صفحات من تاريخ تهمة الإساءة إلى سمعة مصر (1)

صفحات من تاريخ تهمة الإساءة إلى سمعة مصر (1)

07 ابريل 2019
+ الخط -

في عددها الصادر بتاريخ 9 إبريل 1917 نشرت مجلة (المصور) قصيدة عصماء تحت عنوان (السينماتوغراف) جاءت فيها هذه الأبيات: 

"ولاة الأمر يا وزراء مصرٍ.. وأرباب الشهامة والسداد

أيرضيكم نرى الاخلاق فوضى.. وندرس شر أخلاق العباد 

فكم من أجنبيّ حلّ فينا.. وشيّد للضلالة شر نادي 

ولو سَمَحت معاليكم بنقدٍ.. به الاصلاح يُرجى للعباد 

فان (السينماتوغراف) فيها.. مناظر لهي أخلقُ بانتقادي

"مراقبة السياسة" إن أفادت.. وطهّرت البلاد من العوادي 

فان "رقابة الأخلاق" تأتي.. لأوطاني بمعنى مستفاد"  

لم تنشر (المصور) كبرى المجلات المصرية هذه الأبيات في المساحة المخصصة لبريد القراء، بل أفردت لها مساحة كبيرة في صفحاتها الرئيسية، لأن كاتبها كان "الأديب المطبوع" الشيخ محمد يونس القاضي، الذي اشتهر فيما بعد بكتابته لعدد من الأغنيات الرائعة التي لحنها سيد درويش على رأسها أغنية (بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي) التي صارت نشيداً وطنياً لمصر فيما بعد، وأغنية (يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح) التي تهرب فيها ببراعة من حظر الاحتلال الإنجليزي لأي أغاني تؤيد سعد زغلول أو تتضامن معه خلال نفيه خارج مصر، وكانت (المصور) تخصص له في تلك الفترة مساحة منتظمة لنشر "أزجاله الانتقادية" مثل هذا الزجل الذي خصصه لنقد ما تعرضه دور السينما التي كانت تعرض الأفلام الأجنبية فقط، حيث لم تكن الأفلام المصرية قد عرفت طريقها إلى دور العرض، ولذلك ركّز نقد يونس القاضي على دور الأجانب في تشييد نوادي الضلالة المعروفة بدور السينما، والتي "ترينا من بني الدنيا خليطاً يغذّون النفوس بشرّ زاد"، حيث تعرض صوراً "مذمّمة المقاصد والمبادي"، فترينا مثلاً مشهداً للص يسرق خزنة، ومشهداً نرى فيه نذلا لئيما يوقع في حباله فتاة، ومشهداً نرى فيه فتاة يعانقها فتى ويساومها ابتياع عرضها، ومشهداً نرى فيه رجلا ينتحر، وهو ما يؤدي في رأي يونس القاضي إلى "فساد الأمن" الذي هو "شر نتيجة تعود علينا من شرار الأجانب". 

