في حقيقة موقف روسيا بوتين حيال الكيان الصهيوني

في حقيقة موقف روسيا بوتين حيال الكيان الصهيوني

12 ابريل 2024

الرئيس الروسي بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في القدس المحتلة (23/1/2020/Getty)

+ الخط -

كثيرةٌ الأسئلة المطروحة منذ سنين طويلة، والمتعاظمة مع اندلاع مأساة غزّة، بشأن موقف الدولة الروسية ورئيسها فلاديمير بوتين من القضية الفلسطينية ومن الكيان الصهيوني. ولم يكن الجواب يوماً بالوضوح الكافي، المقنع والشافي للغليل. تعدّدت القراءات والتحليلات، تفاوتت وتعارضت، ولم تصل إلى حقيقة جليّة واحدة. تناقضات عديدة تكتنف هذا الموقف من نوع: تستقبل روسيا قيادات حركة حماس من جهة ولا تبدي، في المقابل، أيّ موقف حاسم من المجازر الإسرائيلية المرتكبة في غزّة، باستثناء الفيتو الروتينيّ في مجلس الأمن! تملك قاعدة عسكرية في سورية وتوفّر غطاء للطيران الإسرائيلي لضرب الأهداف التي يريد على امتداد الأراضي السورية، ويجري إعلام المرجعيات الروسية السياسية والعسكرية بالأمر، وإن قبل دقائق من الغارات! تكشف بوضوح أنّها تتغاضى عن الإبادة الحاصلة حتى الساعة في غزّة، إذ يحرف هذا التغاضي الأنظار عن غزوتها التدميرية لأوكرانيا وتُنسي العالم قضية هذا البلد.

في نظرة تاريخية إلى ما قبل المرحلة البوتينية، نرى أنّ النهج الروسيّ حيال منطقتنا والصراع العربي – الإسرائيلي تبدّل مع الزمن، فخلال المرحلة السوفييتية والحرب الباردة، كان ثمة عداء كبير تجاه المدعوّة "إسرائيل"، وكان الأمر عهدذاك مرتبطاً بمعاداة اليهود المتجذّرة في روسيا، فضلاً عن شكوك الكرملين في أنّ لليهود السوفييت ولاءات مزدوجة بعد نشوء "دولة إسرائيل" عام 1948، فمنع الاتحاد السوفييتي اليهود من مغادرة البلاد إلى "دولتهم" المفترضة، وحتى إلى أي مكان آخر. وكان ثمّة اهتمام كبير في الاتحاد السوفييتي ببناء علاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية المعادية للكيان الصهيوني. وفي التسعينيات، تعاون الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف مع الرئيس الأميركي جورج بوش الأب لعقد مؤتمر مدريد في مارس/ آذار 1991 حول الصراع العربي – الإسرائيلي، ولعبت الحكومة الروسية آنذاك دوراً في الجهود الدولية القائمة لحلّ الدولتين، وكانت العلاقة بين روسيا و"إسرائيل" لا تزال شديدة التوتر.

مطلع العقد الأول من القرن العشرين، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، رفعت قيود الدولة الروسية المفروضة على اليهود وسمح لهم بمغادرة البلاد، فكانت موجة واسعة من الهجرة الروسية ودول "ما بعد الاتحاد السوفييتي"، مثل بيلاروسيا ومولدوفا وأوكرانيا والقوقاز وآسيا الوسطى، إذ توجّه معظم اليهود إلى "إسرائيل" والولايات المتحدة وأوروبا، فأدّت الهجرة الجماعية المستمرّة إلى تغيير وجهة نظر موسكو حيال "إسرائيل". وبدأ بوتين يرى في المهاجرين "فرصة" لروسيا، لامتلاكه شخصياً علاقات مع العائلات اليهودية التي نشأ في كنفها فتى صغيراً في ليننغراد (أصبحت سان بطرسبرغ) في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فهو ترعرع في شقة مشتركة، ويتحدّث كثيراً (في ما يشبه السيرة الذاتية) عن زوجين يهوديين مسنّين أصبحا بطريقة ما والديه بحكم الأمر الواقع، أو وصيين نوعاً ما، إذ كان والداه دوماً غائبين بسبب العمل. كان الزوجان اليهوديان يعتنيان به. فضلاً عن أنه كان مفتوناً بمدرّسة اللغة الألمانية، وهي يهودية أيضاً وهاجرت لاحقاً إلى "إسرائيل"، ويذكر أنّه زارها رسمياً واشترى لها شقة لتقاعدها في روسيا إذا رغبت في العودة.

