صفحات من تاريخ تهمة الإساءة إلى سمعة مصر (الأخيرة)

صفحات من تاريخ تهمة الإساءة إلى سمعة مصر (الأخيرة)

11 ابريل 2019
+ الخط -
الصور المسيئة لسمعة مصر
سألت الكاتب والمؤرخ أستاذنا صلاح عيسى الذي وجد نفسه ذات يوم من أيام السبعينات ماثلاً أمام جهات التحقيق بتهمة الإساءة إلى سمعة مصر عن شعوره وهو يواجه ذلك الاتهام الذي كان جديداً في قائمة الاتهامات التي سبق وأن واجهها من قبل، فقال لي: "الحقيقة لم أكن وحدي حين تم توجيه هذا التهمة إليّ، فقد تم تقديمي أنا وأحمد فؤاد نجم ومحمد حسنين هيكل وفريدة النقاش وأحمد حمروش ومحمد سيد أحمد إلى المدعي الاشتراكي العام بتهمة كتابة مقالات في الخارج تسيئ إلى سمعة مصر. للأسف تعبير الإساءة إلى سمعة مصر فيما يخص الصحافة، برز في بداية ثورة يوليو، عندما تم إقحام مادة على قانون العقوبات الخاصة بالصحافة، تعاقب هذه المادة على نشر الصور التي تسيئ إلى سمعة مصر بإبراز مظاهر غير لائقة حتى لو كانت الصور صحيحة، وبالمناسبة هذه المادة لا زالت موجودة، بعد ذلك بسنوات وبالتحديد في عام 1977 ظهر كلام حول تعديلات في قانون الرقابة على المصنفات الفنية تخص الأشياء التي يفترض أنها تشوه سمعة مصر، وقد أخذت هذه التهمة شكلها السياسي بعد معاهدة كامب ديفيد، عندما جرى التوحيد من جديد بين الوطن ونظام الحكم، بعد أن لم تدم فترة ما أطلق عليه الإصلاح السياسي. وقتها كان هناك ما يعرف ببدعة التحقيق السياسي، والتي تم التحقيق معي ومع الأساتذة الآخرين فيها، ولما وجهت لي التهمة شعرت أنها تهمة مهينة رغم أنه لم يكن عليها عقوبة قانونية، لكني شعرت أنها تهمة قريبة إلى الخيانة الوطنية، وأنا فاكر إنه من سوء حظهم اختاروا لي مقالاً عنوان (عروبة مصرعلى شفا جرف من نار)، وكان المقال يحمل دفاعاً شديداً عن مصر، وقمت بتصوير 300 نسخة من المقال وبعثته لعدد كبير من الشخصيات العامة، وقد نشر هيكل التحقيق الذي دار معه حول نفس التهمة في كتاب كامل" ـ يقصد كتاب (وقائع تحقيق سياسي أمام المدعي الاشتراكي).

أضاف صلاح عيسى قائلاً: "هذه التهمة خفتت جداً منذ منتصف الثمانينات بعد أن كانت توجه لكل من يعارض، وربما أشهر القضايا التي أثيرت فيها مؤخراً كانت القضية التي تم رفعها ضد محطة السي إن إن الأمريكية بعد عرضها للفيلم الذي يصور وقائع عملية الختان، لكن الحقيقة اتهام فيلم (أحلام هند وكاميليا) بهذه التهمة مضحكة جداً، لأن الفيلم يعكس نوعاً من التضامن بين سيدتين في قاع المجتمع تحملان قيماً أخلاقية جميلة، ولو اعتبرنا أن كل شيء يتناوله الأدب والفن والصحافة يعتبر تشويهاً لمصر سيتحول الأدب والفن إلى مجرد دعاية، دعنا نتذكر أن أكبر معركة حول سمعة مصر حدثت بسبب فيلم (القاهرة منورة بأهلها) ليوسف شاهين، في حين أن الفيلم كان يشكل نبوءة مبكرة حول العلاقة بين العشوائيات والتطرف، ببصيرة نفاذة أقرب إلى بصيرة زرقاء اليمامة، وبعد عشر سنوات من الهجوم على الفيلم، الحكومة الآن وصحافتها كلها تتكلم عن علاقة العشوائيات بالتطرف".