لم يكن الشيخ يونس القاضي يعلم وقتها أن مسئولية "رقابة الأخلاق" ستسند إليه بعد سنوات من نشر زجله الداعي إلى التركيز على "رقابة الأخلاق" وعدم الاكتفاء بمراقبة السياسة، ليكون هو والروائي العظيم نجيب محفوظ أشهر الكتاب والمثقفين الذين تولوا ذلك المنصب رسمياً. بالمناسبة لم يكن القاضي أول رقيب مصري على المصنفات الفنية كما تنشر الكثير من المواقع الإلكترونية خطئاً، لكنه كان أشهر "رقيب مثقف" في تاريخ الرقابة لأنه بدأ عمله كرقيب بمنع عدد من أغنياته القديمة، التي أصبحت المعايير الرقابية الجديدة تراها خارجة على الآداب العامة، مثل أغنية "ارخي الستارة اللي في ريحنا أحسن جيرانك تجرحنا"، لكن مشكلة صناع الأعمال الفنية مع الرقابة، لم تنحصر فقط في شخص يونس القاضي ونجيب محفوظ وغيرهما من الرقباء الرسميين المثقفين المحكومين بقوانين الرقابة ولوائحها، بل في كثير  من الكتاب والمثقفين الذين تطوعوا للعب دور الرقيب بشكل عرفي تطوعي، جعلهم في أحيان كثيرة "ملكيين أكثر من الملك"، و"رقباء أشد وأنصح من الرقيب"، وبفضل جهود هؤلاء وخبراتهم لم تعد سلطات الرقابة معنية فقط بـ "رقابة الأخلاق" والحفاظ على الآداب العامة وحماية النظام العام والأمن العام ومصالح الدولة العليا، بل أضيف إلى مهامها بشكل غير رسمي، مهمة منع الأفلام التي ترتكب جريمة "الإساءة إلى سمعة مصر"، وهي جريمة أعجب ما فيها أنها منذ أن ظهرت إلى المجال العام في مصر، لم يُكتب لها توصيف قانوني على الورق، ولم يوضع لها عقوبة محددة، لكنها في الوقت نفسه كانت أكثر تهمة يتم توجيهها إلى المشتغلين بالفنون خصوصاً في مجال السينما، وهو ما تحاول السطور التالية أن تعرض لأشهر وأبرز نماذجه في مجال السينما بالتحديد، بالتركيز على الدور الذي لعبه الكتاب والصحفيون والمثقفون في خلق هذه التهمة ونشرها وتكريسها في الوعي الجمعي للمصريين، لتصبح بعد ذلك تهمة نكراء غير موجهة لصناع السينما فقط، بل لكافة المشتغلين بالفنون والآداب والإعلام، بل ولأي شخصية عامة قد يرى حراس المجتمع المصري على اختلاف مواقعهم أنه ارتكب فعلة مشينة تسيئ إلى سمعة مصر، وهو ما يتوجب بالضرورة أن لا يسكت عليه أي مصري غيور، لا يرضى بأن تتم الإساءة إلى سمعة أمه أو زوجته أو أخته أو أي من أهل بيته، فكيف يسكت إذن حين تتم الإساءة إلى سمعة مصر التي هي ليست أمه فقط، بل هي أم الدنيا قاطبة. 

أول الضحايا المحليين

 

بعد هجوم يونس القاضي الزجلي المبكر على "السينماتوغراف"، تواصل هجوم الصحف والمجلات المصرية على في السنوات التالية على "دور الصور المتحركة" التي لا يُعرض فيها "إلا مناظر تمثل الحياة المصرية تمثيلاً سيئاً، فالحياة الصناعية ليست إلا صناع الفخار وماسحي الأحذية، والحياة الاجتماعية عبارة عن قرد يلاعب قردة أو نسوة يركبن مركبة يجرها حمار" مثلما نشرت صحيفة (الصور المتحركة) في عددها الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1923، وفي عددها الصادر بتاريخ 17 يناير 1924 نشرت المجلة رسالة من قارئ من أمريكا يهاجم فيلماً أمريكياً بعنوان (ما تقدمه مصر) قام بعرض "مناظر الجلاليب والعمم وحلقات الأذكار وراقصة فلاحة من اللاتي يشحذن في الطرقات ولا يمكن أن أصف خجلي وكنت أوشك أن أتبرأ من مصر فمن الذي سمح لشريط كهذا أن يخرج من مصر"، ليدشن نشر تلك الرسالة سلسلة من الرسائل القادمة من الخارج التي تستخدمها الصحف والمجلات لمهاجمة الأفلام الأجنبية التي تسيئ إلى سمعة مصر، ستجد نماذج منها في كتاب شديد الأهمية بعنوان (السينما والرقابة في مصر) للمؤرخ والباحث محمود علي، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2004. 

