زكريا أحمد: سيرة لحنية في خمسة أفلام

زكريا أحمد: سيرة لحنية في خمسة أفلام

17 فبراير 2022
شكّل زكريا أحمد وبيرم التونسي ثنائيين مهمّين مع أم كلثوم (فيسبوك)
+ الخط -

بين كبار الملحنين المصريين، يكاد زكريا أحمد (1896 - 1961)، أن يكون الموسيقي الوحيد الذي لحن كلّ القوالب والأشكال الغنائية، من قصيدة ودور وموشح وطقطوقة ومونولوغ ومسرحيات غنائية. وبالأرقام التقريبية، فقد لحن الرجل أكثر من 30 قصيدة، وأكثر من 30 دوراً، ونحو 35 موشحاً، وما يتجاوز 400 طقطوقة، و40 مونولوغاً، ونحو 60 محاورة (ديالوغ)، و10 أناشيد، و20 موالاً. كما لحن الرجل أغنيات 56 مسرحية، تضمنت أكثر من 500 أغنية.
ومن أهم ما تصدى له، تلحين الأغنية السينمائية، التي حقق فيها، عبر صوت أم كلثوم، إنجازاً كبيراً. وتُثبت لغة الأرقام أنّ سيدة الطرب، وهي في قمة مجدها، وثقت في قدرة الشيخ على تقديم أعمال غنائية سينمائية شديدة الجذب. وخلال أفلامها الستة، الممتدة بين عامي 1936 و1947، قدمت أم كلثوم 48 عملاً، وبينما كان نصيب محمد القصبجي من هذه الأعمال 16 لحناً، ورياض السنباطي 12 لحناً، كان نصيب زكريا أحمد 20 لحناً، حقق معظمها نجاحاً جماهيرياً كاسحاً، وعاش في وجدان الجماهير إلى اليوم. شارك أحمد في فيلم "وداد" بثلاثة ألحان، ولم يكن له نصيب من فيلم "نشيد الأمل"، ولحّن ثلاثة أعمال في فيلم "دنانير"، وأربعة أعمال في فيلم "عايدة"، وسبعة أعمال في فيلم "سلامة"، وثلاثة أعمال في فيلم "فاطمة".
في عام 1936، قدمت أم كلثوم أول أفلامها، "وداد"، وتضمن من أعمال أحمد قصيدة "أيها الرائح المُجد"، ومونولوغ "يا بشير الأنس"، وأيضاً مونولوغ "يا ليل نجومك شهود". غلب على هذه الأعمال الهدوء والبطء، لكن توافقها مع السياق الدرامي كان كبيراً.

ولا أحد يعرف سبب استغناء أم كلثوم عن ألحان الشيخ في فيلمها الثاني "نشيد الأمل"، لكنها على كل حال، عادت للتعاون السينمائي معه في عام 1940، وتحديداً في فيلم "دنانير"، الذي قدم خلاله لحنه الشهير "بكرة السفر" المستهل بأقصر مذهب عرفه قالب الطقطوقة على الإطلاق، وقد مثل هذا القصر تحديداً كبيراً بقريحة زكريا الموسيقية، فاستنفر قدراته الكبيرة في التقطيع والتكرار، ليخرج بمذهب بالغ الرشاقة. كما قدم أحد أشد ألحانه تعبيراً عن الأسى والفقد عبر قصيدة "رحلت عنك ساجعات الطيور"، كما قدم أيضاً قصيدة "قولي لطيفك ينثني".


استمر الشيخ زكريا في ألقه وتفوقه مع إطلاق أم كلثوم فيلم "عايدة"، وفيه قدم طقطوقة "القطن فتح" التي حملت تجربته الخاصة لاستخدام مقام الصبا، ذي الطابع الحزين في لحن فرح مطرب نشط، وادخر الحزن لنص "فضل لي إيه يا زمان"، وهو مونولوغ بطابع الموال، ساعد مقام الحجاز على تناسبه مع الموقف الدرامي. كما قدم طقطوقة "يا فرحة الأحباب". وقد اشتمل هذا الفيلم، وبألحان أحمد، على محاورة "إحنا وحدنا" مع المطرب إبراهيم حمودة. وهو الديالوغ الوحيد الذي غنته أم كلثوم خلال رحلتها الفنية الطويلة.