سألت الأستاذ صلاح عيسى: "كيف ترى الحجة الشائعة التي تقول إن الأجانب عندما يشاهدون أفلامنا الواقعية ستتكون لديهم انطباعات منفرة بالفعل عن مصر"، فرد قائلاً: غير صحيح، فأجهزة الإعلام الأجنبية دائماً تقدم برامج تعكس تقاليد الشعوب وتفاصيل حياتها وكل ما يخصها أنثروبولوجياً، وهي برامج مليئة بأشياء وتفاصيل غريبة جداً، ولا تحدث أبداً أثراً سلبياً لدى المشاهدين العقلاء، هل امتنع السواح عن زيارة الهند مثلاً بعد كل ما رأوه من برامج عنها، ثم إن هذه الشعوب نفسها لدى بعضها أحياء وشوارع فيها مشاكل وأزمات، بالتالي الحديث عن خلق الانطباعات المنفرة لدى الغرب بسبب الأفلام، يعكس عدم فهم الطريقة التي يفكر بها الإنسان الغربي، ويعكس الرؤية الفاشية التي تريد أن تدمج الوطن في تيار بعينه"، وحين سألته عن تعليقه على استخدام ظاهرة الشكاوى التي ترد من بعض المصريين في الخارج والتي تتهم الأفلام والمسلسلات المصرية بالإساءة إلى سمعة مصر وتصوير نساءها ورجالها بصورة أخلاقية سيئة، قال صلاح عيسى: "هذه مبالغات، ولو صحت هذه الشكاوى لكان هناك وراءها احتكاكات في مجال العمل بين الجاليات العربية، وفي النهاية هي تعبير عن رؤى ساذجة، مثل الفكرة المتخلفة الموجودة عندنا بأن الغرب كله فساد وتحلل، والحل هنا ليس في يد السلطة، بل في يد المتلقي نفسه، فنحن لسنا مسئولين عن الرؤى المتزمتة التي لا توجد في الخارج فقط، بل توجد داخل مصر، حيث سنجد أن بعض سكان البيئات المتزمتة، يعتقدون أن نساء القاهرة والإسكندرية متحللات، وهذا بالطبع كلام فارغ لا يمكن أن يتم التعامل معه بجدية".

وبعد أن عرضت ما قاله الأستاذ صلاح عيسى، ختمت تحقيقي الصحفي الذي نشرته مجلة (صباح الخير) في صيف 1998 قائلاً: "المشكلة أن القضية ليست مجرد اتهام محمد خان أو أسامة أنور عكاشة أو محمد حسنين هيكل وحدهم بالإساءة إلى سمعة مصر، بل هي قضية المشانق الجاهزة التي ننصبها لمعارضينا دائماً، بحيث نصفي حساباتنا معهم في نفس الوقت الذي نبدو فيه وطنيين جداً ومحبين للبلد جداً، وإذا لم يتغير هذا المنطق في التفكير فلن يكون محمد خان آخر المتهمين، وربما تنضم أنت ـ أياً كنت ـ إلى القائمة قريباً، طالما وجدت أن من يختلف معك في الرأي من حقه أن يقرر خراب بيتك باتهامك بالإساءة لسمعة مصر".

الرغبة والغضب
بعد شهور قليلة مما نشرته، وبالتحديد في مايو 1999 وجدت تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" هدفاً جديداً لها، هو الممثل أشرف عبد الباقي الذي لعب بطولة فيلم دانماركي قصير بعنوان (إذا منحتك تواضعي فلا تسلبني كبريائي) مع الممثلة السويدية جونيليا روز، وبعد عرض الفيلم في التلفزيون السويدي نشرت صحيفة (الجمهورية) في مايو 1999 أن سفير مصر في السويد أرسل احتجاجا رسميا إلى تلفزيون السويد الذي عرض الفيلم، كما رفع تقريرا لوزارةالخارجية المصرية قال فيه إن الفيلم يسيئ إلى سمعة مصر في الخارج "حيث تدور أحداثه في واحات مصر ونرى امرأة سويدية تغوي شابا مصريا وصراعا حول الرغبة وحرارة الطبيعة"، وهوما علق عليه الناقد السينمائي علي أبو شادي الذي أصبح يشغل منذ سنوات منصب رئيس الرقابة على المصنفات الفنية بقوله إن الفيلم "اختير للعرض في برنامج (نظرة خاصة) في مهرجان كان، وكتب عنه العديد من مقالات المدح واحتجاج السفير لم يكن في محله لأنه خلط بين الأفكار التي تتناولها مخرجته وهي بالتأكيد مسئولة عنها وبين تصويره في مصر التي رأى آخرون أنه لا إساءة لها"، موضحاً أن كثيراً من الدول العربية وحتى اسرائيل "تقوم بحملات دعاية واسعة تدعو للتصوير فيها حيث تحقق أرباحا طائلة تصل إلى ملايين الدولارات كل عام، وهو دخل جيد لمصر لا نريد أن نحرم البلد منه ما دام تحت رقابتنا وإشرافنا، كما أن جهاز الرقابة لا يتوانى للحظة عن حملات التفتيش المستمرة لضمان خلو الأفلام من أية إساءة".