لكن تلك الحملات لم تسفر عن إيقاف عرض تلك الأفلام الأجنبية أو التحريض على صانعيها، بعكس ما حدث لفيلم الأخوين بدر وإبراهيم لاما (قبلة في الصحراء) الذي كان أول فيلم مصري توجه إليه علناً تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" بعد عرضه في أواخر يناير 1928، ليتم إيقاف عرضه بعد أسبوع واحد فقط، بعد أن تعرض لهجوم حاد من أقلام صحفية عديدة اتهمته بتعمد الإساءة إلى مصر وإظهار حكومتها بمظهر الضعف، وإظهار البدو أو "العربان المصريين" كما وصفتهم الصحافة في صورة اللصوص الذين يهاجمون السياح. كانت بعض الصحف قد وجهت للفيلم ملاحظات فنية من بينها عدم واقعية الملابس التي يرتديها العربان، وعجز بطل الفيلم بدر لاما عن التعبير بوجهه، وثقل حركة بطلة الفيلم، لكن ما وضع صُنّاع الفيلم في أزمة كان انتقادات الصحفيين الذين اتهموا الفيلم بتعمد التشنيع على مصر، لأنه "أظهر البوليس المصري بمظهر الإهمال والكسل"، وطبقاً لما ينقله المؤرخ السينمائي أحمد الحضري في الجزء الأول من كتابه (تاريخ السينما في مصر)، فإن مجلة (روز اليوسف) دعت إلى مصادرة الفيلم في عددها الصادر بتاريخ 7 فبراير 1928 في مقال حمل عنوان "إلى وزارة الداخلية: دعاية خطرة على مصر فيلم يجب أن يُصادر"، أما مجلة (الصباح) في عددها الصادر بتاريخ 21 مايو 1928 فقد قامت بتحريض نوّاب الشعب لكي يسألوا الحكومة عن سكوتها على الفرق المصرية للسينما التي أساءت إلى المصريين أكثر من الأجانب، قائلة: "كنا نلوم الأجانب ونتهمهم بأقذر التهم... فماذا نفعل مع هؤلاء الذين ينتمون إلى الوطن بدعوى أنهم من أبنائه البررة، ماذا جنت عليهم مصر حتى ينتقموا منها بهذه الوسيلة الحقيرة؟... إذاً لماذا يا أشباه الرجال والنساء تصورون المصريين بهذه الحقارة؟ وسوف نعمل لتأديبكم بكل ما نستطيع وإلى اللقاء".  

 

يكشف الكاتب الكبير صلاح عيسى في أحد أعداد زاويته (تواريخ) التي نشرها عام 1996 في صحيفة (الدستور) المصرية ـ والتي لم يتم جمعها في كتاب للأسف ـ أن عزيزة أمير منتجة وبطلة فيلم (ليلى) الذي كان قد عرض في نوفمبر من العام السابق 1927 وكان أول فيلم مصري، استغلت الحملة التي قامت بها الصحافة على فيلم الأخوين لاما، فقالت إنه "فيلم بطّال وليس شرقياً أو مصرياً، ولكنه أجنبي، لأن صناعه جميعاً من الأجانب"، ولم تكن عزيزة أمير تشير إلى أبطال الفيلم من الممثلين الأجانب، لأن الفيلم أيضاً اشترك في بطولته الشاب إبراهيم بك ذو الفقار نجل ذو الفقار باشا كبير أمناء الملك فؤاد، والذي كان يطلق عليه وقتها لقب (فالنتينو الشرق)، بل كانت توجه ضربة تحت الحزام إلى منافسيها الأخوين لاما فلسطيني الأصل والحاصلين على جنسية تشيلي. 