القضية الكبرى بالنسبة إلى الكيان الصهيوني كانت ولا تزال متعلقة بتحوّل روسيا إلى الاعتماد على إيران في الحصول على مسيّرات وغيرها من أشكال الدعم

بدت علاقات بوتين الشخصية باليهود سبباً في تشكّل العلاقة الروسية – الإسرائيلية في مطالع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ويتكلم بوتين تكراراً عن "يهودنا" (المصطلح الذي يستخدمه "ناشي يڨري") عند ذكره السكان الإسرائيليين الناطقين بالروسية الذين يرى فيهم عنصراً معزّزاً للعلاقة بين "إسرائيل" وروسيا ومصدراً للاستثمار الاقتصاديّ المستقبلي، خصوصاً في مجال التكنولوجيا المتقدّمة. حتى أنه بنى متحفاً لليهودية في موسكو وأضحى، بحسب تعبيره، "شفيع اليهود"، ويلتقي بانتظام الحاخام بيريل لازار المقيم في موسكو ويردّد عن لسانه النكات التي يرويها له لازار. ومعروفٌ أنّ هذا الحاخام بات أحد المقرّبين منه في فترة ولايته الرئاسية الأولى. وبذلك، تعكس هذه الصورة علاقة دافئة مع "إسرائيل" وبقايا الجاليات اليهودية في روسيا، كما أنّ بوتين يصنّف اليهودية من الديانات الرسمية الأصليّة في روسيا إلى جانب المسيحية الأرثوذكسية والإسلام.

يستخدم بوتين أيضاً العلاقة مع "إسرائيل" لتكريس موقع بلاده في الشرق الأوسط، فهو يرى هذه الدولة اليهودية ركيزة أساسية للسياسة الخارجية الروسية في هذه المنطقة، إلى جانب السعودية وإيران، فمن أولوياته تمتُّع روسيا بعلاقات جيدة مع الجميع. ويعتبر تدخّله في سورية "جزئيّاً" لضمان حماية "إسرائيل "المهدّدة، وفق رؤيته، بشكل مباشر من إيران ووكلائها في المنطقة، ومن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الوقت نفسه. حتى أنه يُطمئن الإسرائيليين إلى أنّه موجود في سورية لحماية "إسرائيل" من الهجمات على مرتفعات الجولان. وقد أعقب التدخّل الروسي مباشرة إنشاء روسيا و"إسرائيل" قناة تواصل دائم لتجنّب الصدام، بحيث تُبلع "إسرائيل" روسيا بكلّ ضربة ستشنّها ضدّ وكلاء إيران في سورية، وتوافق روسيا على ثني إيران ووكلائها عن الهجمات المضادّة. بات الوجود الروسي في سورية عاملاً مهماً، إلى حدّ أنّ المسؤولين والمعلّقين في "إسرائيل" يشيرون إلى روسيا بأنها "جارتنا في الشمال".

تقول أصواتٌ إسرائيلية إن روسيا تحوّلت إلى عدوّ ل"إسرائيل" بعد عقود من تحسّن العلاقات

