فيروز في صمتها وكلامها: "سافرت القضية" مثالاً

فيروز في صمتها وكلامها: "سافرت القضية" مثالاً

13 مارس 2024
قدمت فيروز العديد من الأغاني حول القضية الفلسطينية (Getty)
+ الخط -

في سبتمبر/أيلول 2020 لم يكن الخبر الحقيقي، لدى المهتمين على الأقل، أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زار السيدة فيروز ومنحها وسام جوقة الشرف، بل إنّها استقبلته: صورتها كانت الخبر.

وهذا ليس مستغرباً عن واحدة من آخر أساطير الشرق كله، فأي خبر يتعلق بها حتى بوجود أطراف أخرى، يتميّز ويختلف ويرتفع قيمةً، ومن ذلك ما أثير على وسائل التواصل الاجتماعي من أنباء تفيد برفضها عرضاً من هيئة الترفيه السعودية لإقامة حفل مقابل مبلغ كبير يندر أن يرفضه أحد.

سواء صح الخبر أم لا فإن نقطة الإضاءة فيه هي فيروز، فهي من تقبل، وهي من ترفض، وإذا ألغز الأمر على القوم فهي الوحيدة ربما التي من حقها أن تلتزم الصمت فلا تعلّق، وإذ ذاك يتحوّل صمتها نفسه إلى خبر.

ذلك ليس شأن السوشيال ميديا، بل جوهر الفن وقيمته لا ثمنه، وثمّة فرق بين القيمة والثمن، فلو قبلت فيروز فإن أحداً لن يرى المبلغ الذي سيدفع لها كبيراً لأنها تستحقه بداهةً، ولأنه ليس الخبر، بل مشاركتها في حفلات هيئة الترفيه لو فعلت، بينما سيكثر اللغط في حالة سواها، ذلك أن ثمة ما ومن يُباع ويُشترى، وما يُباع له ثمن تحرص العامة على معرفته، وذلك لا ينطبق البتة على السيدة فيروز، لمستواها الرفيع ولما تتركه أعمالها من أثر، وهو عميم وعابر للأجيال والحدود.

ما يعضد هذا أن تستعاد أغنية مجهولة لها، بالتزامن مع حرب الإبادة على غزة، وهي تهكمية، أو مثل ذلك الضحك الذي "يشبه البكا" في وصف المتنبي لمصر، والأغنية بعنوان "سافرت القضية"، وكلماتها ليست موزونة على خلاف القصائد التي غنتها في مرحلة صعودها الكبير في الستينيات، ولا حتى مسجوعة، بل مباشرة وساخرة، تصف حال القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة، حيث الرحلة عبثية وبلا معنى، وحيث ثمة رياح ستظل تقتلع خِيام اللاجئين حتى أيامنا هذه.

شاع أن الأغنية صدرت عام 1968، وأن السيدة فيروز غنتها في الجزائر، ومُنعت من البث بعد ذلك، لكن المؤرخ محمود زيباوي، الذي يتمتع بموثوقية ومصداقية عالية، أكد أنّها غنتها فعلاً في ذلك العام، ولكن في سوريا وليس الجزائر، في مُستَهل مسرحية "الشخص" لدى عرضها في معرض دمشق الدولي. وبحسب زيباوي فإن الأغنية لم تُمنع أبداً، ولكنها من بين عدد غير قليل من أغنيات السيدة فيروز التي لم تصدر في ألبوم أو تسجيل تلفزيوني.

يرد زيباوي، في برنامج بثته قناة "إم تي في" اللبنانية، غياب بعض أغنيات فيروز الخاصة بفلسطين إلى أسباب تقنية لا سياسية، منها تغيير نوعية شرائط التسجيل في حقبتي الخمسينيات والستينيات في الإذاعات العربية، مما تسبّب في تكريس الظن بأن أغنية "راجعون"، الصادرة عام 1955، هي أولى أغنياتها الفلسطينية، بينما الحقيقة أنها سبق وغنت قصيدتي "داري" و"ابنة بلادي" للشاعر الفلسطيني الكبير عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وبثتهما الإذاعة السورية عام 1953. كذلك، أثمرت الفترة التي قضتها في العاصمة المصرية القاهرة في عام 1955، أغنيات عدة خاصة بالقضية الفلسطينية، من بينها مغناة "فوق الجبال"، ثم "راجعون". واللوحة الغنائية الأخيرة مختلفة عن المعروفة حالياً، وسُجّلت بناء على طلب الإذاعي الشهير أحمد سعيد، وقُدّمت بمشاركة المطرب المصري الشهير كارم محمود.

يُضاف إلى ذلك لوحة "مع الغرباء"، بالتعاون مع محمد الطوخي، ومن تأليف الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، وواضح من سرد زيباوي أن بعض هذه الأعمال لا يزال مجهولاً لدى الكثيرين حتى يوم الناس هذا.

وهناك أيضاً أغنيات أخرى مجهولة لفيروز، ومنها العمل الغنائي البديع "من بلادي" الذي أدّته السيدة فيروز في معرض دمشق الدولي عام 1959، ومنه أغنية "أنا والمساء على بابي والخيّر الأردن يسقي ترابي"، وهي في المناسبة موجودة في أرشيف الإذاعة الأردنية، وكبرنا على سماعها، ولا أعرف لماذا لا تبادر وزارة الثقافة الأردنية على الأقل لإعادة توزيع وأداء هذه الأغنية، باعتبارها إرثاً يخص الأردن كما يخص القضية الفلسطينية والسيدة فيروز.

المساهمون