الغريب أن فيلم (ليلى) كان قد تعرض من قبل للاتهام من بعض الصحف بأنه أساء إلى مصر أكثر من الأجانب، مثله مثل فيلم (قبلة في الصحراء) وفيلم (سعاد الغجرية)، حيث "تمثل الروايات الثلاث المصريين في أقبح المظاهر"، لكنه لم يتعرض للإيقاف والمنع مثلما حدث لفيلم الأخوين لاما، الذين حاولا الدفاع عن نفسيهما قائلين: "لم نكن لنقصد من إخراج روايتنا التشنيع بمصر ولم يكن ليخطر في بالنا عند إخراج هذه الرواية إظهار أي نوع من الحياة التي يحياها سكان مصر، وإنما كان قصدنا أن نظهر في شريطنا حياة الصحاري، كما أننا لم نبين في أية ناحية في الصحراء وقعت حوادث شريطنا والشرق العربي من أقصاه إلى أدناه تكتنفه الصحراوات وبذا نبرهن للجمهور أن شريطنا لا يتناول حياة مصر وإن كان قد أخرج في مصر"، وهو ما يعلق عليه المؤرخ أحمد الحضري بأنه دفاع غير مقنع، لأن الأهرامات وأبو الهول يظهرون في الفيلم، لكن سعي الأخوين بدر وإبراهيم لاما للإفلات من مشانق النقد المحمومة جعلهم ينسون أو يتناسون هذه الحقيقة، ليحرصا على العمل بكل ما بوسعهما لإثبات براءتهما من تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر"، بالمسارعة إلى صنع فيلم جديد يحمل عنوان (فاجعة فوق الهرم)، حملت إعلاناته عبارة "الرواية الوحيدة التي تبين جمال مصر الحديثة وعظمتها"، لكن ذلك لم يحمهما من هجوم الأقلام الصحفية التي واصلت اتهام فيلمهما الجديد "بالاستهتار بعادات المصريين وتقاليدهم".      

كان ما جرى لفيلم (قبلة في الصحراء) وصناعه مؤثراً على الوسط السينمائي، لدرجة أن الفنانة فاطمة رشدي قررت إحراق فيلمها (تحت سماء مصر) خوفاً من أن ينالها الهجوم الذين نال الأخوين لاما، أو "خوفاً من تشويه سمعتها الفنية" طبقاً لما نشرته مجلة (الصباح). لكن الأخطر من ذلك أن ما جرى للأخوين لاما فتح شهية الخائفين على سمعة مصر وشرف المصريين ليشنوا مزيداً من الهجمات المنظمة على صناعة السينما الوليدة، لكنهم نقلوا هجماتهم هذه المرة من ساحات الصحافة إلى أروقة البرلمان، حيث تعرض وزير الداخلية لأول استجواب في مجلس النواب في يونيو 1928 حول "انتشار الصور الفاحشة على تباين أنواعها وما تنشره بعض المجلات من الصور المنافية للآداب وما يمثل من الروايات الخليعة على المسارح ودور الصور المتحركة"، وطبقاً لما ينقله محمود علي عن مضبطة مجلس النواب فإن وزير الداخلية رد على النواب بشكل عام حين تحدث عن توجيه الداخلية عنايتها إلى دقة مراقبتها لما يمثل على المسرح وفي دور السينما، و"عدم السماح بما يكون خليعا منافيا لحسن الأخلاق"، لكن وزارة الداخلية أعلنت في 17 ديسمبر 1928 عن تأليف لجنة رقابية تقوم بوضع نظام "يكفل منع ارتكاب الجرائم أو مس الأخلاق والآداب العامة أو الأديان السماوية ومنع التعاليم الخطرة كالشيوعية وغيرها"، لتنشر الصحف بعد ستة أيام نتائج أول اجتماع للجنة التي أكدت على ما سبق أن أعلنته الداخلية من مهام لها، وأضافت إليه مهمة جديدة هي "منع كل ما يؤدي إلى مشاكل سياسية واجتماعية". 

