رحلة تركيا نحو "الجمهورية الثانية": دستور جديد لنظام رئاسي

رحلة تركيا نحو "الجمهورية الثانية": دستور جديد لنظام رئاسي

09 يناير 2017
الاستفتاء الشعبي على الدستور من أهم التحديات لأردوغان(أحمد إزجي/الأناضول)
+ الخط -

تنطلق، اليوم الإثنين، الرحلة التمهيدية لانتقال تركيا إلى حقبة "الجمهورية الثانية"، لتتحول من النظام البرلماني، مثلما عهدته منذ تأسيسها عام 1923، إلى النظام "الرئاسي على الطريقة التركية"، مثلما يحلو لصاحب المشروع، الرئيس رجب طيب أردوغان، تسميته منذ طرح طموحه قبل نحو عشر سنوات. رحلة تبدأ من البرلمان اليوم، الذي يناقش التعديلات الدستورية المحالة إليه من الحكومة، ليتم التصويت على مرحلتين وبشكل سري على كل مادة منفردة، وهو ما يتوقع أن يحصل في غضون أسبوعين، بهدف نيل 330 صوتاً برلمانياً من أصل 550 هم عدد أعضاء البرلمان، قبل أن تنتقل إلى الاستفتاء الشعبي المنتظر تنظيمه في مارس/آذار المقبل. وإن كانت الأرقام تفيد أن تمرير التعديلات تحت قبة البرلمان سيكون أمراً سهلاً نسبياً، إن لم تحصل "انقلابات" في صفوف الحزبين اللذين يؤيدان التعديلات الدستورية، وهما "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية"، فإن الاستحقاق الأهم يبقى الاستفتاء الشعبي الذي يعتبر من أهم التحديات السياسية التي يمكن أن تكون الأخيرة في مسيرة أردوغان السياسية.

مشروع التعديلات التي تطاول 18 مادة من الدستور، وتتعلق بالنظام السياسي الرئيسي، صار عنوان انقسام جديد في تركيا التي تعيش وضعاً استثنائياً ومأزوماً على جميع الصعد، أمنياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً في الداخل وفي الخارج. المعارضة الشرسة للتعديلات، التي يخشى بعضهم أن تكون عنواناً لـ"ديكتاتورية دستورية"، لا تقتصر على "شيخ المعارضة" البرلمانية، "الشعب الجمهوري"، ولا على الحركة القومية الكردية، ولا على اليسار غير البرلماني والجزء العلماني من المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، إنما تطاول أيضاً جانباً من الحزب الحاكم نفسه، "العدالة والتنمية" وحليفه في مشروع التعديل الدستوري، الحركة القومية. في المقابل، تبدو "الفلسفة" التي يبرر فيها أنصار التعديل الدستوري مشروعهم، قائمة على أن النظام التركي البرلماني، مثلما هو حاله منذ تأسيس جمهورية أتاتورك، هو سبب المصائب كلها، والانقلابات، ومحاولات الانقلابات، لما يتضمنه من قيود أتاحت تفوق العسكر على الساسة، ولما احتواه من مواد كبّلت السلطة التنفيذية تحت شعار الفصل بين السلطات، ليصبح الرئيس عموماً في وضعية عاجزة دستورياً وسياسياً.

لن يكون الاستفتاء المقرر في مارس/آذار المقبل، في ظل حالة الطوارئ، شبيهاً باستفتاءين سابقين لتعديل بعض المواد الدستورية. لكنه سيؤدي لتغيير نظام الحكم برمته، لإطاحة النظام البرلماني الذي يزيد عمره عن المائة وأربعين عاماً، والموروث عن السلطنة العثمانية، والتحول إلى نظام رئاسي يحظى فيه رئيس الجمهورية التركية، اعتباراً من عام 2019، بصلاحيات لم يحظ بها كمال أتاتورك ذاته، بعد التخلص من الوصاية العسكرية بشكل نهائي إثر المحاولة الانقلابية في منتصف يوليو/تموز الماضي. محاولة انقلاب منحت أنقرة مرونة لم تعهدها لناحية التحرك على مستوى السياسة الخارجية، وصلت لدرجة توترت بها علاقاتها مع واشنطن بشكل غير مسبوق، وأقامت مع روسيا شراكة استراتيجية غير مسبوقة أيضاً.