حين جاءت لحظة إنتاج فيلم "سلامة" عام 1945، كانت نجاحات الشيخ في تلحين الأغنية السينمائية حاضرة في ذهن أم كلثوم، فمنحته سبعة ألحان من أصل ثمانية، هي كل أغنيات الفيلم، إذ لحن السنباطي عملاً وحيداً هو قصيدة "قالوا أحب القس سلامة".
مثلت أغنيات الفيلم فرصة كبرى للشيخ زكريا، فاستجمع أطراف موهبته الكبيرة لبلوغ ذروة عليا، من الثراء والتنوع والتجديد والإطراب والهيمنة على المستمع والمشاهد. تضمنت الألحان السبعة قوالب الموال، والديالوغ، والطقطوقة، والمونولوغ، والموشح. وهو أمر غير مسبوق ولا ملحوق في تاريخ السينما المصرية.

اندفع زكريا كشلال متدفق، وكان لحنه الأول واحداً من أقوى ما عرفه الغناء العربي من قالب الموال "برضاك يا خالقي". والأصل في الموال أنّه مرتجل وليس موضوعاً، لكن السينما تستلزم الوضع وليس الارتجال، كما أنّ الغناء العربي عرف المواويل سابقة التلحين، من خلال تجارب مهمة لمحمد عبد الوهاب. استغل زكريا الطاقة القصوى لصوت أم كلثوم، وبلغت هي بتعبيرها أداءً غنائياً لافتاً في أكثر من وضع، ويمكن لأيّ مستمع أن يدرك هذا مع لفظتي "أعضاي" و"شكواي"... وكانت هذه مجرد بداية.
لا تتأخر الأحداث الدرامية كثيراً، حتى تأتي المفاجأة الثانية، بأغنية حفظها العرب، وطربوا لها، واستحضروها في مجالس طربهم وليالي أنسهم: "سلام الله على الحاضرين... من الصاحيين إلى النايمين". عبّرت ألحان زكريا أحمد أعظم تعبير عن كلمات بيرم التونسي، وأرسلت أم كلثوم صوتها مليئاً مهيباً: "رعينا الغنم وسقناها... وكم بالعصا ضربناها... لقينا الغنم... تحب الطرب... ولو تنشتم... ولو تنضرب... فلا فحلها قليل الأدب... ولا كبشها سريع الغضب". وبعد هذه الجمل القصيرة الرشيقة المتفجرة بالطرافة، تنقلب الأغنية من الديالوغ إلى المونولوغ، وتحديداً مع قولها: "عن العشاق سألوني"... لم يكن الأمر معتاداً، لا في السينما ولا خارجها.


ثم يأتي زكريا بثالثته، مختلفة في قالبها: "طقطوقة" ومتغيرة في مزاجها "حزينة". وترسل أم كلثوم صوتها محملاً بالأسى والحسرة: "عيني يا عيني... بالدمع وافيني... تهون عليّ الروح... لو فارقت جنبي... ولا فراق محبوب... سكّنته في قلبي". لكن شيخ الطرب يواصل خطة الثراء الفاحش؛ فبعد تلك الجرعة الحزينة، ومع تطور السياق الدرامي، يقصف زكريا بقنبلة استثنائية، التي صاغها بيرم بكلمات استثنائية: "قل لي ولا تخبيش يا زين... إيش تقول العين للعين". نص يحمل عدداً من الفوازير... تؤدى بصيغة المحاورة، مع الاحتفاظ بهيكل الطقطوقة.. محاورة لأن الأسئلة توجه من حضور المجلس، والإجابة تأتي من أم كلثوم.. وطقطوقة لأن الكورال يردد العبارة الأخيرة من الإجابة بلحن متكرر. يرى فيكتور سحاب أن هذا الشكل المبتكر لا مثيل له في تاريخ الأغنية العربية.

