التسلية والمرح وما يشهده العالم

التسلية والمرح وما يشهده العالم

03 فبراير 2021
منتجات التسليّة عاجزة عن مخاطبة الوباء والشرط الذي نعيشه (Getty)
+ الخط -

نقرأ في عدد من المجلات والمواقع الخاصة بـ"أسلوب الحياة"، تنويعات متعددة على سؤال "هل فقدنا المرح من حياتنا؟". ونستخلص من الأسئلة والإجابات أن ما كان نشاطاً مرحاً كقراءة الكتب، الاستماع للموسيقى، مشاهدة الأفلام، تصفح وسائل التواصل الاجتماعيّ... إلخ، لم يعد مسلياً أو مرحاً، وكأن الشرارة داخل كل واحد منا انطفأت بسبب ما يشهده العالم، وفقدت هذه المُنتجات ألقها وقدرتها على مخاطبتنا. 

لفهم تساؤلات "المرح" و"التسليّة"، لا بد من أن نشير إلى الشرط الاجتماعي والسياسي الحالي، الذي يراهن على "اللاحركة" بوصفها العنصر الأهم من أجل تفادي العدوى، إذ فُرِض على الناس البقاء في المنزل والاسترخاء واستهلاك المنتجات الثقافية لتفادي "الخارج" وما يحمله من أخطار. كما أن الحس بالمواطنة الآن يفرض أن يبقى كل واحد منا في منزله لحماية "الجميع". 

الحس بالمواطنة يفرض أن يبقى كل منا في منزله لحماية "الجميع"

هذا الشرط لا يتطابق مع أسلوب تدفق صناعة التسليّة والمرح، أي أن وقت الفراغ، الذي يرى البعض أنه مُهيمن الآن، هو وقت اللاعمل، أو بصورة أدق؛ وقت الاستعداد للعمل. والحكايات التي نشاهدها ونسمعها ونقرأها ضمنه، مفترض أنها فعّالة ضمن الشرط الطبيعيّ، كونها تطرح علينا تساؤلات قد نختبرها في فضاءات العمل والفضاءات العامة. لكن بسبب تطابق مكان العمل مع مكان الراحة، وفقدان الفضاء العام لأهم خصائصه المتمثلة بالتجمع، بل وفقدان الكثيرين لأعمالهم، جعل تدفق هذه المنتجات ضمن فضاءاتنا الخاصة أشبه بأسلوب لحماية الذات والنجاة من الخارج والانشغال في الداخل، ما هدد قيمة هذه المنتجات نفسها وقدرتها على توليد الحس بالتسلية أو المرح. 

ما نحاول قوله هو أن استهلاك هذه المنتجات أصبح جزءاً من استراتيجيّة النجاة، بسبب تصاعد حكايات الاكتئاب والملل والقلق، لتتحول صناعة الترفيه إلى الملجأ الأسهل للحفاظ على الصحة العقليّة، وكأنها شكل من أشكال التداوي ضمن شرط يفترض أن عزلة الفرد هي أسلوب نجاته، ولم يبق له "عدو" سوى ذاته وما تخفيه، ومهمته الآن هي الحفاظ على سلامته العقليّة وفرادته. 

الأهم، أن الفردانيّة التي تراهن عليها هذه المنتجات، ترسخ نماذج تساعد المشاهدين على حماية "فرادتهم" واستقلاليتهم، هي "دروس" للتبجح بالخصائص الذاتيّة، وأوهام التميّز التي يتبناها كل فرد، ويجب الدفاع عنها واستعراضها. بالتالي، نحن نستهلك هذه المنتجات لتكوين ذواتنا، أو مساءلتها، ونبحث عن المرح والتسليّة للتخفيف من عبء الضغوط الاجتماعية والسياسية بأبسط التعبيرات، لكن غياب مساحات الاستعراض والاختلاف وتلاشي السياقات التي تظهر فيها فردانيتنا (السوق، الملعب، الشارع.. إلخ) نفيا عن النجاة واحدة من أهم خصائصها، ألا وهي الاختلاف عن الآخرين أو منافستهم. وتحول الصراع من أجل الحفاظ على الفرادة إلى صراع مع الذات نفسها، لتجاوز ما نشأ عن الحجر الصحي، وكأن الفرد الآن في معركة أمام اضطراباته الذاتيّة، وما هو مفترض أن يكون تسليّة أو استراحة من المعركة تحول إلى علاج يحمي الذات من ضياعها وغرقها في هواجسها.

الرغبة بالنجاة، التي نفترض أنها استبدلت الحس بالتسليّة، ترتبط أيضاً بطبيعة منتجات التسليّة ومكوناتها الجماليّة، فهي ما زالت عاجزة عن مخاطبة الوباء والشرط الذي نعيشه، وهذا ما نراه في أكثر أفلام التسلية انتشاراً؛ أفلام الأبطال الخارقين، إذ لا يوجد بطل خارق قادر الآن على إنقاذنا من الوباء، فطبيعة القوى التي يمتلكها أي واحد من هؤلاء الأبطال لا تصلح لإنقاذ كل البشريّة منه، ما يجعلنا عاجزين عن التماهي معه ومع أقرانه.

لايف ستايل
التحديثات الحية

في ذات الوقت، كل واحد من هؤلاء الأبطال قادر، بل ومصمم، على أسلوب يجعله مستعداً للتضحية بذاته لأجل نجاة الجميع. لكن في ظل ما يحصل الآن، لا فائدة من أن يكون الواحد منا "الرجل الحديدي"، كونه غير قادر على إنقاذ أحد، وإن اختار نجاته الشخصيّة فستتلاشى قيمته كبطل، لكنه سيرسخ صورته كـ"مواطن" مطيع حبيس منزله. وهنا تبرز المفارقة، ما قيمة القوة الخارقة إن كان على صاحبها أن يبقى أسير جدران أربعة؟

تبدو المقاربة ساذجة، خصوصاً أن أساس الكثير من أفلام الخيال العلمي قائم على خطر يهدد الجميع، لكن في حال نظرنا إلى الأفلام الرومانسية بتنويعاتها، فهناك دوماً تحذير من وسائل التواصل الاجتماعي وضرورة الابتعاد عنها لإيجاد الشريك في الحياة الواقعيّة؛ أي تم وصم هذه الوسائل، بحق وبغير حق، بأنها تجردنا من إنسانيتنا القائمة على التفاعل البشريّ. لكن الآن، لا مجال سوى الاعتماد عليها، ليس فقط من أجل إيجاد الشريك، بل من أجل أدنى درجات التواصل، وهنا المفارقة الأخرى، ما حاولت صناعة التسلية والترفيه محاربته أصبح شرطاً لا يمكن الاستغناء عنه.

يمكن القول إن صناعة الترفيه خيبت الأمل لأنها أمام حكاية لم تكن متوقعة، إلى جانب تحول استهلاكها إلى نوع من أنواع العلاج الذاتي أو المهرب مما نعيشه، ما أفقدها قدرتها على التسلية أو خلق المرح الناتج عن الانفعال العاطفي المرتبط بالتماهي مع شخصياتها والاحتمالات التي تقدمها، كما أن رأس مال الصحة النفسيّة مهدد، ولا يوجد بين يدينا أساليب مضمونة أو مبشرة بكيفية تجاوز ما نشهده، أو على الأقل الحفاظ على فرادتنا ضمنه، سوى مشاهدة ساعات طويلة من المسلسلات والأفلام، من دون القدرة على اختبار ما تطرحه من تساؤلات في الفضاء العام. 

المساهمون