لكن قبل الاستفتاء الشعبي، يجب على مشروع التعديل الدستوري، أو الدستور الجديد فعلياً، أن يمرّ في امتحان البرلمان وحساباته الدقيقة، وذلك في ظل التوافق بين كل من حزب العدالة والتنمية (317 مقعداً برلمانياً) وحزب الحركة القومية (39 مقعداً). إلا أن هذا التوافق لم يمنع مسؤولي "العدالة والتنمية" من الاستنفار لضمان تصويت جميع نواب الحزب بالموافقة، خصوصاً أن الحزب الحاكم سيفقد صوتين، الأول هو صوت رئيس البرلمان، إسماعيل كهرمان، الذي لن يحضر الجلسة بسبب الوعكة الصحية التي ألمت به أخيراً، والثاني هو صوت من سيحل محل كهرمان لإدارة الجلسة، إذ تمنع القوانين الداخلية للبرلمان التركي رئيس الجلسة من التصويت. ومن المتوقع أن يقوم أحد قيادات الكتلة النيابية لـ"العدالة والتنمية" بإدارة الجلسة وهما، أحمد أيدن أو عائشة نور باهجة كابلي، إلا إذا قام كبير نواب "الشعب الجمهوري"، عاكف حمزة جبي، بإدارة الجلسة.


وخوفاً من قيام بعض نواب "العدالة والتنمية" من التمرد والتصويت بالرفض، استنفرت قيادات الحزب الحاكم للتأكد من تصويت الجميع بالموافقة، الأمر الذي يؤكده لـ"العربي الجديد" أحد هذه القيادات، بالقول: "لا نتوقع أي حركة منظمة بين نواب الحزب للاعتراض على التعديلات، وإن حصلت فإنها ستكون بمثابة الخيانة، ولا نتوقع أن يتحرك أحد ضد التعديلات". ويضيف أنه "قد يكون هناك من النواب ممن لم تقنعه بعض بنود التعديلات، إلا أن هؤلاء لا يتجاوز عددهم خمسة أعضاء، وإن قرروا إبداء اعتراضهم فإنهم لن يقوموا بالتصويت بـ لا، إلا في الدورة الأولى، أما في الدورة الثانية، فنظن أن جميع نوابنا سيصوّتون بـ نعم"، وفق قوله.

ويذكر أحد نواب "العدالة والتنمية" لـ"العربي الجديد" أن "بعض النواب قد يعبرون بالفعل عن عدم ارتياحهم للقرارات من خلال مخالفة القرار الحزبي بالتصويت، لكن بعد المرحلة التي مرت بها البلاد ومحاولة الانقلاب ودور الرئيس (أردوغان) في دحر المحاولة، لا أتوقع أن يتجاوز إبداء عدم الارتياح الدورة الأولى، أما في التصويت الثاني فالجميع سيوافق" بحسب تعبيره.

وكان "العدالة والتنمية" شهد نقاشاً كبيراً بين صفوفه خلال استفتاء عام 2010 على تعديلات دستورية أخرى، عندما تم رفض إحدى المواد في التصويت الثاني بعدما تمت الموافقة عليها في التصويت الأول. وكانت تتعلق بآلية إغلاق الأحزاب وضرورة الحصول على إذن برلماني مسبق لإغلاق أي حزب سياسي، إثر تمرد بعض نواب "العدالة والتنمية" على المادة.

في غضون ذلك، وعلى الرغم من تأكيد زعيم الحركة القومية، دولت بهجلي، بأن حركته ستصوت بالموافقة على التعديلات الدستورية سواء في الاستفتاء أو في البرلمان، لكن لا تزال حالة من عدم الوضوح تحيط بموقفها. وإضافة للنائب، أوميد أوزداغ، الذي تم إخراجه من الحركة القومية وأكد أنه سيصوت بالرفض، هناك خمسة نواب آخرين عن الحركة القومية أظهروا رفضهم للتعديلات. وتشير تقارير إعلامية إلى أن النائب، سيف الدين يلماز، أحد أبرز الوجوه التي حاولت في وقت سابق، الإطاحة ببهجلي من قيادة الحزب، كان قد التقى بقيادة الحزب وتراجع عن موقفه الرافض للتعديلات. يضاف إلى ذلك عدم تصريح كثير من نواب الحزب عن مواقفهم، ما يجعل إمكانية حصر الرافضين بالأسماء السابقة أمراً غير ممكن، خصوصاً أن هناك تقارير تشير إلى أن القواعد الشعبية للحركة القومية تعارض التعديلات، الأمر الذي قد يدفع بعض النواب لرفضها.