من جانبه قال أشرف عبد الباقي لمجلة (المصور) في اتصال هاتفي أجري معه أثناء وجوده في لندن، أن مخرجة الفيلم كارين ويسترلوند هولندية وليست دانماركية، وأن اسمه (الرغبة والغضب)، وأنه لا يعرف شيئاً عن الاسم الذي ذكره السفير المصري في السويد، وأن الفيلم "تعبيري تجريبي يتناول العلاقات بين البشر بغض النظر عن اللون واللغة"، ويقدم حواراً بين رجل أسمر وامرأة بيضاء، يدور في منطقة الواحات الصحراوية، لكنه لا يقدمها بوصفها منطقة في مصر، بل يقدمها بوصفها مكاناً من العالم، "وليس بكادر التصوير لا مسلة فرعونية ولا أية آثار، ولم ترد كلمة واحدة عن مصر طيلة الفيلم وسيطر على الفيلم أسلوب التعبير بدون لغة بين إحساسين هما الرغبة من جانب المرأة والغضب من جانبي فكيف أسأت لمصر إذن؟، وحين سأله صلاح البيلي محرر المجلة "هل بالفيلم مسحة عري أو جنس؟"، أجابه أشرف مستنكراً ما قاله سفير مصر في السويد: " إطلاقاً فأنا أرتدي القميص والبنطلون طوال الفيلم وقميص مقفول الزراير، وجونيليا روز الممثلة السويدية ترتدي فستاناً، لا عري ولا إثارة ولا آثار بل في صحراء المطلق ليس بها رجل جمل خلفنا رمال لم تطأها قدم بشر وبيننا رغبة لم تصل لممارسة وغضب لم يصل للضرب... كل ما هنالك تبادل إحساسين هما الرغبة والغضب، فهي تحاول أن تقترب مني وأحاول أنا أن أبتعد، تحاول هي أن تقبلني وأنا أمتنع، وفي لحظة يتحول المشهد إلى صدام وغضب، وأنا لم أحصل على أجر كبير في الفيلم بل حصلت على أجر عشرة آلاف جنيه فقط فهل هذا بالمبلغ الذي أسيء لمصر بسببه، وكنوز الدنيا لا تغريني بالإساءة لبلدي"، ثم أضاف قائلاً: "لقد صارت كلمة الإساءة لمصر سهلة ومبتذلة من كثرة تداولها لدرجة أن المصريين في الشارع هنا في لندن يسألونني إذا ما كنت هنا في لندن من أجل الإساءة لسمعة مصر، مع أنني في زيارة لتصوير برنامج مع المصريين الناجحين في بلاد الغربة، نهدي كل ناجح في نهاية الحلقة تمثال نفرتيتي".

