الإساءة إلى سُمعة مصر: أكذوبة الوطنيّات الفارغة

الإساءة إلى سُمعة مصر: أكذوبة الوطنيّات الفارغة

22 أكتوبر 2021
شريف منير: استعراض خائب لممثل مصريّ (إبراهيم رمضان/ الأناضول)
+ الخط -

 

لن يستقيم بلدٌ طالما أنّ فنانين وفنانات عرباً يُسيئون إلى سُمعته، بتصرّف أو قول أو سلوك أو عملٍ. أساساً، تعبير "الإساءة إلى سمعة" مُسيءٌ بحدّ ذاته، واستخدامه أكثر إساءة منه. استقامة بلدٍ تحتاج إلى أدوات وأفعال كثيرة، يُفترض بفنانين وفنانات أنْ يُساهموا فيها، بتصرفٍ وقول وسلوك وعمل، في إطار نقاشٍ ومواجهة وتعرية، بدلاً من ممارسة نقيض هذا، فيكون النقيض إساءة للبلد وناسه، وللمهنة التي يمارسون.

أمّا السؤال، الذي ربما يُفقِد التعليق ضرورته، فكامنٌ في معرفة مدى أهمية فنانين وفنانات، يخطئون بتصرّف وقول وسلوك وعمل، فتكون أفعالهم الفنية (وغير الفنية غالباً) إهانة للفنّ وحيويته ومعناه، لشدّة بهتانه، رغم نجوميةٍ لهم ولهنّ، تخرج قليلاً من بلدهم، لكنّها تعجز عن تخطّي البحر والمحيط إلى العالم، إلا نادراً جداً.

اتّهامٌ جديد بالإساءة إلى سُمعة مصر يسوقه منتفضون على "ريش" (2021)، للمصري عمر الزهيري، لانزعاجهم من تصويره الفقر في بلدهم. تصوير الفقر إهانة للبلد، بينما تفشّي الفقر في البلد، لأسباب كثيرة بعضها مرتبط بسوء إدارة البلد من نظام يحكم البلد ويتحكّم بناسه، ليس إساءة لمصر ولشعب مصر. ثلاثة ممثلين، شريف منير وأحمد رزق وأشرف عبد الباقي، يخرجون من عرضٍ لـ"ريش"، في الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، لأنّ "وطنيّتهم" تُثير فيهم حماسة الانتفاض عليه، فتصويره الفقر مُهين للبلد، بالنسبة إليهم، بعد عرض دولي أول له في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي.

هؤلاء وأمثالهم يظنّون أنّ الغرب ينتظر فيلماً كهذا كي يُدرك أنّ الفقر يعمّ مصر، وهذا يجعلهم وطنيين، يحرصون على سُمعة البلد، من دون اهتمام بحاجات ناسه، وبينهم فقراء كثيرون، أو أنّهم يدّعون حرصاً على البلد بينما حرصهم هذا معنيّ بسلطة يقودها عسكريّ وجماعته ببطشٍ وقتل واضحين. هؤلاء الوطنيون يعتبرون أنّ "ريش" ـ الفائز بـ"الجائزة الكبرى نسْبرسّو" و"جائزة الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي)" في الدورة نفسها لمهرجان "كانّ" نفسه ـ يُسيء فعلاً إلى بلد الفراعنة، فيخافون على بلدهم من تصوير واقعٍ يعاني ناس البلد طغيانه في حياتهم اليومية. هؤلاء يخافون من وضوح الصورة، فيدّعون وطنية زائفة، ويرفضون فنّاً، أساسه الأول مواجهة السلطات كلّها، وأوّلها سلطة الفن التابع للسلطة الحاكمة. يخافون من نقل الواقع سينمائياً إلى خارج البلد، ويخافون أيضاً من ناس البلد فيتّهمون فيلماً بالإساءة إلى سُمعة البلد، لأنه يقول لناس البلد ما يعرفه ناس البلد ويعيشونه أصلاً.