دستور جديد أكثر مما هي تعديلات دستورية
تناولت التعديلات الدستورية المقترحة جميع السلطات بدءاً من السلطة التنفيذية ومروراً بالسلطة التشريعية وانتهاءً بإعادة تنظيم عمل السلطة القضائية، لتبدو وكأنها كتابة دستور جديد، المشروع الذي فشلت القوى السياسية التركية بالتوافق عليه لسنوات. ويبدو انفتاح بهجلي المفاجئ على "تشريع وضع الأمر الواقع الحالي"، بحسب تعبيره، بمثابة كلمة السر التي فكت هذا الاستعصاء. وبعد أشهر من المفاوضات التي انحصرت بين "العدالة والتنمية" والحركة القومية، انخفضت التعديلات المقترحة من 20 إلى 18 مادة (من أصل نحو 180 مادة)، سيتم بموجبها إلغاء منصب رئيس الوزراء وتحويل جميع صلاحياته إلى رئاسة الجمهورية بعد توسيعها.


وبحسب التعديلات، سيتم رفع عدد النواب في البرلمان التركي من 550 إلى 600 نائب، وسيتم تخفيض سن الترشح إلى البرلمان من 25 عاماً إلى 18، على أن يتم انتخاب البرلمان ورئاسة الجمهورية في يوم واحد لخمس سنوات لكل منهما بعدما كانت أربع سنوات. وتم سحب اقتراح تعيين نواب احتياطيين في البرلمان بسبب الاعتراضات على الأمر في صفوف "العدالة والتنمية". أما عن صلاحيات البرلمان، فسيتم تنظيمها كالتالي: "وضع القوانين وتغييرها وإزالتها، مناقشة الميزانية والمحاسبة عليها وقبولها أو رفضها، إقرار طباعة أوراق نقدية وإعلان الحرب، إقرار العفو العام بموافقة ثلاثة أخماس البرلمان بما لا يتعارض مع القوانين والاتفاقيات الدولية، واستخدام باقي الصلاحيات الموجودة في الدستور الحالي، وإنشاء لجان تحقيق في المواضيع التي تنظمها القوانين والحصول على إجابات خطية عن جميع التساؤلات التي يطرحها البرلمانيون بشكل مكتوب من نواب الرئيس والوزراء بمدة لا تتجاوز الخمسة عشر يوماً".

تعديلات السلطة التنفيذية
سيتم إلغاء منصب رئيس الوزراء وتحويل جميع صلاحياته إلى رئاسة الجمهورية، بينما سيتم إلغاء المادة الدستورية التي تفرض على الرئيس التركي قطع جميع صلاته الحزبية. وستفرض التعديلات الدستورية الجديدة على الرئيس عدم تولي أكثر من ولايتين رئاسيتين، الأمر الذي ينطبق على أعضاء البرلمان. كما سيتولى "رئيس الدولة"، بحسب التعبير المستخدم في التعديلات الدستورية، تمثيل "وحدة الجمهورية والأمة التركيين وتطبيق الدستور وإيجاد التنسيق والتوافق في العمل بين مختلف مؤسسات الدولة، وفي حال رغب الرئيس يحق له أن يلقي خطاباً في البرلمان في اليوم الأول من بداية السنة التشريعية الجديدة، وأن يوجه الرسائل في ما يخص السياسة الداخلية والخارجية للبلاد".


وفيما يسمح الدستور الحالي للرئيس بإعادة القوانين التي أقرها البرلمان للمناقشة مرة أخرى، ستمنح التعديلات الجديدة الرئيس حق رفع دعوى قانونية ضد أي قانون يقره البرلمان لدى المحكمة الدستورية العليا. أكثر من ذلك، ستمنح التعديلات الدستورية الرئيس حق تعيين نوابه والوزراء وكبار موظفي الدولة وأيضاً إقالتهم من مناصبهم، وذلك بموجب مرسوم تشريعي رئاسي، من دون الحاجة لموافقة البرلمان، وكذلك سيتمتع الرئيس بصلاحية تحويل القوانين الخاصة بالتعديلات الدستورية إلى الاستفتاء الشعبي في حال رأى ضرورة في ذلك، وسيتولى، أيضاً، تحديد سياسات مجلس الأمن القومي واتخاذ الخطوات الكفيلة بتطبيقها.

وسيكون من حق الرئيس إصدار مراسيم تشريعية تخص سلطاته التنفيذية، على ألا تتدخل هذه القرارات بالحقوق والحريات الأساسية وتلك السياسية، وألا تتعارض مع أي قانون صادر عن البرلمان. وفي حال أصدرت الرئاسة مرسوماً تشريعياً يتعارض مع أي قانون أقره البرلمان، سيتم تطبيق القانون، وفي حال أصدر البرلمان قانوناً في ذات الموضوع الذي أصدر به الرئيس مرسومه، سيعتبر الأخير لاغياً.

