الإسلاميون والديمقراطية المؤطَّرة: بنكيران نموذجاً

الإسلاميون والديمقراطية المؤطَّرة: بنكيران نموذجاً

14 ديسمبر 2021

(حسين زندرودي)

+ الخط -

على الرغم من أنّها أكبر ضحية للدكتاتورية وللاستبداد، ظل موقف أغلب الأحزاب والحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي من الديمقراطية مشوباً بالغموض وعدم الوضوح، باعتبارها منتوجاً غربياً تتناقض مبادئه مع مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها التي تكافح أغلب هذه الأحزاب، مبدئياً، من أجل تنزيلها وتطبيقها، وتخالف أهدافها المتمثلة أساساً في إعطاء الحكم للشعب مبدأ الحاكمية لله تعالى، ومهما مر الزمن وتعدّدت التجارب، الكارثية أحياناً، لم تتضح الرؤية ولم ينقشع الغبار، وبقي هذا الغموض يضرب جذوره في أعماق رؤى كثير من هذه الأحزاب وتصوراتها.
هل تؤمن الأحزاب والحركات الإسلامية بالديمقراطية، وتعتبرها شكلاً مقبولاً من أشكال الحكم، أم أنّها لا تقبل بها إلّا مضضاً، ولا ترفضها إلّا اضطراراً أو تقيةً، بل مطيةً للوصول إلى الحكم، ومن ثمّة للانقضاض على السلطة كما يقول أعداؤها؟ هو جدالٌ قديمٌ حديث لم تحسم فيه الحركات الإسلامية فيه أمرها، للأسف، ولا يمكن أن تحسم فيه، ما دام العديد منها لم يحسم أولاً في إلزامية الشورى من عدمها، وهو المبدأ المُجمع عليه من دون أي اختلافٍ أو تردّد أو تشكيك.
مناسبة هذا المقال ما جاء على لسان رئيس الحكومة السابق والأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي ذي المرجعية الإسلامية، عبد الإله بنكيران، إبّان انعقاد اللجنة الوطنية لحزب العدالة والتنمية المغربي، أخيراً، وهي بمثابة القيادة التنظيمية العليا للحزب في كلّ جهات المغرب، ففي تصريح مطوّل يمكن اعتباره بمثابة خريطة طريق للمرحلة التي سيدشنها الحزب، بعد الهزيمة المدوية التي أطاحته في انتخابات 8 سبتمبر/ أيلول الماضي، بعد عشر سنوات من قيادة الحكومة المغربية، أوضح بنكيران موقفه من قضايا سياسية عديدة كبرى، منها على سبيل المثال، تأكيده على عدم انتماء حزبه لجماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من التقارب الفكري، ورفضه مسلسل التطبيع باعتباره مسألة عقائدية، لكن مع تفهم إشكالات الدولة المغربية، ورفض إدانتها مع شجب مواقف من أدانها.

النظام الملكي المغربي ذو طبيعة خاصة، تختلف كلّ الاختلاف عن مثيلاتها في  المشرق العربي

لن نقف على كلّ الرسائل الواضحة والمشفرة التي بعثها زعيم الحزب في حديثه، لكنّنا نقف عند مفهوم "الديمقراطية المؤطَّرة" بفتح الطاء، الذي وصف به الحالة المغربية، فقد قال إنّ الملك في المغرب جاء بالدين والبيعة والدستور والنسب، واعتبرها مرجعياتٍ يُشكّل مجموعها المشروعية الأصلية التي تقوم عليها الملكية في المغرب، مؤكّداً تمسكه وحزبه بها، مع المطالبة بتطويرها في الاتجاه الإيجابي المنسجم مع العصر والمبادئ الكبرى للديمقراطية، معبّراً، في الوقت نفسه، عن رفضه الديمقراطية البرلمانية التي اعتبرها غير مناسبة للمغرب، بل لكلّ الدول العربية، حسب سياق كلامه، ضارباً المثل بما آل إليه الحال في السودان ولبنان من أوضاع متردّية جرّاء تبنيهما لها، خاتماً قوله، في هذا الإطار، إنّ الديمقراطية في المغرب مؤطَّرة بتاريخ، بمنطق، بعلاقاتٍ بين الشعب المغربي وملوكه، على الرغم من التجاوزات التي يجب تصحيحها وإصلاحها... انتهى كلام بنكيران، المعروف بدفاعه المستميت عن الملكية في المغرب.
أولاً، انتقاد بنكيران للديمقراطية البرلمانية، وهو من الإسلاميين القلائل الذين احتكّوا بالسلطة عن قرب، قبل أن يجرّبوها من موقع المسؤولية، وتأكيده على عدم صلاحيتها للواقع العربي، يظهرها وكأنّ العيب فيها، أي في الديمقراطية البرلمانية، لا في الذين لم يحترموا مبادئها الأصيلة وأساؤوا استعمالها، وكأنّ العيب في المبدأ لا في تنزيله.
ثانياً، يمكن تفهم هذا الأمر في إطار السياق المغربي، نظراً إلى ما يشكله النظام الملكي الذي يحكم المغرب منذ تأسيس الدولة المغربية منذ اثني عشر قرناً على يد الأدارسة، فهو نظام سياسي ذو طبيعة خاصة، وتختلف كلّ الاختلاف عن مثيلاتها في المشرق العربي، لا لناحية تكوينه الذاتي، ولا لناحية عمق التاريخ، ولا دراية الإدارة، ولا التلاحم في علاقته مع المواطن المغربي الذي يعتقد أنّ الملكية صمام أمان ضد تهديدات داخلية وخارجية عديدة.