بناءً على رغبة الجماهير 

تعرضت وزارة الداخلية لسيل من غضب حراس الوطنية والفضيلة في الصحافة والبرلمان، ومن أبناء مصر الغاضبين في الخارج مثل الطلبة المصريين بجلاسجو الذين نشرت صحيفة (الأهرام) في 20 إبريل 1931 أنهم اجتمعوا لإعلان احتجاجهم على "صورة التخلف التي تبدو عليها مصر عندما تظهر على شاشة السينما"، ولذلك قررت الوزارة أن تتجاوب مع كل هذا الغضب، فقامت بإعلان لائحة تفصيلية للقواعد الرقابية المكتوبة لأول مرة في تاريخ مصر، نشرها الناقد السينمائي للأهرام زكريا الشربيني، ليفاجأ السينمائيون بأنها تضمنت أكثر من ثلاثين محظوراً من المحظورات المتعلقة بالأمور الدينية والسياسية والاجتماعية والجنسية وما له علاقة بالجرائم والقسوة، مؤكدة فيما يتعلق بالأمور السياسية على حظر "المواضيع أو المناظر التي من شأنها تحقير الشرق والشرقيين عموماً ـ المواضيع أو المناظر ذات الصبغة البلشفية أو ذات الدعاية ضد الملكية ـ المواضيع أو المناظر التي من شأنها الحث على الثورة أو عدم القناعة بالحياة"، أما في الأمور الاجتماعية فقد أشارت اللائحة إلى ثمانية محظورات من بينها الأجسام العارية والعناوين ذات الألفاظ البذيئة ومناظر الدعارة و"الحوادث أو المواضع التي من شأنها أن تحض أو تجلب عدم الاحترام أو الثقة برجال بعض الهيئات الذين لهم أهمية في نظام حياتنا العامة كرجال الدين والوزراء ورجال القانون والطب إلخ ـ المواضيع أو الحوادث التي تبث روح الكراهية والبغضاء بين الشرقيين والغربيين أو بين فريق من الناس وفريق آخر". 

ولأن هذه اللائحة التفصيلية وغير المسبوقة صدرت لإرضاء الغاضبين في البرلمان والصحافة والمواطنين المقيمين في الخارج، لم يكن غريباً أن يرحب بها جميع هؤلاء بكل ما أوتوا من قوة، بل ويستخدمونها للهجوم على الرقابة إن أفلت من قبضتها فيلم لا يراعي المحظورات الثلاثين ويقوم بالإساءة إلى سمعة مصر، مثلما حدث حين هاجمت صحيفة (كوكب الشرق) الوفدية في فبراير سنة 1933 فيلم (قصة حب في القاهرة) الذي أنتجته شركة أوفا الألمانية وعرضته في مصر بعنوان (موسم في القاهرة) لأنه "لم يظهر من مصر الحديثة سوى لابسي الجلاليب على أنهم شعب مصر المتمدين، والدراويش وهم يذكرون في إسفاف أمام أبي الهول"، ثم توجه اتهامها إلى قلم الأفلام بالرقابة وإلى وزارة الداخلية التي "لا تحرك ساكنا وكأن قلم المراقبة يتمتع برعوية أخرى غير رعوية الحكومة المصرية؟ ووزارة الخارجية لا تحرك ساكنا وكأن سمعة مصر في الخارج لا تهمها حيث تعرض الرواية في باريس وإعلاناتها كلها إساءة لمصر والمصريين".  

