمهم مثيل له؟

لا شيء في القرن السابع عشر يُحلِم التونسيّين. كان النظام السياسي قائماً على التناحر، والنظام الاجتماعي تغلب عليه الحروب الأهليّة

هل يكون عثمان داي (1550ـــ 1610)، وهو جندي إنكشاري الأصل استولى على كلّ السلطات ووصف بالمستبدّ، إذ تخلّص من كلّ منافسيه؟ أم يكون يوسف داي (1560 ـــ 1637) الذي لا يختلف حكمه عن حكم سلفه عثمان داي، من حيث الاستفراد بالسلطة والاستبداد والتخلّص من منافسيه؟ أم ربّما أحمد خوجة داي الذي حكم بين 1640 و1647 فتفشّى الطاعون في عهده، وأنشأ فرقة "الزمالة" التي تتألّف من نخبة رجال القبائل الموالية له لإخضاع أعراب الدواخل بالغلبة والقهر؟ أم لعلّه حمودة باشا المرادي الذي دام حكمه 35 سنة من 1631 إلى 1666، مستخدماً فرقة "الزواوة"، وهي مليشيا مستقدمة من بلاد القبائل الجزائريّة للقمع وفرض الجباية، مضاعفاً من فرق "الصبايحيّة" (العملاء والقوّادة) في كلّ الجهات التونسيّة، معتبراً البلد ميراثاً قسّمه بين أولاده الثلاثة؛ مراد ومحمد الحفصي وحسن، باذراً بذور الاضطراب والفتنة والاقتتال بينهم؟ أم لعلّها تكون السنوات العشر من الصراع الدموي على السلطة بين الأخوين محمد باي وعلي باي، ابنَيْ مراد الثاني حفيدَيْ حمودة باشا؟ أم هو السفّاح المريض مراد الثالث أو مراد بوبالة، كناية عن سيفه الكبير الذي كان يقطع به الرّقاب، كما سمّاه الكاتب والوزير ورئيس مجلس النوّاب الأسبق الحبيب بولعراس (1933 ــ 2014) في مسرحيّته "مراد الثالث"، ومراد الثالث (1699 ــ 1702) هو الذي ختم الحكم المرادي لتطلع بعده الدولة الحسينيّة؟

لا شيء، إذن، في القرن السابع عشر يُحلِم التونسيّين، إذ كان النظام السياسي قائماً على التناحر والتقاتل، والنظام الاجتماعي تغلب عليه العروشيّة البغيضة والحروب الأهليّة .. النقطة المضيئة في القرن السابع عشر قدوم الموريسكيّين من الأندلس في عهد عثمان داي سنة 1609 (أكثر من نصف المهاجرين من الأندلس كانت وجهتهم تونس، وعددهم ما بين 40 و50 ألفاً)، بعد أن طردتهم حكومة ألفونس الثاني، إذ "يتحدّث المؤرّخون التونسيّون كابن أبي دينار، والوزير السرّاج، وابن أبي الضياف عن إنجازات المهاجرين الأندلسيّين في تونس؛ حيث ذكروا أنّهم بنوا في العاصمة حيّ "حومة الأندلس" وجامعها، وأوقفوا عليه أوقافاً نافعة، وبنوا المدرسة الأندلسيّة قرب سيدي يونس سنة 1034 هـ. وعمّروا أو أعادوا تعمير بعض مناطق البلاد وزرعوها بأشجار الزيتون والعنب وغريب الفواكه. كذلك طوّروا صناعة طواقي "الشاشية" التونسيّة الشهيرة، بحيث صارت تُسوّق إلى المشرق العربي. وعبّدوا الطّرق لمرور عجلات "الكرويطة". وكان للأندلسيّين تأثير معماري واضح في تونس تميّزت به كثير من مساجدها ومبانيها العامّة، وأهمّ تأثيرات المعمار الأندلسي فيها استعمال "الزّليج" الملوّن في تزيين الجدران وواجهات المباني." (البارون ألفونس، ص 110) غير أنّه لم يؤثر عن الموريسكيّين كتابة "الزمام الأحمر"، فمن ألهم بهذا المرجع المفقود؟ وهل يصحّ التأسيس الجديد على إحالة غير موجودة؟

مصطفى القلعي
مصطفى القلعي
كاتب وناقد ومترجم تونسي