فرنسا مضطربة فهل يُعطَّل مهرجان "كانّ"؟

فرنسا مضطربة فهل يُعطَّل مهرجان "كانّ"؟

08 مايو 2023
تييري فريمو مواجِهاً كورونا: أيُمكنه غلبة اضطرابات فرنسا اليوم؟ (باسكال لو ساغروتان/Getty)
+ الخط -

 

تُنظَّم الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي، وسط أزمة اقتصادية خانقة، تمرّ بها أوروبا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية (24 فبراير/شباط 2022). معدّلات تضخّم مرتفعة بشدة، على نحو ملحوظ، انعكست تبعاتها بقوة على المعيشة اليومية للناس، منها خدمات كثيرة، أبرزها السلع الأساسية، ووسائل النقل، والإقامة، وغيرها.

تُعاني فرنسا تداعيات هذه الأزمة، بشكل لافت، مقارنة ببقية دول أوروبا وبلدان العالم. خاصة مع تفجّر الأوضاع بسبب القانون الجديد للتقاعد، إذ رفعت حكومة إيمانويل ماكرون الحدّ الأدنى لسنّ التقاعد من 62 عاماً إلى 64، وأطالت سنوات الاشتراكات المطلوبة للحصول على راتبٍ تقاعدي كامل، لتتم الموافقة على الإصلاحات في مارس/آذار الفائت، من دون تصويت البرلمان، بعد شَدّ وجذب، ونقاش سبق إقراره، رغم كلّ الاحتجاجات والتهديدات من مختلف الاتحادات والنقابات والهيئات، وفئات الشعب الفرنسي، ما أشعل مظاهرات عنيفة وكثيفة، واضطرابات وإضرابات هنا وهناك، لشَلّ مظاهر الحياة، كإحدى أوراق الضغط على الحكومة لثنيها عن إقراره. من أبرز الإضرابات المستمرة، تلك التي يقوم بها عمّال النظافة وجمع القمامة من الشوارع.

في هذا الشأن، تواترت، قبل أيام قليلة، أخبار بشأن اعتزام إحدى النقابات العمالية قطع التيار الكهربائي أثناء انعقاد الدورة الـ76 لمهرجان "كانّ". طبعاً، يعرف الجميع مدى أهمية هذا الحدث السينمائي السنوي، الذي يحظى بتغطية إعلامية، الأكبر والأبرز في العالم، إخبارياً وفنّياً، ما يجعله أداة ضغط قوية، يُمكن استغلالها بفعالية وقسوة، ربما تصل حدّ الفضيحة، ضد الحكومة الفرنسية.

ليس الأمر مزحة أو دُعابة سمجة، إطلاقاً. فـ"نقابة عمّال الطاقة الفرنسية" هدّدت بقطع الكهرباء عن المهرجان، وعن غيره من الأحداث الكبرى المقامة في فرنسا، احتجاجاً على إصلاح نظام التقاعد في البلد. أضافت، في بيان لها مكتوب بنبرة تهديد وتحذير: "في أيار، افعلوا ما تريدون.

لكن مهرجان "كانّ" السينمائي، والـ"فورمولا وان"، ودورة رولان غاروس للتنس، ومهرجان أفينيون المسرحي، يمكن أنْ تقام في الظلام، ولن نستسلم". يؤكّد الخبراء أنّه بإمكان النقابة القيام بهذا فعلاً، فلديها القدرة على ذلك، إذْ قطعت الكهرباء عن مصنع في إقليم "راين" فترة وجيزة، عند زيارة إيمانويل ماكرون له، كما حصل في زيارته كلية في إقليم "إيرو"، جنوبي البلد.

في مهرجان "Series Mania"، أحد أكبر المهرجانات الأوروبية المُختصة بعرض المسلسلات الدرامية (17 ـ 24 مارس/آذار 2023) في مدينة "ليل"، اقتحم متظاهرون احتفال السجادة الحمراء، فطلب مسؤولوه شرطة مكافحة الشغب للتدخّل.

فهل يُمكن أنْ يحدث هذا في مهرجان "كانّ"، أم أنّ الحكومة الفرنسية، ممثلة بالشرطة والجيش، اتّخذت تدابير تمنع عرقلة الحدث وإفساده، وإنْ تطلّب الأمر انتشار أفرادهما في الشوارع، وتفتيش المارة؟ هذا يستعيد الحاصل قبل أعوام قليلة، مع الاعتداءات الإرهابية على مدن أوروبية، فرنسية تحديداً.