وتأتي الأغنيات الخامسة "في نور محياك الهني"، على شكل مونولوغ فرح احتفالي، ولا ينسى جمهور أم كلثوم من هذه الأغنية عبارة "الله يزيد قلبك علينا حنان"، التي جمع زكريا في تلحينها بين الإطراب والظرف والقفلة المشيخية. ثم يحن إلى تقطيعاته المطربة: "والأمر لك.. والنهي لك.. واللي ملك.. الاتنين يعيش سلطان".
وبعد أن تمتلئ مشاهد الفيلم طرباً، ويُظنّ أن ليس فوق ذروته ذروة، يكشف الشيخ زكريا عن طاقة موسيقية، تتفجّر بالسادسة: "غني لي شوي شوي... غني لي وخد عيني". اعتبرها عبد الوهاب واحدة من أعظم الأغنيات ذات الطابع الخفيف، وجعلها العرب عنواناً للأنس والسعادة والطرب. صارت زينة المجالس والرحلات والسهرات: "المغنى حياة الروح... يسمعها العليل تشفيه... وتداوي كبد مجروح... تحتار الأطبا فيه... وتخلي ظلام الليل... في عيون الحبايب ضي... غني لي شوي شوي". كانت هذه الأغنية من أهم شواهد الاتحاد الوجداني بين بيرم وزكريا. أحبها المستمعون على اختلاف أذواقهم وطبقاتهم وثقافاتهم... فكأنّ كلماتها المكتوبة، ولحنها الظاهر، قد اتحدا معاً، لحمل رسالة إلى المستمع مفادها: أنا أغنية لا تموت... أنا لحنٌ باقٍ.


أراد شيخ الطرب أن يقول لمقدري فنه: إنّ أقل ما تجدونه من ألحاني بهذا الفيلم، موشح صغير، من نظم الأحنف بن قيس: "يا بعيد الدار موصولا بقلبي ولساني.. ربما باعدك الدهر وأدنتك الأماني.. يا لالالي". فقط دور أول وخانة، لكنه وإن لم يكن على الدرجة المنتظرة في تلحين الموشحات، فإنه يبقى وحيداً بين أعمال أم كلثوم، التي لم تغن غيره من هذا القالب التراثي.
وإذا كان الحديث عن فيلم "سلامة"، فمن الصعب أن ننسى دور زكريا أحمد، الجوهري في النجاح الكبير الذي حققته –وما زالت تحققه- تلاوة ام كلثوم لآيات من القرآن الكريم من سورة إبراهيم، فيكاد يدمع المهتمون بتوثيق تراث سيدة الطرب أنّ للشيخ زكريا دوراً في اختيار المسار النغمي للتلاوة، ومن مقام الحجاز، ثم إلى مقام الصبا، ليضفي أجواء الخشوع الملائمة للمشهد المتضمن للتلاوة.
ثم كان فيلم "فاطمة" آخر ما قدمت أم كلثوم للسينما، وكان نصيب زكريا ثلاث أغنيات من أصل تسع، وزعتها أم كلثوم بالتساوي بينه وبين القصبجي والسنباطي. وعبر الفيلم، استمع الناس لصوت أم كلثوم يتلألأ كالألماس وهي تشدو بعمل ضمه الزمن بعد ذلك إلى قائمة الخوالد: "الورد جميل.. وله أوراق.. عليها دليل من الأشواق.. شوف الزهور بقى واتعلم.. بين الحبايب تعرف تتكلم". طقطوقة، أتبعها زكريا بأخرى تتفجر فرحا ونشاطا "جمال الدنيا يحلالي وأنا وياك". ويختم زكريا بـ"نصرة قوية"، وكأنها إعلان لانتصاره الساحق في الأغنية السينمائية، بصوت مطربة العرب الكبرى. حملت "نصرة قوية" كل معاني الفرح والانتصار: "نصرة قوية.. يديمها عليا.. وعلى أحبابنا اللي حواليا".

يتبدى الشيخ زكريا أحمد عملاقاً في كلّ ميدان يتصدى له. تلين الكلمات بين يديه كما لا تلين لأحد، يصوغها كيف يشاء طربا وفرحا، أم أسى وحزنا.. يكسبها هدوءًا أو يمنحها نشاطا.. يتركها في صورتها التقليدية، أو يلحنها بصورة تجعلها عصية على القولبة والتصنيف. حياته وإنتاجه وتجاربه تخبرنا عن الحقيقة: ضع أمام زكريا كلاما من صحيفة، وسيلحنه فيُسمع ويُطرب، أو ضع أمامه كلمات لبيرم، وسيحلّق إلى مكان بعيد.

المساهمون