لم يكن ذلك الهجوم الوحيد الذي تشنه الصحف ضد أجهزة الرقابة، فقد تكرر الأمر بعدها بعام وبالتحديد في إبريل 1934 حين نشرت مجلة (الباشكاتب) موضوعاً يلخص الكثير من الملاحظات عن تصوير الأفلام الأجنبية في مصر تحت عناوين غاضبة تقول: "فضائح منكرة هائلة تجري في وسط القاهرة وشوارعها ـ قلم الرقابة يغط في نوم عميق ويغمض عينيه ويساعد الإنجليز على تشويه سمعة مصر"، أما في متن الموضوع فقد تضمن الهجوم عبارات من نوعية "إن قلم الرقابة الذي يزعم أنه يحافظ على سمعة مصر يغط في نومه فلا يرى ولا يسمع ولا يشعر ولا يدرك شيئاً مما يجري في البلد ومما يراه الناس ويشمئزون مما فيه من الاستهتار بالحق والعبث بالكرامة والإهانة المرة القاسية". وبالتالي لم يكن غريباً في ظل ذلك الهجوم الذي شاركت فيه صحف عدة، أن تقوم وزارة الداخلية باتخاذ قرار في عام 1934 بمصادرة فيلم لأشهر وأكبر نجم مصري وقتها، وهو فيلم  (ياقوت) الذي لعب بطولته نجيب الريحاني وأنتجته شركة جومون الفرنسية، لأن وزارة الداخلية ـ طبقاً لما نشرته مجلة (العروسة) في 14 مارس 1934 ـ اعتبرت أن الفيلم "به مواقف غير مشرفة للمصري ودعاية سيئة ضد مصر، ورأت منع الفيلم من الظهور"، ليختفي الفيلم سنين طويلة حتى تم عرضه في نهاية القرن العشرين في الدورة السادسة من دورات المهرجان القومي للسينما المصرية، ليعلق عليه الناقد هشام لاشين بعد عرضه عام 2000 قائلاً في مقال له بصحيفة (الأحرار) إن الفيلم " يقوم بتجميل التحرر الغربي ويصور أبهة وجمال القصور والمباني في مواجهة ديكور الحارة المصرية الفقيرة الذي يمتلئ بالمتسولين والمتواكلين الذين يجلسون على المقاهي طول النهار لسماع الأغاني والدعاء في لحظة الأذان ومصمصمة الشفايف والفيلم يزدهر بالحركة والحماس والحيوية عندما ينتقل للمجتمع الغربي في حين لا نلمح سوى السكون والفقر والتسول في مصر"، وهو كلام لم يختلف كثيراً في مضمونه وشكله عما قاله الغاضبون على سمعة مصر في الثلاثينات.  

رقيب مصري "أمّ الأجنبي"! 

كان كثير من النقد الموجه لأداء المسئولين عن الرقابة في فترة العشرينيات والثلاثينيات يحرص على الإشارة إلى أن كثيراً من هؤلاء المسئولين أجانب وليسوا مصريين، مما "يفقدهم الغيرة اللازمة على مصر" بنص تعبير إحدى المجلات، ويجعلهم غير مدركين للحيل والألاعيب التي قد يقوم بها بعض صناع الأفلام، ولذلك دأب الناصحون الشرفاء على التوصية بتقوية جهاز الرقابة بـ "العناصر الوطنية" التي تستطيع ممارسة "رقابة الأخلاق" والدفاع عن الوطن على أكمل وجه، والملفت أن هؤلاء الناصحين كان من بينهم الكثير من أهل الفن، مثل المخرج الرائد محمد كريم الذي كتب لأكثر من مرة مهاجماً الرقباء الأجانب، ومنبهاً إلى ضرورة أن "يكون موظفي قلم الرقابة من المصريين لكي نرى أفلاماً توافق عاداتنا وطباعنا"، مؤيداً ما وصفه بـ "الصرخة" التي أطلقها السيد حسين جمعة أحد رواد النقد السينمائي في مصر، ومضيفاً إليها طلبه من الحكومة أن تقوم بمراقبة المخرجين الأجانب الذين يحضرون للتصوير في مصر "فيظهرون المصريين في أشنع صورة"، ولذلك يستلزم الأمر "تكليف شخص مصري نثق في كفاءته لكي يلازم كل مخرج أجنبي". 

