التصويت بدماء السوريين

التصويت بدماء السوريين

30 مايو 2021
+ الخط -

منذ بدء الحملة الانتخابية للرئاسة السورية، غاب - كما هو منتظر - التشويق المرافق عادة لانتخابات الدول الديمقراطية، أو حتى التي تدّعي ممارسة العملية الانتخابية في ظلّ الحدّ الأدنى من الشروط المقبولة. وذلك على الرغم من تصريح أحد المرشحين، الذين اختارتهم الأجهزة الأمنية بعناية، برغبته في تنظيم مناظرةٍ تلفزيونيةٍ تجمعه مع بشّار الأسد. وقد بدت هذه المبادرة كأنّها جزء من مسرحيةٍ حبكت قصتها بريشة الحكواتي الذي ترك عبلة وعنترة وقيساً وليلى، لينصرف إلى انتخابات سورية الأسد. وبهذه المناسبة، تحوّلت جدران الأبنية السكنية والرسمية إلى حوامل لصور عملاقة للمرشح/ الرئيس المعتمد مسبقاً بشار الأسد. وانتشرت مقاطع مصوّرة تُظهر وجود هذه الصور العملاقة على أطلال المدن التي دمّرتها براميل المتفجرات وصواريخ الطائرات وقذائف الدبابات، إمعاناً في ترسيخ انتصار السلطة السورية عبر الآلة العسكرية الروسية والإيرانية.

وقد حلّت السخرية المرّة محل هذا التشويق الغائب، إذ بدأ العمل بها وإنتاج حكاياتها منذ بدء فتح باب الترشيح الذي عبر منه، في البداية، أكثر من خمسين مرشّحة ومرشّحاً، قبل أن تجري عملية التصفية الأولية التي أفضت الى الإبقاء على المعينين مسبقاً إلى جانب الأسد الذي سيربح الانتخابات. وقد لفتت صور الدفعة الأولى من المرشّحين قبل التصفية الأنظار طرافةً، لكونها تُظهرهم وهم يقفون إلى جانب صورة الأسد بكل ابتهاج وافتخار، وحفلت تصريحاتهم بالولاء لقيادته الحكيمة، إذ أجمعوا بشكل شبه مطلق على أنّهم سيدلون بأصواتهم له (...).

يُقال إنّ نسبة التصويت وصلت في إحدى السنوات الى 120% نتيجة قيام الموتى من القبور للتصويت للقائد الرمز

عشية موعد الاقتراع، وُجِّهَت التعليمات الأمنية إلى كلّ الدوائر الرسمية والمؤسسات العامة والخاصة للتشديد على منع غياب أيّ من عامليها يوم الاقتراع لأيّ مبرر كان، وتوجههم كافة إلى صناديق الاقتراع. وبالطبع، لم يفاجئ هذا القرار عامة الناس، لأنّهم معتادون، منذ انتخابات الأسد الأب، حشدهم ومصادرة بطاقاتهم الشخصية ليجري الاقتراع بها. وكانت سرديات السوريين تحفل بالقصص الساخرة المتعلقة بالانتخاب وبحشو الصناديق والتصويت الهاتفي والتصحيح التلقائي لأوراق التصويت، كما وبتصويت الموتى. في المقابل، في انتخابات الأربعاء الماضي، وقع تجديدٌ لم يُعهد سابقاً، هو توثيق الفعاليات بفضل الهواتف الذكية التي لا يُظن أنّها كانت تعمل خلسة. وبالتالي، انتشر شريط مصوّر يُظهر موظفي أحد الأقلام الانتخابية في أثناء ملء أوراق الاقتراع، ومن ثم إيداعها في الصندوق أمام أعين الذين لا حول ولا قوة لهم من المواطنين السوريين الواقفين كالعبيد، أيديهم معقودة للخلف مطأطئين رؤوسهم، وهم ينتظرون أن يعيد لهم المسؤول الأمني بطاقاتهم الشخصية المصادرة مسبقاً، التي بناءً على بياناتها تُملَأ السجلات. ومؤكّد أنّ المواطن المقموع انتخاباً كان سيلتزم ما تُمليه عليه ثقافة الخوف، فيشطب بحزمٍ وإباء أسماء المرشّحين الآخرين، ويصوت بقناعة مرعوبة للمرشّح الأبدي للعائلة الحاكمة. إلّا أنّه إمعاناً في المذلّة الواقعة على السوريين، بعدما وقع الموت على مئات الآلاف منهم، ارتأى صاحب الأمر والنهي أن يملأ رجل الأمن الأوراق، ويتابع دوره المنوط به، ليقوم بالتصويت عوضاً عن المواطن، ساعياً إلى الاستزادة من إهانته وسحق كرامته. كما شاهدنا اقتراع جندي أمام عدسات الكاميرات بدمه (...) على أكثر من عشرة قسائم اقتراع على الأقل، كان يضعها أمامه مسؤول القلم، وسواه من المقترعين، وضعوا في الصندوق، وأمام العدسات أيضاً، أوراق اقتراعٍ سلمت لهم بعد تعبئتها. وكثيرة هي الحكايات التي يُخال أنّها من إبداع المسرح العبثي، ترد تباعاً وأغلبها مصوّر.

حلّت السخرية المرّة محلّ التشويق الغائب، وبدأ إنتاج حكاياتها منذ بدء فتح باب الترشيح

حصد بشار الأسد 95.1% من أصوات المقترعين رسمياً، وهو بذلك يتراجع عن أرقام عهدناها في تاريخ العملية الديمقراطية (...) في سورية، وهي تناهز 99% عموماً. ويُقال إنّها وصلت في إحدى السنوات الى 120% نتيجة قيام الموتى من القبور للتصويت للقائد الرمز. وإثر إعلان النتائج، أيضاً في مشاهد مليئة بالسخرية المرّة، بدأ الناس يحتفلون عفوياً، ومن دون أيّ إجبار من أي جهاز أمني مستنفر في أقاصي مناطق سيطرة النظام. وأطلقت الأعيرة النارية وسقط على الأقل طفل شهيد للديمقراطية الدموية في مدينة حلب من فرحته الكبيرة التي دفعته إلى القفز أمام الرصاص المنهمر على الرؤوس.

والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا على السلطة السورية إنتاج مثل هذه المسرحية التي لا ترقى إلى أكثر عروض المسرحيات الهزلية؟ وماذا يبحث علماء نفس الأمن عن أحداثه في سجلات تاريخ هذا الشعب، باتباع مثل هذه الأساليب المفضوحة قصداً، وليس سهواً؟ فمن المؤكد أنّهم قادرون، كما عهدناهم دائماً، على حشد الجموع وفرض الخروج من الدوائر والكليات والمدارس والقبور لمن يريدون سوقهم مخفورين، ليمارسوا "اللعبة" الديمقراطية في أقلام الاقتراع. ما الحاجة إذاً إلى كلّ هذه المشاهد المهينة للناس، التي تُضاف إلى معاناتهم الاقتصادية والمعيشية والخدمية؟

مع اقتراع بشار الأسد في مدينة دوما المدمرة، التي استخدم فيها السلاح الكيميائي ضد المدنيين في أثناء حصارها عام 2013، صرّح أمام أبواق الإعلام الرسمي والأمني، موجهاً حديثه شكلاً إلى الغرب المشكك في شرعية العملية الانتخابية بأنّ "قيمة آرائكم هي صفر". وفي الحقيقة، هذه العبارة موجهة أساساً إلى السوريين.