تولي روسيا اهتماماً كبيراً لعلاقتها مع "إسرائيل"، إذ لطالما تحدث بوتين عن أمن "إسرائيل". وبقي الأمر على هذا النحو حتى غزو روسيا أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، إذ بدأ الكرملين يصف فولوديمير زيلينسكي بـ "الرئيس اليهودي لأوكرانيا" وبأنّه نازي، فأهان بذلك "إسرائيل" مباشرة في هذه المسألة، علماً أن "إسرائيل" بقيت حذرة جداً في تعاملها مع القضية الأوكرانية، ولم تشأ أن تؤدّي التوترات بين مختلف الجاليات اليهودية الناطقة بالروسية إلى زيادة تعقيد شؤونها الداخلية، فالقضية الكبرى بالنسبة إلى الكيان الصهيوني ليست معركة روسيا مع زيلينسكي بكونه يهودياً ومحاولة الكرملين تشويه سمعته، بل كانت ولا تزال متعلقة بتحوّل روسيا، مع الوقت، إلى الاعتماد على إيران في الحصول على مسيّرات وغيرها من أشكال الدعم العسكري والسياسي.

عانت روسيا نكساتٍ عديدة في المراحل الأولى من حربها على أوكرانيا التي تلقت مسيّرات من تركيا، ولم تكن روسيا في الماضي تولي اهتماماً بالمسيّرات في تطويراتها العسكرية، واضطرّت فجأة إلى اللجوء إلى طهران للحصول منها على مسيّرات متطورة من صنعها. ومع هذا التعاون بين روسيا وإيران (إلّا في سورية!) بدأت العلاقات مع "إسرائيل" تشهد تراجعاً وتوتراً، ليصبح السابع من أكتوبر (2023) لحظة القطيعة الأخيرة بين روسيا و"إسرائيل"، وليشرع بوتين في الإدلاء بتصريحات "معادية للسامية"، بحسب بعضهم، لم يتفوّه بها في السابق، متراجعاً علناً عن العلاقة الوثيقة جداً التي تربطه برئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، الذي وُصف ذات فترة بأنّه "رجل بوتين" ! فهو في الخانة نفسها للرئيس المجري فكتور أوربان والتركي رجب طيب أردوغان والصيني شي جين بينغ.

كان الروس يشيدون على الدوام بـ"جرأة" نتنياهو وقيادته الحاسمة وطريقة إدارته أمن "إسرائيل" القومي. لكن الكرملين بعد "طوفان الأقصى" كال الانتقادات له

كان الروس يشيدون على الدوام بـ "جرأة" نتنياهو وقيادته الحاسمة وطريقة إدارته أمن "إسرائيل" القومي. لكن الكرملين بعد "طوفان الأقصى" كال الانتقادات له ول "إسرائيل"، وأعادت روسيا سريعاً إحياء علاقاتها العلنية مع ممثلي حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى المقاومة التي قُلّصت العلاقات معها سابقاً كرمى لعيني نتنياهو! أمسى احتضان "حماس" والتنصّل من "إسرائيل" مرتبطاً اليوم باسترضاء العدد الكبير من المسلمين في روسيا والجمهوريات الإسلامية ضمن اتحادها الفدرالي، ما يفسّر الموقف الروسي في حادثة 29 أكتوبر (2023) في داغستان، حيث اقتحمت مجموعة من مئات الشبّان المسلمين المطار بحثاً عن طائرة إسرائيلية وركاب يهود قادمين من الكيان المحتلّ.

ثمّة عنصر آخر مهمّ في العلاقة الروسية – الإسرائيلية لا يضاء عليه بما يكفي، فالروس مهتمّون كثيراً بفكرة تحقيق الإسرائيليين انفراجاً في العلاقة مع السعودية، لتستفيد روسيا منها اقتصادياً وسياسياً. ولعلّ بوتين ما فتئ يعتقد أنه قادر على استعادة العلاقات الجيدة مع "إسرائيل" بعد انقشاع الدخان عن غزّة. علماً أنّ أصواتاً إسرائيلية تقول إن روسيا تحوّلت إلى عدوّ لـ"إسرائيل" بعد عقود من تحسّن العلاقات.

هي محاولةٌ إضافيةٌ لفهم تموضعات روسيا في عهد "قيصرها" الغامض، تُضاف إلى محاولات كثيرة تسعى، عبثاً ربما، إلى هذا الفهم الملغّز، المعقّد والصعب. والله أعلم ما الحقيقة في لعبة المصالح والأمم.