بشجاعة قارب من ورق

بشجاعة قارب من ورق

17 أكتوبر 2016
(الشاعر)
+ الخط -

تبدُّل

الشعراء لا يرحلون:
مصيرهم
جدجدٌ يكشط الجدار
ليلاً.

عند مغادرة بلد ما
يعتقدون أنهم يهجرون طفولتهم،
لكن خطوات طفلٍ
حول العالم
تتبع رحيلهم.

أحدهم ينكر عليهم
حلوى "غزل البنات"
ولا شيء أكثر حزناً
من نور شاعر يخبو
بعد عشرين عاماً
مقابل لعبة
ميكانيكة.

يخضعون التوازن
لمكان ما في الطريق
وفي كل رجوع
عودة لفترة الرضاعة.

آليتهم الشبيهة بعمل النمل
تفتح سبيلاً
من الأوراق.

الشعراء أشجار
تهرب
تريد لجذورها أن تنمو
في كوكبهم الخاص.

***

الآخَر

بورخيس كامبريدج
يلتقي
بورخيس جنيف.

كلاهما طائرة ورقية
يتقاسمان نظرةً تواجه النهر.

أحدهما مسنٌّ يروي التاريخ
على أنه حقيقة،
الآخر شاب
يجيبُ
كما لو كان التاريخ حلماً.

بورخيس كامبريدج
يحاجج في أسئلة
يطرحها الشاب:
ويعترف له في النهاية
أنه سيعمى يوماً ما
بالتدريج
كمغيب بطيء
في يوم صيفي.

يغادر الشاب
دون أن يلمس
الوجه الذي سيكون له
بعد خمسين عاماً.

وحده يعرف
أنه سيعود لكامبريدج
كل صباح طوال حياته،
ليطلب من النهر
أن يعيد عينيه
للحبر
الذي يسيل
فوق الماء
للأبد.

***

الذاكرة من الداخل

أيذكر المصابون بالزهايمر
القُبل الحقيقية،
الحروب اللانهائية،
تراكم العداء والثارات،
خلف درب تبّانة حياتهم؟

في أي وجه تفكّر،
الأيادي التي تبدو
كأنها تبحث عن خارطة؟

الأضرحة بالنسبة إليهم
ليست ألبوماً لشواهد القبور
بل روزنامات فارغة،
توازي
الأشياء المنسية
لتعود.

ذاكرتهم أرجوحة
نشيد
يمكن إرساله
للطفولة
أو إرجاعه من جديد
بنظرة قذرة للعالم.
نظرة تنفرد
في الهواء،
كأنما هي
ملحمة من الذكريات
وليس قارورة رماد
تحمل أصواتاً لطرقات محنّطة.

ربما نظنُّ أن النسيان محزن
لكن الأشد حزناً
أولئك الذين يحملون
مرارة طفولتهم
حتى آخر أيام حياتهم.

***

المجاذيف

أمّي تجذِّف في الصورة.
ابتهاجها
لا يسمح لها بتحطيم
الابتسامة الجميلة
على وجهها.
تبدو بصحّة جيدة،
تنفض جروحها
كمن يزيل
بقايا حطام
خلَّفه.
لا تدّعي
تتصرّف بشجاعة قارب من ورق.
تفرد أشرعتها
رغماً عن أوردة الزمن المتضخّمة
والأشجار المحترقة
التي كبحت جماح طيورها.
أراها تبتسم
دون أن يبدو عليها فقدان السمع،
مبحرة في المشافي
تهزم الدوار
وتروّض ضعف الإنسان.
تغرق أمي في ذاتها.
أندهش لسعادتها
وهي الطفلة
المتحكّمة عند الجد
بتمايل البحر.

