عدوان غزّة في معهد فرنسي

عدوان غزّة في معهد فرنسي

17 مارس 2024

معهد العلوم السياسية في باريس (ويكيبيديا)

+ الخط -

سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التغريد، كما يحلو له أن يفعل دائماً في الشاردة وفي الواردة، إثر ورود أنباء غير مؤكّدة وغير موثّقة عن إشكال ثانوي وقع، الثلاثاء الماضي، على هامش عقد مجموعة كبيرة من الجمعيات الطلابية في معهد العلوم السياسية في باريس أمسية حوارية/ تضامنية بشأن ما يجري في غزّة منذ خمسة أشهر. وذكر ماكرون أن عبارات "غير مقبولة ومُدانة ولا يمكن تحمّلها" وردت في هذا التجمّع. وأدّى رئيس الوزراء غابرييل أتال زيارة مسائية متأخّرة في اليوم نفسه، برفقة وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي، إلى المعهد للوقوف على تفاصيل ما جرى وسماع الجهة المُدّعية، مع عدم الرغبة في سماع الجهة المُتَّهمة. معتبراً أيضاً أن فداحة ما حصل في هذه الأمسية المناصرة للقضية الفلسطينية تدفعه إلى طلب تدخّل مدّعي عام الجمهورية لفتح تحقيقٍ وسماع الشهادات. وتتالت التصريحات الرسمية المندّدة بما تعتقد أو ترغب بأن يكون قد حصل في الأمسية التضامنية مع الشعب الفلسطيني، على الرغم من ضعف الأدلة وتناقض السرديات. فما هو الإشكال الذي حصل؟

لقد بدأ الأمر بادّعاء طلاب أعضاء في اتحاد الطلبة اليهود في المعهد نفسه أن إحدى زميلاتهم مُنعت من حضور هذا الحوار لأنها يهودية. وبعد ذلك، جرى تعديل الاتهام والادّعاء أنه قيل لها إن منعها من الحضور عائد إلى أنها "صهيونية". وسرعان ما نفى منظمّو التجمّع حدوث هذا، وقالوا إن التحفظ كان على حضور هذه الفتاة، لأنه سبق لها تصوير بعض الطلاب في تجمّعات مشابهة، وليجدوا صورهم فيما بعد منشورة في وسائل التواصل، مع إشارة إلى دعمهم حركة حماس أو إلى أنهم معادون للسامية. وفي المحصّلة، حضرت هذه الطالبة التجمّع الذي تحاور خلاله المشاركين بشأن أمور عدّة تخصّ التطوّرات المأساوية في غزّة، منها الأوضاع الإنسانية ودور القانون الدولي في معاقبة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

شكّلت هذه الواقعة، المفترض أنها هامشية بالمقارنة مع حجم الأحداث المحلية والدولية الجارية، فرصة ثمينة لتعزيز الخطاب الرسمي غير المتوازن تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، والذي برز خصوصاً إثر هجوم "حماس" على غلاف غزّة. كما أنها أتاحت إعادة تحريك عصى المكارثية الإقصائية المستندة إلى جعل الجلاد يلعب دور الضحية، على الرغم من أن الدماء تغطّيه من رأسه حتى أخمص قدميه. وبالتالي، أُعيد توظيف مفهوم "الانفصالية" الذي اخترعته الطبقة السياسية الحاكمة، ومن ساندها من باحثين مصابين برهاب الإسلام. وكان هذا المفهوم مخصّصاً لإدانة تصرّفات بعض المسلمين الفرنسيين بخفّة منهجية عالية المستوى. أما اليوم، فصار استخدامُه مُحللاً، ليس فقط بحقّ بعض المسلمين، ولا حتى بحقّ أهالي جزيرة كورسيكا الراغبين فعلاً بالانفصال عن فرنسا، بل ضد أي فرنسيةٍ أو فرنسي يقوم بالتغريد سياسياً أو إنسانياً خارج سرب الانصياع الرسمي للسردية الإسرائيلية، ولضغوط يقوم بها مؤيدو إسرائيل المتغلغلين في مواقع مؤثرة في السياسة وفي الإعلام بمعزلٍ عن الانتماء الديني.

واقعة من المفترض أنها هامشية بالمقارنة مع حجم الأحداث المحلية والدولية الجارية

كان قد سبق لإدارة المعهد، كما سواها من الصروح العلمية، أن دعت طلابها ومدرّسيها إلى الوقوف دقيقة صمت تكريماً للضحايا الإسرائيليين في عملية 7 أكتوبر. ووضعت صور جميع الأسرى الإسرائيليين لدى "حماس" وبقية الفصائل في أروقة المعهد. في المقابل، كان هناك تعتيم كامل على ما تلا هذا التاريخ من أعمال قتل وتدمير وتهجير في قطاع غزّة تستمر قوات الاحتلال الإسرائيلي بارتكابها. وكان هذا الموقف، غير المتوازن وصعب التبرير، مدعاة لتحرّك مجموعات طلابية، تضمّ فرنسيين وأجانب، لتنظيم حوارات تُنبّه إلى الإهمال الحاصل لقضية سياسية وإنسانية عادلة، في هذا الصرح النخبوي الذي تخرّجت منه شخصياتٌ قيادية للإدارة الفرنسية، كان منهم وزراء ورؤساء حكومات ورؤساء جمهورية كثيرون.

المواجهة في معهد باريس للعلوم السياسية جرى ويجرى تضخيمها سياسياً وإعلامياً، ولم تطو صفحتها بعد، على الرغم من تراجع كثيرين من المدّعين عن اتهاماتهم، وعلى الرغم من توضيح المنظمّين مواقفهم بكل شفافية، من الممكن أن تُفسّر بأنها وسيلة مناسبة لهروب القادة السياسيين العبثي إلى الأمام، وذلك لتجنّب الخوض في المشكلات البنيوية الحقيقية التي تواجه البلاد، وتؤدّي إلى تعمّق الأخاديد المجتمعية، وزيادة العنصرية المرضي عنها فعلياً والمُدانة شكلياً، وصعودٍ مريح لممثلي اليمين المتطرّف، كما تفيد بذلك استطلاعات الرأي. فهل تسرّعُ المسؤولين، وفي مقدّمتهم رئيس الجمهورية، بإطلاق التصريحات على عواهنها ستنتج عنه ندامة في قريب الأيام، أم أن السلامة المحمودة في التأني، وخصوصاً لأصحاب القرار، صارت مكروهةً عندما يخصّ الموضوع دولة إسرائيل؟

استضافت قناة إخبارية فرنسية إحدى الطالبات اللواتي نظمّن التجمّع، وقد عبّرت عن ألمها لأنها تُسأل عن تبرير ما حصل لملايين من الفرنسيين، من دون أن تتمكّن من الحديث ولو قليلاً عما يحصل لملايين من الفلسطينيين.