أثر الغول

أثر الغول

02 يناير 2022
+ الخط -

مثلما تدلّ البعرة على البعير، في وسعنا، أيضاً، أن نستدلّ على الغول بآثار ضحاياه. وأمّا الغول الجديد الذي لا نبحث عنه فهو رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري حافظ الأسد، وعمّ الرئيس الحالي.

هذا ما تقوله وثائق الأحوال المدنية، في الأثر، غير أنّ ما يقوله الضحايا مغاير تماماً، فثمة "آثار" أخرى قديمة وحديثة لهذا الغول، تقول إنه "جزّار حماة"، تلك المدينة السورية الوادعة التي دمّرت على رؤوس ساكنيها عام 1982، وارتكبت فيها أبشع مذبحةٍ جماعية، أجهزت على نحو عشرين ألف ضحية. وفي الوثيقة التاريخية ذاتها، ثمّة معلومة تفيد بأن الغول نفسه كان مؤسّس "سرايا الدفاع" السورية وقائدها، وهي وحدة شبه عسكرية خاصة، أنيطت بها المهام القذرة، كالاغتيالات، وكتم الأصوات، والتشبيح، وأنها أصبحت لاحقًا نواة الحرس الجمهوري، عندما دبّ الخلاف بين الشقيقين حافظ ورفعت، فتمّ عقد صفقة بين الطاغيتين، تضمّنت رحيل الثاني عن سورية، والامتناع عن لعب أي دور سياسي، لقاء ملايين الدولارات، وراتب شهري ضخم.

وفي الأثر الثاني للغول، يقودنا الخيط إلى مليونير منفيّ، استقرّ بعد أسفار متعدّدة، في باريس، باعتبار أنّه "طاغية حالم" يعشق العطور الفرنسية، ويستهويه النظر إلى العالم من برج إيفل، ليكتب "قصائده" هناك، بيد أن كل هذا العالم المخمليّ الساحر، والثراء الفاحش اللذين في وسعهما خلب أعتى العقول، لم يفلحا في تغيير أخلاق الطاغية الطريد الذي راح يحاول لعب دور "المعارض المنفيّ" من بلده، سيّما إبّان اندلاع ثورة الربيع السورية، عندما بدأ يعلن صراحة، وفي مقابلات تلفزيونية، انحيازه لثورة الشعب، وإدانته استبداد ابن شقيقه ونظامه الدمويّ، غير أنّ أحداً لم يأخذه على محمل الجدّ، سيما لدى تتبع "أثره" من حماة إلى بلدة بسانكور الفرنسية، التي ناشد رئيس بلديتها، رئيس بلاده إيمانويل ماكرون، أخيراً، الالتفات إلى مصير نحو 80 سوريّاً تركهم وراءه رفعت، لدى مغادرته فرنسا، عائدًا إلى بلاده، في صفقة "عكسية" هذه المرّة، قوامها السماح بعودة العمّ نظير امتناعه عن القيام بأي دور سياسيّ. وقد جاءت هذه الصفقة لإنقاذ العمّ المهدّد بالسجن في فرنسا بتهم عديدة، أبسطها "غسل الأموال".

تأرجح رفعت الأسد بين صفقتين مريبتين، غادر في الأولى بلاده، وعاد في الثانية إلى بلاده. أما المحتوى المشترك بينهما فهو "الامتناع عن لعب أي دور سياسي". والحال أنّهما صفقتان تقطران بالريبة منذ البداية، فما كان يمنع الأسد الأب من الإجهاز على شقيقه وهو في دمشق، سيما أنّ سبب الخلاف مطلب رفعت بولاية العهد، ما يعني أنّ له مآرب في أعلى قمة الهرم السياسي لنظام الحكم، وهو أمرٌ يعدّ خطّاً أحمر لحافظ الأسد الذي يريد حصر الحكم في أبنائه، فكيف استقام للرئيس الطاغية المعروف بأحاسيسه الميّتة أن يصفح عن أخيه، ويسمح له بالمغادرة مع كلّ تلك الأموال الطائلة؟

وفي المقابل، في الصفقة الثانية، هل كان بشار الأسد مضطراً لقبول عودة عمّه حتى من دون لعب دور سياسيّ، وهو الذي أباد نصف شعبه لـ"جرائم" أقلّ بكثير مما فعل العمّ، وهو يظهر معارضاً شرساً على شاشات التلفاز؟ ألا تكون فضائح هذا العمّ وسجنه في المنفى أهون على بشار من عودة هذا المشاغب الذي برهن أنّه لا يلتزم بالعهود والمواثيق، عندما أخلّ بالتزامه في باريس ولعب دوراً سياسيّاً أكبر منه بكثير؟

أسئلة كثيرة لا تخلو من الريبة، ومن صفقتين متعاكستين لا يزدردهما حلق، إلّا إذا كان الدور مرسوماً ومتفقاً عليه خارج الصفقات المدوّنة كلها. غير أنّ ما يهمّ من بين كلّ هذه الصفقات المريبة هم أولئك الضحايا للجلّاد نفسه، أو الأثر الدامي الذي تركه خلفه في حماة وعاد إليه، فضلاً عن الأثر الآخر المتمثّل بضحاياه في فرنسا الذين تُركوا ليقطنوا في إسطبلات الخيول بلا ماء ولا كهرباء ولا طعام، فقد تركهم الغول يواجهون مصيرهم الأسود وحدهم، بعدما انتهى دورهم بعودة الغول إلى وكره الأول.

أما بشأن الطغاة، فمن قال إنّهم لا يملكون قلوباً قابلة للصفح، سيما إذا كان صفح طاغية عن طاغية؟

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.