مهزلة (الرهوان)
ولأن التضامن مع المتهمين بالإساءة إلى سمعة مصر، كان ولا يزال معتمداً على مدى شهرتهم ونفوذهم في الأوساط الثقافية والفنية، كان من الطبيعي أن لا تثور ضجة عنيفة أو تندلع حملة احتجاجات بعد المرة الوحيدة التي تم فيها إعدام نسخ فيلم سينمائي بعد أن أثبت القضاء اتهامه بالإساءة إلى سمعة مصر، دون أن يجد الفيلم المجهول من يتضامن معه، ودون أن يتم التعامل مع صناعه بوصفهم ضحايا لاضطهاد السلطة. أتحدث عن فيلم (الرهوان) الذي لم يكن ليعرف أحد بما جرى له، إلا حين نشرت بعض الصحف خبراً صغيراً عن تأييد محكمة القضاء الإداري في عام 2000 لقرار سابق أصدرته الرقابة على المصنفات الفنية في عام 1993 بمنع عرض الفيلم ومصادرة نسخه، بعد أن اتهمته بالإساءة إلى سمعة مصر، فاضطر منتجه سيد إبراهيم عزقلاني صاحب شركة (كوثر فيلم) إلى رفع دعوى قضائية أمام محكمة القاهرة للأمور المستعجلة ضد وزير الثقافة ومدير الرقابة، مطالباً بالتصريح له بعرض الفيلم الذي سبق وأن وافقت الرقابة على قصته، ولولا ذلك لما اكتمل تصوير الفيلم الذي قال المنتج إنه كلفه ربع مليون جنيه، وأن منع عرض الفيلم يهدده بالإفلاس، لكن محكمة الأمور المستعجلة لم تقتنع باستعجال المنتج، فأحالت الدعوى إلى محكمة القضاء الإداري، التي ظلت القضية منظورة أمامها حتى عام 2000، لتنتهي برفض دعوى المنتج ومنع تداول وعرض ونسخ الفيلم، ليختفي منذ ذلك الحين، فلا تجد له أثراً حتى على شبكة الإنترنت، لدرجة أنني لم أعرف حتى الآن اسم مخرج ذلك الفيلم الذي اختفى ذكره في ظروف غامضة.

لا يوجد الكثير مما يمكن معرفته حول الفيلم، أكثر مما سنجده في نص حكم الدائرة الثامنة بمحكمة القضاء الإداري المؤيد لقرار منع عرض الفيلم، الذي يقول إن الفيلم الذي قام ببطولته محمود الجندي وعزة بلبع، يحكي عن أهل قرية الرهوان الذين يعيشون على النفاق والرياء والخيانة والغش في التجارة باستيراد أغذية ملوثة بالإشعاع النووي أصابت رجال القرية بالعجز الجنسي وأفقدتهم رجولتهم، وحين جاء إلى القاهرة المدرس بهجت المنقول من الإسكندرية إلى مدرسة القرية، واتضح أنه غير مصاب بالعجز الجنسي، التفت حوله النساء لإشباع رغباتهن الجنسية التي لم يشبعها رجالهم داخل غرف النوم.

الغريب أن تقرير رقابة التلفزيون الذي نشره الصحفي عاطف فاروق في صحيفة (الأحرار) بتاريخ 3 أغسطس 2000 ضمن تغطيته لحكم المنع، لم يجد في الفيلم ما يستحق المنع من العرض على التلفزيون، برغم أن رقابة التلفزيون متشددة أكثر من رقابة السينما، حتى أن تقرير رئيسة الإدارة المركزية للرقابة ثريا نصار قال إن مشاهد الفيلم جاءت طبيعية تتماشى مع الأخلاقيات والآداب العامة خاصة التي توضح العجز الجنسي في غرف النوم، كما أكدت على وجود تطابق بين السيناريو الذي أجازته الرقابة وبين ما تم تصويره في الفيلم. ومع ذلك فإن المحكمة قالت في حكمها أنه "قد استبان لها من مشاهدة فيلم الرهوان أنه قد تضمن العديد من المشاهد التي تسيئ إلى أخلاق القرية المصرية بل وإلى المجتمع المصري كله عامة وما يتحلى به من قيم وفضائل، إذ قام على فكرة غير مستساغة مؤداها فقدان جميع أبناء قرية الرهوان الرجولة"، ولم يكتف الحكم بالاستناد إلى فكرة مطاطة مثل فكرة "الاستساغة" في قرار منع فيلم من العرض بعد تصويره، بل قام باتهام الفيلم بأنه "رصد العلاقة بين الرجال والمرأة على أساس الجنس وحده دون النظر إلى اعتبارات السكن والمودة والرحمة التي أرست دعائمها الشريعة الإسلامية، وأبرز بعض العلاقات الجنسية غير المشروعة".