***

أقدام على الأرض

أحاول تخيّل أول حذاء لأبي
أكان له لون لحاء الشجر
وقت الفجر؟
وأربطته،
أكانت قويّة
كالأربطة التي تشدُّ حطب مزارعٍ مجاورةٍ..
حطبٌ كان يفتقده هو وإخوته
في الأيام الماطرة؟
ونعله،
أكان قاسياً بما يكفي
للدوس على الأشواك؟
والكعب الثابت،
أكان قادراً على استيعاب
توازن جديد؟

هزيلاً دون شك
كان طريق الحذاء المخيَّط
في بُعد القدمين العاريتين
المجهول.
هل تناول الحذاء
من رفّ ما
أم أن الحذاء خرج
من قلب الإسكافي
مباشرة لقدميه؟

هل خشي أن يُستهلك
إن ارتداه
في الخامسة صباحاً
لهمز بقرات
الأسياد الإقطاعيين
الحاضرين في طفولته؟

هل أوصله للمدرسة
وقت فراغه من العمل
أو أوصله لبائع فطائر العسل
قبل وبعد الدوام المدرسي؟

هل مكّنه
من زيارة
أي فتاة
أخيراً
بقدمين نظيفتين؟

لكم تُربكني
القصص التي لم تُروَ بعد
عن حذاء أبي.

***

طفل بين الأمواج

ظهر البحر
حيث انتهى الشارع
شاطئ مختبئ
يُدعى: بونتا راتون

رمال سوداء
رياح مخنوقة بالملح.

كنّا نحطم الأمواج
كيسروعات شقية
بأياد
متقرحة
بفعل الماء.

كنا نحب ذلك المكان
الذي بدا شبيهاً
بنهاية العالم:
المساءات كانت طويلة
وكانت الشمس تضيع
في ملابسنا المهجورة.

مع الوقت عرفنا
بحاراً أخرى
أكثر زرقة،
أكثر بعداً،
لكن ذلك الزمن كان برونزياً
ومنحنا كل أسباب
الغرق.

كان اسمه
المحيط الهادئ
ذلك البحر الذي يبدأ من الجنوب.

ذكراه
تصرُّ
على إعماء
أعيننا.

***

أملاك مشتركة

من هنا وحتى الداخل،
البيت لي
لدي أنوار، ظلال
آدمية وذئاب.

أؤمن بالبكاء
أصبر على زلَّاتي
أهب نفسي بالكامل
لبعض اليوتوبيا

أخرج في الأيام الماطرة،
أدخل
وتلفحني شمس الذاكرة.

أريد أن أعيش
حتى الثمانين
أن أضحك
بمرارة
إذ بكيتُ سيولاً.

من هنا وحتى الخارج
البحر هو السماء
الهابطة،
الطرقات تمرينٌ
على الحركة والراحة،
الأشياء اليومية تمضي
كأرضية العقل
ستنفتح شهية ضفاف
لا حاجة لها بفواصل.

من هناك للداخل
بيتي هو بيتك.

***

قوى خارقة

الأمور العادية
ليست على مقاس
الأبطال الخارقين

لا أحد يراهم يبولون
أو يفركون أنوفهم،
وحين تسقط عليهم رافعة ما
لا يبكون.

تحبطني
عواطفهم المستقرة
فجميع الفتيات
معجبات بهم.

أشكِّكُ في مؤتمراتهم التلفزيونية،
بحبّهم الحقيقي
للأرضيين.

عوضاً عن تقديم العون
هم المثال السيئ
للتعامل مع الضرائب
أتساءل إن كانت الضرائب المفروضة على "بروس واين"
تشمل نفقات باتمان.

أجندتهم تقتضي نزع الأسلحة
النووية
أو قتل الكائنات الفضائية
التي تسعى
لغزو الكوكب
الأكثر ازدحاماً في درب التبّانة،
ولو تبقّى وقت
يطفئون مبانيَ محترقة
لإنقاذ
قطط نيويورك البيضاء.

أبطال خارقون مزعجون
يذهبون عادة لما هو مضمون
ويعلمون أنه ليس لدينا من مُنقذ.

* ولد الشاعر الهندوراسي دينيس آفيلا Dennis Ávila في تيغوسيغالبا عاصمة بلاده عام 1981، نشر آفيلا عدداً من الدواوين: "المتسربة" (2000). "مفاهيم للحب" (2005). "ربما أكثر من أي وقت مضى" (2008). و"هندسة ابتدائية" (2014). "الطفولة شريط من الطقوس" (2016). إضافة إلى روايته "انقلاب السقّالة".

** الترجمة عن الإسبانية غدير أبوسنينة

المساهمون