أي غباء هذا؟ أي حماقة وادّعاء وطني وخضوع لحاكمٍ أو خوف منه؟ أي فنّ يمارسه هؤلاء وأمثالهم؟

 

 

هناك من يخشى احتفاءً بفيلمٍ في محافل سينمائية غربية، ربما لأنّ الذي يخشى احتفاء كهذا غير معروف في أوساط سينمائية غربية. الممثلون المصريون الثلاثة، كالغالبية الساحقة من العاملين في صناعة السينما المصرية، غير معروفين في غربٍ يصنع سينما، معظمها أهمّ وأرقى وأجمل وأعمق من تلك التي تصنعها هذه الغالبية، في بلدٍ يُسمّى تاريخياً بأنّه "هوليوود العرب". لكنْ، هناك من يُنجزون أفلاماً مصرية، أقلّه في الأعوام الـ25 الأخيرة، يرتقون بها ومعها إلى مصاف إبداع بصري وجمالي ودرامي ووثائقي متفاوت الأهمية، لكنّ المشترك بينها كامنٌ في حيويتها وتجديدها، لغة ومعالجة ومواضيع وتأمّلات وحكايات وأداء واشتغالاتٍ تقنية وفنية. هؤلاء يُحارَبُون عندما يحتفي بهم غربٌ يريد سينما، رغم أنّ في الغرب من يهتمّ بما تُقدّمه السينما لا بالسينما كفنّ.

تُهمة كهذه جاهزة دائماً. أفلام عدّة، منتمية إلى ما يُعرف بـ"الواقعية المصرية الجديدة" في ثمانينيات القرن الـ20، مثلاً، تُتّهم بالإساءة إلى سُمعة مصر، لأنّ صانعيها يغوصون في أحوالٍ وحالاتٍ مستلّة من واقع يُدركونه ويعيشونه، لكنّ تصويره سينمائياً، وتناوله وقراءته وسرده تفاصيل وتأثيرات منه وفيه، يُثير وطنيةً مشبوهة في نفوس توّاقة إلى سلطة حاكمة، وخانعة لها، لفراغٍ مُخيف يُقيم فيها.

أفلام مختلفة تصنع فصلاً من التاريخ الحديث للسينما المصرية، أهمّ وأرقى وأكثر حقيقية ومصداقية ووضوحاً من أنْ تُتّهم بالإساءة إلى سُمعةٍ، والإساءة تمارسها أفعال سلطات مصرية حاكمة منذ "ثورة يوليو" (1952) على الأقلّ، من دون تناسي بعض أفعالها، وهذا البعض إيجابي وقليلٌ، يُطاح به بسبب أفعالٍ مُسيئة ومُهينة وقاتلة (وللقتل أشكالٌ مختلفة) لمصر ولشعب مصر، ولسُمعة البلد وناسه معاً.

هذا غير متغاضٍ عن أصواتٍ مصرية، بعضها لنقّاد وصحافيين سينمائيين مصريين، تقرأ "ريش" بنظرة سينمائية، بعيداً عن تهمة مرتدّة على مطلقيها. أصوات تُدرك أهمية الواقع في سينما مصرية لها استمرارية تاريخية في معاينة الاجتماع وأحوال الناس والعلاقات القائمة بينهم، بلغة سردية تعتمد على الصورة والتفاصيل، من دون ثرثرة وخطابية وسذاجةِ مُعاينة. الممثلون الثلاثة، المنسحبون من عرض "ريش" في "مهرجان الجونة"، يبدون كأنّهم يريدون لفت انتباه إليهم، باختيارهم استعراضية كهذه، تترافق واتّهام كذاك، وإنْ يكن الاتهام مبطّناً، إذْ يتكفّل آخرون بالترويج له على ألسنتهم.

"الإساءة إلى سُمعة مصر"؟ عليكم بنظرةٍ، متواضعة على الأقل، لأحوال مصر وشعبها، لمعرفة من المُسيء الفعلي، فإساءاته اليومية أوضح من الشمس.

المساهمون