وفي موضع آخر من حيثيات الحكم قالت المحكمة إن "الفيلم وضع فكرة متدنية للتخلص من بطل الفيلم المدعو بهجت الذي وضع رؤوس رجال القرية في الأرض على حد ما جاء بالحوار وذلك بحرمانه من رجولته التي يتميز بها عليهم على يد حلاق القرية وهو ما يسيئ إلى الشعب المصري في الداخل والخارج"، ليؤكد الحكم على منافاة فكرة الفيلم ووقائعه وأحداثه "للقيم الدينية والاجتماعية والخلقية التي استقرت في وجدان الشعب المصري خاصة أهل القرية"، ويبرر قرار منع عرض الفيلم بأن "القانون يشترط ألا يتضمن المصنف الفني ما يمس القيم الدينية الروحية والخلقية للمجتمع أو الآداب العامة أو النظام العام"، ليمر قرار منع عرض الفيلم دون ضجة، حتى أن خبر الحكم بمنع عرضه لم يلق اهتماماً من أغلب الصحف، ولم ينشر إلا على استحياء في الركن المخصص للحوادث والقضايا.

سمعة مراهقات مصر
كاد فيلم (مذكرات مراهقة) للمخرجة إيناس الدغيدي أن يلقى نفس مصير (الرهوان) قبل بدء عرضه الجماهيري في فبراير عام 2002، حين استهدفته دعوى قضائية اتهمته بالإساءة إلى سمعة بنات مصر وبالوقوف ضد الدين وطالبت بمنع عرضه في دور السينما، وأعلن صناع الفيلم لمجلة (روز اليوسف) أنهم تلقوا طلباً من جهة أمنية بإقامة عرض خاص للفيلم لمشاهدته، وحين تحدد موعد لعرض الفيلم بسينما مترو لتلك الجهة الأمنية التي لم تسمها المجلة، فوجئ صناع الفيلم بأنه لم يحضر أحد منها، مما أثار حيرتهم، "فلم يعرفوا ما إذا كان عدم حضورهم يعني أنهم تأكدوا أنه ليس في الفيلم شيء يستحق الضجة المثارة حوله، أم أن هناك إجراءات أخرى اتخذت ضد الفيلم ولا أحد يعلم عنها شيئاً".

كان الهجوم على الفيلم قد بدأ كالعادة على أيدي عدد من الصحفيين والنقاد الذين حضروا عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي قبلها بأشهر، لدرجة أن مخرجته انسحبت من الندوة بعد أن اتهمها بعض الحاضرين بالإساءة لبنات مصر وتشويه سمعة المجتمع المصري، وهو ما تجاوبت معه الصحف والبرامج بتغطيات متكررة، نتج عنها قيام بعض المواطنات برفع جنحة سب وقذف على إيناس الدغيدي لأنها "صورت سيدات مصر وبناتها على أنهن عاهرات وعاريات، ولأنها قالت في تصريح منشور لها في إحدى المجلات أن غالبية بنات مصر وقعن في المحظور، فضربت بشرف وسمعة بنات مصر عرض الحائط، وهو ما يوجب توقيع أقصى العقوبة عليها".

ولم تكن تلك هي الأزمة الوحيدة التي يواجهها الفيلم، طبقاً لما نشره طارق مرسي محرر مجلة (روز اليوسف)، فقد كانت إيناس الدغيدي تخوض معركة مع جهاز الرقابة الذي أوصى بحذف 9 مشاهد كاملة من الفيلم وصفها الرقباء بأنها "تخدش الحياء وتخرج عن الآداب العامة"، وبعد جلسات حوار شارك فيها مؤلف الفيلم عبد الحي أديب ومخرجته مع الرقباء، تم الاتفاق على حذف 3 مشاهد إلى جانب عدة ألفاظ وجمل حوارية، وحين سأل طارق مرسي مخرجة الفيلم عما وجه إليها من اتهامات في ساحة القضاء عن إساءتها إلى سمعة بنات مصر، قالت المخرجة مدافعة عن فيلمها "كل ما أريد توصيله في الفيلم أن مجتمعنا انفتح على المجتمعات الغربية بشكل مزعج"، نافية أن تكون قد قامت بالإساءة للدين، بل إنها على العكس "تعمدت أن أقدم حلولا شرعية للمشكلة، وأوضح أن الدين الإسلامي قائم على الحب والتسامح، وعلى ألا نتمادى في الخطأ فأين إذن هجومي على الدين... وأنا أؤكد أن من حق الفتيات أن يحلمن، لكن في حدود المجتمع لأنه لن يسامح في حالة الخطأ"، وهي وجهة النظر التي اقتنع بها القضاء فلم يمض قدماً في إجراءات تجريم الفيلم ومخرجته.

