بل تبني لي أيّها المحتلّ

بل تبني لي أيّها المحتلّ

09 سبتمبر 2023
+ الخط -

مهولٌ الاستيطان الصهيونيّ على أرض فلسطين، لا ريب في ذلك، وقد يوحي بأنّه بات ثابتاً ونهائيّاً. هذا في النظرة اليائسة، المسلّمة بالواقع، لا بنظرة المؤمن بأنّ تحرير كامل أرض فلسطين التاريخيّة آتٍ لا محالة. علّمنا التاريخ أنّ لتحرير الأوطان المستعمرة أو المحتلّة زمنه المختلف عن الزمن العاديّ، إذ يُقاسُ بعقودٍ قد تبلغ أكثر من قرن، ولعلّ مَثَلَيْ الجزائر وأفريقيا الجنوبية كافيان، لو تناولنا وقائع تاريخيّة من عصرنا الراهن. صَبَرَ شعبا البلدين طويلاً ليتحرّرا، والمؤكّد أنّ فئات منهما كانت تحسبه أمراً مستحيلاً، أو في الأقلّ شبه مستحيل، أن يشهد البلدان ساعة التحرير وقد أزفّت بعد طول عذاب وألم واستشهاد ونضال.

ينطبق الواقع نفسه على فلسطين وشعبها المقهور والمعذّب، الذي يُقتل يوميّاً، يتألّم، يناضل، يقاوم، يثأر لدمه المهدور، ويبذل المستحيل ليثبت في أرضه، حتى لو كانت هذه الأرض مجرّد مخيّم صغير بائس مثل جنين يعجّ بساكنيه في أقسى ظروف العيش وأمرّها، ومثل ما هو "معتقل" غزّة في الهواء الطلق تحت الحصار والجوع والمجازر والاغتيالات والبطالة والظروف اللاإنسانيّة التي يكابدها صغار القطاع وشيبه وشبّانه ونساؤه المكلومات بفلذات أكبادهنّ شهداء. كذلك الضفّة التي يقضمها الاحتلال الإحلاليّ المتوحّش، والتي تعاني فوق التهويد والصهينة والأسرلة من مُطلّاتها وهضابها سَيْلاً غير متوقّف من الاجتياحات، من غير أن ننسى تقطّع أوصالها بحواجز الإذلال والقهر، حتى كاد الفلسطينيّ يحتاج إلى إذن انتقال من غرفة إلى غرفة داخل منزله، فإلى هذا الحدّ يمكن أن نصف الواقع هناك مجازاً.

ثمّة حادثة تُروى عن شاب فلسطينيّ اضطرّ، ككثر من أقرانه، إلى العمل لدى المحتلّ، تحت وطأة العَوَز والفاقة الشديدين، عاملَ بناء في إحدى المستوطنات، وأتته الشجاعة بدفعٍ من عنفوان وطنيّ وإحساسٍ بالكرامة وعزّة النفس ليتوجّه إلى صهيونيّ محتلّ يتابع ورشة بناء ما يعتبره "منزله" في المستوطنة، سائلاً إيّاه:

- لمن هذا المنزل الجاري بناؤه؟ استغرب المستوطن سؤال العامل الفلسطينيّ "الوقح"، وأجابه بالصلف والعنجهيّة الصهيونيين المعهودين: هذا المنزل لي بالتأكيد... لم يتردّد الشاب الفلسطيني في الردّ عليه: بل أنتَ تبني هذا المنزل لي.

أطفال فلسطين اليوم، عرسان المستقبل غداً، سيقطنون بيوت المستوطنات القائمة على أرض فلسطين .. تهيّأوا.

بمعزلٍ عمّا إذا كانت هذه الحادثة واقعية وحصلت، إلّا أنّ الاستعارة التي تنطوي عليها والعبرة العميقة هي الأهمّ والأبلغ تعبيراً ودلالةً، فهي تُقيم الفرق بين الاستسلام السهل، قصير النظر، والرؤية الوطنيّة، بعيدة النظر... والأمل. وأميل بحزم إلى الردّ المعبّر الذي واجه به الشاب الفلسطيني، مسلوب الأرض والكرامة، ذاك المستوطن الذي يسرق منه أرضاً ووطناً هما بمنزلة الروح، كي يقول له: سنستعيد أرضنا مهما احتلّيتم وجرفتم وبنيتم، ومهما سلبتم وقتلتم. سنستعيد هذه الأرض كاملةً، وسترون قريباً أنّ كلّ ما بنيتموه سيؤول إلينا ملكيته مسرورين غير شاكرين، لاعنين ساعة وطأتم أرضنا وأرض أجدادنا. هذه المستوطنات التي تبنونها فوق هضابنا وحقولنا وبساتيننا سننعم بها نحن، ولن تبقوا في هذه الأرض المقدّسة المرويّة بعرق أهلنا وأسلافنا.

ما توحيه هذه الحادثة، واقعيّة أم لا، ليس خطاباً حماسيّاً منطوياً على أمل التحرير واستعادة الأرض، على ما أدمنه خطابنا السياسيّ عموماً، بل توحي حتميّةً لها أسانيدها التاريخية في جهات العالم الأربع، فما استمرّ في التاريخ استعمار (هل ثمّة ما هو أفظع من استعمار بريطانيا الهند، والفرنسيين والبريطانيين بلاد الشام؟)، ولا دام احتلال غاصب للأرض والتاريخ. لن تستطيع المدعوّة "إسرائيل" مخالفة قانون التاريخ وحتميّته، إذ لا تختلف عن محتلّين أشباهها بشيء. ما الذي يميّز محتلاً عن محتلّ تاريخيّاً؟ لا شيء. لِمَ يكون هذا الكيان الصهيونيّ المسخ استثناءً؟ هو ليس الآن في "صحنه" الطبيعيّ، بل في بيئة داخل فلسطين ومحيطها معادية، نابذة، لافظة، غير قابلة بكيان إحلاليّ مجرم، وفوق ذلك منغلق داخل غيتو ذي جدران مرتفعة، وفوق فوق ذلك عنصريّ، متعالٍ، متعجرف، عُظاميّ يظنّ نفسه نازلاً من فخذ جوبيتر، والأفظع (المضحك لي) أنّه "شعب الله المختار". شعب العنجهيّة الفارغة هذا والدوغما الخرافيّة ستنهيه معزولاً، متعفّناً، منهاراً وحده وربما دونما حاجة إلى حرب تحرير... من يعلم؟ فلنتشبّث بالأمل واليقين، ولنطرد اليأس والشكّ.

أطفال فلسطين اليوم، عرسان المستقبل غداً، سيقطنون بيوت المستوطنات القائمة على أرض فلسطين .. تهيّأوا.