لا أحد يعرف، بالضبط، ما ستؤول إليه الأمور، أو ما يُخطَّط له في هذا الشأن. لكنّ المؤكّد أنّ كلّ شيء ممكن ووارد، خاصة مع التنبّه إلى تاريخ الإضرابات الفرنسية، وقوة اتحادات العمل ونقاباته، وأيضاً إلى التاريخ السياسي لمهرجان "كانّ"، ودوره المؤثّر، وكيف أنّه لم يكن يوماً بعيداً عن السياسة، أو منقطعاً عن محيطه، في فرنسا وخارجها. فالمهرجان استُخدم كأداة ضغط في 18 مايو/أيار 1968 من سينمائيين، عند اندلاع مظاهرات الطلاب. يومها، تمكّنت أسماء باتت فارقة في تاريخ السينما المعاصرة، كجان ـ لوك غودار وفرنسوا تروفو ولوي مال وكلود لولوش ورومان بولانسكي وغيرهم، من إجبار المهرجان على إيقاف دورته الـ21، التي كان يُفترض بها أنْ تُقام بين 10 و24 مايو/أيار ذاك العام، لكنّها توقّفت في 19 منه، خضوعاً لرغبة هؤلاء المخرجين الثوريين السبَّاقين وضغوطهم، واحتراماً للظروف التاريخية العصيبة آنذاك.

 

 

لذا، يُرجّح بشدة حدوث أي شيء: إضرابات مُتَعمّدة تشلّ مطار "نيس" تحديداً، البوابة الرئيسية لمجيء الغالبية الكبرى من ضيوف المهرجان؛ استكمال عمّال النظافة في إضراباتهم، ما يغرق طرقات مدينة "كانّ" وأزقّتها وساحاتها في القمامة، في الأيام كلّها للدورة الجديدة للمهرجان؛ إضرابات قطاع النقل العام والسكك الحديدية وسيارات الأجرة؛ تظاهرات حاشدة أمام "قصر المهرجانات والمؤتمرات"، المقرّ الرئيسي للمهرجان السينمائي، فتستحيل الحركة، ويعجز النجوم والضيوف عن التواجد فيه، وتحدث تعطيلات وتأخيرات؛ استهداف العروض نفسها بالتعطيل والمقاطعة والتشويش والصخب، كما بات يحدث أخيراً من مهاجمة متاحف فنية، واعتداءات على أعمال إبداعية، للفت الانتباه إلى قضايا مختلفة، مُلحّة ومؤرقة، ربما تكون بالغة الأهمية.

من ناحية أخرى، اعتاد المهرجان، أقلّه في العقود الأخيرة، تبنّي قضايا حيوية، والإدلاء بآراء وتصريحات، والإعلان عن تضامن مع مسائل مختلفة، سياسية واجتماعية وإنسانية.

مع ذلك، لم تصدر إدارة المهرجان أي بيان، أقلّه إلى الآن. فالمهرجان، أساساً، يعمل فيه فرنسيون عديدون، إلى متعاونين، تمسّهم القوانين المتعلّقة بالتقاعد. فهل هناك ضغوط أو مواقف ضمنية متّفق عليها في الإدارة، بخصوص عدم الانخراط في هذا الشأن؟ أم أنّ للعاملين فيه رؤية أخرى، أو وسيلة مغايرة للتعبير، كوقفة احتجاجية مثلاً في أيام دورته الجديدة؟

هل يمكن لمُمارسات وضغوط وتهديدات كهذه أنْ تصنع شيئاً عملياً، أم أنّ الحياة وطبيعة العصر والسياق الزمني، ومتغيرات أخرى، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، في فرنسا، المتأثّرة بالعالم حولها، باتت مختلفة عما كان البلد عليه في القرن الماضي، وفي ستينياته مثلاً، وهذا انعكس على الممارسات والأساليب والأدوات الراهنة، ومدى نجاعتها من عدمه.

لكنْ، بصرف النظر عن هذا، وبعيداً من السياق الزمني والتاريخي، هل يُمكن مُقارنة السينمائيين المعاصرين الآن، في فرنسا، بأقرانهم من أبناء القرن الماضي؟ هل يجسر أحدٌ من أهل الصناعة على اقتحام نشاطات المهرجان، أو المطالبة بإيقافه، أو منع العروض، أو أقلّه الصعود على خشبة المسرح في إحدى حفلتي الافتتاح والختام، للتعبير عن موقف جريء ومعارض، والإعلان عن مطالب واضحة وصريحة وفورية ضد هذه القوانين، انطلاقاً من "كانّ" ومهرجانها؟ أم أنّ الأمور اختلفت جذرياً الآن، إلى درجة باتت معها أي مواقف وأفعال ثورية خيالاً وتوهّمات، بسبب اختلاف التوجّهات والانتماءات والمواقف والمصالح والرعاة؛ خاصة مع استعادة صناعة السينما شيئاً مهمّاً من حيويتها، بعد "انتهاء" كورونا، والسعي الحثيث لأربابها إلى تعويض ما فات أضعافاً مضاعفة، بصرف النظر عن أي شيء؟

أخيراً، هل سيمرّ الحدث السينمائي من دون مشاكل، نهائياً، أو سيتعكّر صفوه، قليلاً أو كثيراً؟

المساهمون