من اللمبي إلى يعقوبيان
لم تمض أشهر على خفوت الضجة المثارة حول فيلم (مذكرات مراهقة)، حتى عادت تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" تتردد عالية خفاقة من جديد، وكان المتهم هذه المرة هو فيلم (اللمبي) للمخرج وائل إحسان من بطولة محمد سعد وإنتاج الأخوين محمد وأحمد السبكي، بعد أن امتنع الرقباء في جهاز الرقابة على المصنفات الفنية عن إجازة تصدير الفيلم إلى خارج مصر، فيما وصفه الناقد مجدي الطيب في مقال له بمجلة (روز اليوسف) أنه يشبه حركة عصيان جماعي من الرقباء اتخذوها، بحجة أن تصدير الفيلم للعرض بالخارج يمكن أن يجر عليهم مشاكل كثيرة في حالة ما إذا تقدم أي شخص ببلاغ يزعم فيه أن اللمبي يسيء لسمعة مصر في الخارج، وقد كان ذلك التصرف نتيجة طبيعية لكل ما جرى في السنوات السابقة من اتهامات وجهت إلى جهاز الرقابة لتراخيه في منع الأفلام الخارجة عن الإجماع الفني الوطني، الذي يعرف مصلحة مصر ومصلحة شعبها، وما ينبغي أن يشاهدوه، وما يجب ألا يشاهدوه.

في تعليقه على ما قام به الرقباء، قال رئيس جهاز الرقابة الناقد والمخرج الدكتور مدكور ثابت إن موقف الرقباء جاء بعد الحملة الصحفية الشرسة التي شنها أغلب النقاد والصحفيين على الفيلم منذ بدأ عرضه في مصر، حيث تلقى الفيلم اتهامات بالسوقية والفجاجة والابتذال والرداءة الفنية، وهو ما جعل الرقباء يخشون من اتهامهم بالاشتراك في الإساءة لسمعة مصر، إن هم أجازوا تصدير الفيلم للخارج، ولذلك قرر مدكور ثابت تشكيل لجنة تضم كتاباً ومثقفين إلى جانب رؤساء النقابات الفنية الثلاثة وبعض الفنانين الكبار، لمشاهدة الفيلم وتحديد مصيره من العرض خارج مصر، وهو ما اعتبره الناقد مجدي الطيب تهرباً من المسئولية، مؤكداً بعد حوار له مع رئيس الرقابة أن الرجل "ينتابه إحساس يكاد يصل إلى حد اليقين أن إقالته من منصبه ستكون بسبب فيلم اللمبي، وهو الشعور الذي يزيد من انزعاجه وتوتره ليس حباً في المنصب كما يقول وإنما لإحساسه أن جهده راح هباءً، فهو يتمنى لو أقيل بسبب الدفاع عن مبدأ فكري أو لإجازته فيلماً لم ترض عنه السلطة، ولكن الإقالة بسبب اللمبي هاجس يولد لديه شعوراً بالمرارة وخيبة الأمل تزداد حدته نتيجة للإقبال الجماهيري اليومي على اللمبي".

ومع أن مجدي الطيب هاجم قرار الرقابة ووصفه بالفاشية التي "تجعل بعض المثقفين يتصورون أنهم الأخيار والصفوة الذين يملكون حق توجيه أفكار الآخرين بالشكل الذي يرضيهم أو يتوافق مع أهوائهم وثقافاتهم"، إلا أنه أضاف في العبارة التالية قائلاً: "لا يختلف أحد على هبوط المستوى الفني لفيلم اللمبي ونزوعه إلى السطحية والعشوائية وتكريسه لذوق متخلف لا ينبغي أن يسود، لكن من القائل بأن هذه العناصر تمثل ركناً من أركان جريمة يحلو للبعض تسميتها "الإساءة لسمعة مصر"؟ ومن ينكر أن اللمبي بتقديمه لهذه العشوائية والذوق المتخلف إنما يعبر عن خلل يجتاح المجتمع بأكمله وينبغي علينا المبادرة بإصلاحه وتداركه قبل المطالبة بمنع اللمبي أو تحميله مسئولية كل ما يحدث الآن"، ثم ختم كلامه قائلاً إن "الإسراع بإشهار تهمة "الإساءة لسمعة مصر" في وجه اللمبي سلاح يمكن أن يطول الكثيرين غيره ممن يملكون القدرة على طرح القضايا الفكرية الجادة أو دعاة التجديد والتمرد الفني، ففي أول لحظة اختلاف ستلحق التهمة بالجميع دون استثناء، ووقتها ستقع المصادرة ويتم المنع دون أن يملك أحد الجرأة للدفاع عن فكر أو مبدأ".

كنت في ذلك الوقت على علاقة قوية بالدكتور مدكور ثابت من خلال ترددي على جهاز الرقابة على المصنفات الفنية للحوار مع الرقباء حول الملاحظات الرقابية التي أبدوها على أكثر من سيناريو كتبته، وقد قال لي الرجل إنه لم يجد بداً من اللجوء إلى تلك الخطوة التي قرر استغلالها فيما بعد بشكل أوسع، حين قرر العودة إلى تراث الرقابة، وتشكيل ما يمكن تسميته "لجنة حكماء رقابية"، لتساعده على الإفلات من هجمات الصحافة وبرامج التلفزيون وأعضاء مجلس الشعب على الأفلام التي كانت الرقابة تجيزها لأنها لا تخالف قانون الرقابة بشكل صريح، وقد نجحت اللجنة فعلاً في تمرير قرار تصدير فيلم اللمبي إلى الخارج، منعاً لعودة الحالة التي أعقبت أزمة فيلم (المذنبون)، ليخف استخدام تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" في حق اللمبي، بعد أن أجازته لجنة الحكماء الرقابية، وتعلو في المقابل تهمة "الإساءة إلى فن أم كلثوم"، بسبب غناء محمد سعد لأغنية (حب إيه)، بطريقة كانت الأفراح الشعبية قد سبقته إليها قبل سنين طويلة، لكن ذلك الاتهام لم يصل على أية حال إلى داخل قبة البرلمان، كما جرى بعد عام حين وجهت تهمة "الإساءة إلى اللغة العربية" إلى فيلم (صايع بحر) من إخراج علي رجب وتأليفي، حيث اعترضت لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشعب في تقرير لها على اسمه المسيئ إلى سمعة شباب مصر، كما اتهم بعض أعضائها أغنيته (يا علي) التي غناها المطرب ريكو بالسخرية من اللغة العربية والحط من شأنها، وهو ما انتقده العديد من المثقفين في تحقيق صحفي نشرته مجلة (روز اليوسف)، لتخفت تلك الضجة بأسرع مما حدث لفيلم (اللمبي)، ولتغيب تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" عن ساحة البرلمان، مقتصرة فقط على الندوات والمقالات والبرامج، كما حدث مثلاً في عام 2004 حين بدأ عرض فيلم (خالتي فرنسا) من إخراج علي رجب وتأليفي، وحين قدمت المخرجة اللبنانية جوسلين صعب فيلمها (دنيا) الذي عرضه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2005 خارج مسابقته الرسمية، متطرقة فيه إلى جريمة ختان الإناث، لكن حملة التشهير بالفيلمين التي قادها بعض حراس سمعة مصر في الصحف والبرامج والندوات، لم تلق تجاوباً رسمياً برغم كل ما تم بذله من مجهودات في تصوير الإساءة التي لحقت بمصر والمصريين.

في عام 2006 عادت تهمة الإساءة إلى سمعة مصر لتنبعث ثانية من داخل مجلس الشعب، مستهدفة هذه المرة فيلم (عمارة يعقوبيان) المأخوذ عن رواية الدكتور علاء الأسواني والذي أخرجه مروان حامد عن سيناريو للكاتب الكبير وحيد حامد، حيث قام عدد من أعضاء الحزب الوطني في مجلس الشعب بتقديم طلبات إحاطة تطالب بمنع عرضه، بحجة أنه يسيئ إلى سمعة مصر، لأنه كما قال النواب "يختزل رجال مصر في مجموعة من المنتفعين والأفاقين والشاذين جنسيا، وأن العمارة ترمز إلى مصر وهذا الأمر يشوه صورة مصر في الخارج"، لكن مؤلف الفيلم وحيد حامد ومنتجه عماد الدين أديب، نجحا في حشد حملة تضامن من المثقفين والصحفيين للدفاع عن الفيلم في الصحف والبرامج بشكل قضى على الحملة الموجهة ضده قبل أن يشتعل أوارها.