وحين استجابت السلطات لنداءات المثقفين الغيورين على مصر، وقامت بتدعيم جهاز الرقابة بعدد من الكتاب والمثقفين "الوطنيين"، قام هؤلاء على الفور بسد جميع الثغرات التي كان يتركها الرقباء الأجانب، ممارسين "رقابة الأخلاق" التي دعا إليها يونس القاضي على أكمل وجه، خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر ما كتبه الأديب الكبير توفيق الحكيم سنة 1934 في مذكرة قدمها إلى جهاز الرقابة عن أوضاع دور السينما، قال فيها إن مشاهد التقبيل تغري الشباب المصري وتوقظ الشهوات الجنسية السفلى وتلقي في روع أهل الجيل فكرة خاطئة عن معنى الحرية، مستشهداً بقيام "بعض الدول الفتية بمحاربة اشرطة السينما التجارية الخليعة وما فيها من كشف للعورات وتقبيل مستهتر مستطيل"، في إشارة إلى المعايير التي وضعتها ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية لتعزيز الرقابة الأخلاقية على السينما، وقدّم توفيق الحكيم في مذكرته مرافعة اجتماعية ضد مضار القبلات السينمائية على الأمة المصرية جاء فيها ما نصه: "إن مصر التي جرى قضاءها على اعتبار التقبيل المنطوي على شهوة دنيئة في طريق عام فعلا علنيا فاضحا يستوجب عقاب فاعله لأنه يؤذي المارة في حيائهم ويسيئ إليهم في كرامتهم وعفتهم لخليقة أن تحمي أبناءها من شر هذه المناظر التي تعرض في دور السينما وأكثرها فعل فاضح مفسد الفاسق، ولما كانت التبعة في تدهور الأخلاق الآن في مصر تقع في أكثر الأحوال على السينما التجارية بما تلقيه للناس من غذاء ضار، ولما كانت نتائج هذه خطيرة على الأمة المصرية وعلى شخصيتها التي ينبغي أن يحرص على حفظها من عوامل الإنحلال". 

وإذا كان هذا ما يكتبه كاتب بوعي وتفتح توفيق الحكيم الذي درس في باريس واطلع على أحدث فنونها وآدابها، لم يكن من الغريب أن يتبارى من هم أقل منه وعياً وتفتحاً في تحريض الرقابة على الأفلام وصناعها لأن الأخطاء التي يرتكبونها ليست أخطاء عادية يمكن التسامح معها، بل هي أخطاء تسيئ إلى سمعة مصر وكرامة المصريين، فتجد الناقد محمد كامل مصطفى مثلاً يكتب في صحيفة (كوكب الشرق) الوفدية في 7 يناير 1936 مقالاً عن فيلم (معروف البدوي) للأخوين لاما، لا يكتفي فيه بوصف الفيلم بأنه "فضيحة الفضائح ومعرّة الأفلام المصرية بغير منازع"، بل يصعد هجومه قائلاً: "وأعجب ما أعجب له هو كيف صرح قلم مراقبة الأفلام بعرضه وهو على ما هو عليه من شناعة في الدعاية السيئة لمصر ولناس مصر وأخلاقهم"، ولذلك لم يكن غريباً أن يخصص نفس الناقد كلمته في مؤتمر السينما الأول الذي عقد في عام 1936 للحديث عن "الشركات الأجنبية التي تسيئ إلى مصر في أفلامها"، مقترحاً أن تشترك بعض الشخصيات البارزة في مراقبة الأفلام، ولا أن تنفعل الفنانة عزيزة أمير وهي تلقي كلمتها في ختام المؤتمر فتسقط مغشياً عليها، وهي تتحدث عن حاجة فن السينما إلى "المال الكثير والاستعداد الكبير والغيرة على الكرامة الوطنية"، ولا أن يتم تخصيص الجلسة الختامية للمؤتمر لكي يتحدث فيها الكاتب حمدي أمين أبو عمر عن "السينما والأخلاق".  

...

نكمل غداً بإذن الله 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.