وستنتقل صلاحية إعلان حالة الطوارئ وفق القوانين الحالية من رئاسة الوزراء إلى رئاسة الجمهورية على أن تكون بمدة أقصاها ستة أشهر وتدخل حيز التنفيذ بعد موافقة البرلمان الذي يحق له تقصير وتمديد حالة الطوارئ إن رأى ذلك مناسباً. كما يحق لرئيس الجمهورية طلب تمديد حالة الطوارئ لمدة لا تتجاوز أربعة أشهر، إلا في حالة الحرب إذ ستكون المدة مفتوحة، وعلى البرلمان أن يناقش المراسيم التشريعية التي يصدرها الرئيس بموجب حالة الطوارئ ويقرها خلال ثلاثة أشهر من تاريخ صدورها، وإلا ستعتبر لاغية بمجرد انتهاء المدة، إلا في الحلات الإجبارية وحالات الحرب التي تمنع انعقاد البرلمان.

صفات وطريقة الترشح للرئاسة
يجب أن يكون المرشح لرئاسة الدولة قد أتم الأربعين عاماً وكذلك تعليمه العالي، ويتحلى بالصفات التي وضعها القانون للترشح للنيابة في البرلمان، على أن يكون مواطناً تركياً فقط، بعدما تم إزالة مواطناً تركياً بالولادة بسبب اعتراضات من "العدالة والتنمية" باعتبار ذلك تعبيراً عنصرياً.

وتقوم الأحزاب الموجودة في البرلمان بتقديم مرشيحها للرئاسة. ويحق للأحزاب التي لم تتجاوز العتبة البرلمانية أن تتقدم بمرشحها للرئاسة، إذ تم تخفيض نسبة الأصوات التي يجب أن تحصل عليها هذه الأحزاب مجتمعة من 10 بالمائة في المسودة الأولى إلى 5 بالمائة، مع إضافة شرط الحصول على توقيع 100 ألف ناخب.

وعن القوانين الناظمة لعملية انتخاب الرئيس، يتولى منصب الرئاسة الحاصل على الغالبية الأصوات وفي حال فشل أي من المرشحين بالحصول على غالبية الأصوات، تجرى الانتخابات مرة أخرى بين الحاصلين على النسبة الأعلى من الأصوات في أول يوم إثنين بعد الجولة الأولى، وفي حال انسحب جميع المرشحين ولم يبق سوى مرشح واحد للرئاسة، يتم تحويل التصويت إلى استفتاء شعبي، وفي حال لم يحصل المرشح على غالبة الخمسين في المائة، سيتم إعادة انتخابات رئاسة الجمهورية من دون إعادة الانتخابات التشريعية، على أن يستمر الرئيس المنتهية ولايته بإدارة شؤون البلاد لحين انتخاب الرئيس الجديد.

محاسبة رئاسة الدولة
تضع التعديلات الدستورية الجديدة قيوداً شديدة على محاسبة رئاسة الجمهورية، إذ تسمح باقتراح محاسبة الرئاسة في حال ارتكبت جرماً بمجرد موافقة غالبية جميع أعضاء البرلمان، على أن يتم مناقشة الأمر خلال مدة لا تتجاوز شهراً واحداً. ويتم تشكيل لجنة للمحاسبة في البرلمان بموافقة ثلاثة أخماس أعضاء البرلمان، بالتصويت السري، ويتم تشكيل اللجنة بحسب نسبة أعضاء كل حزب في البرلمان على أن تكون مكونة من 15 عضواً، وأن تقدم تقريرها لرئاسة البرلمان في مدى لا يتجاوز شهرين، على أن يتم تمديدها لمرة واحدة ولشهر واحد. وتقوم رئاسة البرلمان بتوزيع التقرير خلال عشرة أيام من تسلمه. وإن اجتمع البرلمان مرة أخرى خلال عشرة أيام من تاريخ توزيع التقرير، يتم تحويل الرئيس إلى المجلس الأعلى للدولة للمحاسبة بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان، إذ يقوم المجلس بإنهاء محاكمة الرئيس في مدة أقصاها ثلاثة أشهر، لا يتم تجديدها إلا لمرة واحدة لمدة ثلاثة أشهر إضافية. ولا يحق للرئيس خلال هذه الفترة من الدعوة إلى انتخابات مبكرة. ويحق للرئيس حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة، وكذلك يحق للبرلمان حل نفسه، وفي كلتا الحالتين يجب إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية معاً.

السلطات القضائية
تم إلغاء المحاكم العسكرية باستثناء محاكم الانضباط الخاصة بالقوات المسلحة، باستثناء حالات الحرب. وتم تخفيض عدد أعضاء المجلس الأعلى للقضاة والنواب العامين إلى 13 شخصاً يكون وزير العدل ومستشارو وزارة العدل أعضاء تلقائيين فيه، ويتم انتخابهم من البرلمان، كما تم تخفيض عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا إلى 15 عضواً.