كانت تلك المرة الأخيرة التي تتردد فيها تهمة "الإساءة إلى سمعة مصر" تحت قبة البرلمان بشكل رسمي، لكنها لم تختف على الإطلاق من على ألسنة المدافعين عن سمعة مصر في الصحف والبرامج والندوات والنيابات، حيث لاحقت تلك التهمة التي لا تفنى أفلاماً كثيرة من بينها على سبيل المثال لا الحصر: " البنات دول ـ هي فوضى ـ وراء الشمس ـ بدون رقابة ـ حين ميسرة ـ عسل إسود ـ ويجا ـ بنتين من مصر ـ احكي يا شهر زاد ـ 678 ـ دكان شحاتة ـ يوم للستات ـ كلمني شكرا ـ الشوق ـ اشتباك ـ الجمعية". صحيح أن تلك التهمة فقدت كثيراً من هيبتها، من فرط ما أصبحت مضغة تلوكها الأفواه، وبعد أن ارتبطت بها أسماء مثيرة للسخرية، لكن صناع الأفلام لا زالوا يدركون أن هذه التهمة المبتذلة، يمكن لها أن تصبح على الفور تهمة خطيرة، إن أرادت الجهات الأمنية الغاشمة والغشيمة معاقبة أحدهم، ليجد نفسه مرمياً في السجن بتهمة الإساءة إلى سمعة مصر، دون أن يتضامن معه أحد في عهد أصبح ثمن التضامن فيه مكلفاً للغاية، ولذلك لا يجد بعضهم مشكلة في إعلان تعاونه الوثيق مع نظام السيسي وتسليمه الكامل بما تطلبه من أجهزته العسكرية والأمنية، ليأمن غدرها وفتكها.

في الوقت نفسه، لجأ نظام عبد الفتاح السيسي الذي صك من قبل عبارة "عبد الناصر محظوظ بإعلامه"، إلى استعادة تجربة الستينيات في التعامل الرقابي مع الإنتاج الفني بشكل شامل، حيث تقوم الدولة بالتحكم الكامل في المنتج الفني من المنبع، دون حاجة ماسة للاعتماد على جهاز الرقابة، ليتم وضع مواصفات فنية قياسية غير مكتوبة تلتزم بها الأعمال الفنية، ويتحول كل منتج إلى رقيب على الفنانين العاملين معه، لكي لا يتم منع عمله من العرض أو منعه من الإنتاج، أو تسليمه لجماهيره الغاضبة المتعطشة إلى "حفلة" يومية على شرف الوطن، وفي ظل هذا المناخ يفضل أغلب الفنانين البعد عن الأذى باتباع المواصفات الفنية القياسية التي وضعتها الأجهزة التي أصبحت تتحكم في أغلب منافذ الإنتاج الفني، أما الذين لا زالوا يقاومون رغبة السلطة والمجتمع في إخضاعهم للسير ضمن القطيع، فقد أصبح عثورهم على فرص للإنتاج أصعب من فرصة العثور على عقلاء داخل الأجهزة الأمنية التي لم تعد تترك لمسئولي جهاز الرقابة فرصة للاجتهاد، بل أصبحت تملي عليهم قراراتها بشكل مباشر، ولم يعد الفنانون يلوحون باللجوء إلى القضاء رداً على تعسف الرقابة، بل أصبحوا يلجأون مباشرة للحديث مع المسئولين الأمنيين لمعرفة طلباتهم اللازمة للسماح بعرض أفلامهم الممنوعة، لكي لا تسلمهم السلطة إلى الرأي العام الغاضب لقيامهم بالإساءة إلى سمعة مصر، التي لا أحد يعتقد أن سمعتها في أحسن حال، سوى بعض الذين يعيشون داخلها، ولا يرغبون أصلاً في معرفة شيئ مما يدور خارجها.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.