إذا كان الدستور يبقى أسمى المرجعيات في الدول الديمقراطية، فإنّ المرجعيات الأخرى تحيل إلى أنظمةٍ مختلفة في الجوهر

ثالثاً، يُفهم ويُستنج من كلام بنكيران أنّ الديمقراطية يجب أن تكون مؤطَّرة بالمرجعيات التي ذكر. وإذا كان الدستور يبقى أسمى المرجعيات في الدول الديمقراطية، فإنّ المرجعيات الأخرى تحيل إلى أنظمةٍ مختلفة في الجوهر، خصوصاً عندما يتحدّث عن البيعة والمشروعية التاريخية والدينية. وبطبيعة الحال، يمكن للقانون الأسمى للبلاد أن يتضمّن بنوداً مؤطِّرة للديمقراطية، من دون أن يخلّ ذلك بطبيعة النظام الديمقراطي، كما هو الحال بالنسبة للدين أو العلمانية في أعرق الديمقراطيات. بيد أنّ التبرير الذي قدّمه لرفض الديمقراطية البرلمانية واهٍ لعدة أسباب، منها القياس الفاسد في ظلّ الاختلاف الجذري بين المثلين المذكورين والحالة المغربية، وتفرّد النظام السياسي المغربي وخصوصيته كما ذُكر سابقاً. وعلى ذكر السودان، يمكن القول إنّ الحالة التي آل إليها لم تكن بسبب الديمقراطية البرلمانية، بل بسبب الانقلاب العسكري الذي قاده عمر البشير ذو الانتماء الإسلامي، وبإيعاز من زعيم الحركة الإسلامية السودانية آنذاك وأحد أعمدة الفكر الإسلامي المعاصر، حسن الترابي، رحمه الله، قبل أن ينقلب المريد على شيخه ويندم الشيخ على فعلته، أما لبنان فنظامه الطائفي لا يغبطه أحد.
يتميز حزب العدالة والتنمية المغربي بديمقراطيةٍ داخلية حقيقية وقوية، تجاوزت بكثير إلزامية الشورى، ضربت عرض الحائط بمنطق الشيخ أو المرشد، استطاعت إزاحة بنكيران في أوج قوته، واضطرّت سعد الدين العثماني إلى الاستقالة في حالة ضعفه. وعليه، يمكن تصنيفها أحياناً في خانة الديمقراطية التشاورية التشاركية التي تحدّث عنها الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، لكنّها للأسف تبقى داخلية، ولم تترجم في الأفكار والآراء والمقترحات والبرامج التي يقترحها الحزب، لا لشيء سوى كون الحزب ونظرائه من الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية ما زال خاضعاً لمنطق الرعيل الأول المؤثِّر المؤطِّر، والمؤطَّر، بكسر الراء ثم بفتحها، بنظرياتٍ وجب تجديدها، وبمفاهيم تقادمت تحتّم تحيينها، تتوجس من الصناعة الفكرية الغربية، غير المناقضة للقيم الإسلامية طبعاً، تعتبرها دخيلة وغير صالحة، ولو كانت في مصلحة البلاد والعباد.

69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
عمر المرابط
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط