دروس قاسية من لبنان... فهل نعيها جيداً؟

دروس قاسية من لبنان... فهل نعيها جيداً؟

11 ابريل 2024
غضب المودعين أمام مصارف لبنان المركزي، 24 سبتمبر 2021 (الوكالة الوطنية للإعلام)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الاستدانة الخارجية المفرطة، غياب الرقابة والتخطيط السليم، والفساد المستشري في الأجهزة الحكومية والمالية، تشكل الأسباب الرئيسية للأزمات المالية في دول مثل لبنان، مما يؤدي إلى عجزها عن سداد ديونها وتفاقم الأزمات الاقتصادية.
- لبنان يعاني من أسوأ أزمة مالية في تاريخه الحديث، مع عجز الحكومة عن استرداد أموال المودعين وخسائر فادحة في القطاع المصرفي، مما يعمق الأزمة المالية ويؤدي إلى توقف الدولة عن سداد ديونها الخارجية.
- الأزمة في لبنان تشمل ارتفاع معدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها عالمياً، مما يجعل تكاليف المعيشة عصية على الغالبية ويدفعهم نحو الفقر المدقع، بالإضافة إلى تحدي استعادة الثقة في القطاع المصرفي والمالي.

ما يحدث في لبنان وغيرها من الدول المفلسة أو حتى المتعثرة في سداد أعباء وأقساط ديونها الخارجية هو نتاج طبيعي لأي دولة تستسهل الاقتراض الخارجي وتغترف منه بلا رقابة أو وضع خطط سداد واضحة، وتهدر المال العام، وينتشر فيها الفساد ويمتد بداية من النخب السياسية مروراً بالأجهزة الحساسة، وترتكب الطبقة الحاكمة في تلك الدول كلّ جرائم المال العام وتهريب وغسل الأموال من دون ملاحقة أو رقابة سابقة ومحاسبة لاحقة.

هو درس قاسي أيضا للدول التي تغيب فيها الأجهزة الرقابية، أو تعجز، عن القيام بدورها بسبب القيود العليا أو نزع اختصاصاتها، ويثق المواطن أكثر من اللازم في قرارات حكومته، ويرفع فيها القطاع المصرفي والمالي شعارات الشفافية والحوكمة وقواعد بازل وحماية أموال المودعين رغم غوصه في الفساد والرشى والنهب المنظم.

درس كذلك لتلك الدول التي تفضل الأموال الأجنبية الساخنة وجذب الأموال للبورصات وأذون الخزانة على الاستثمارات المباشرة وقطاع الإنتاج والصناعة والتصدير وتشجيع المستثمرين المحليين.

ما يحدث في لبنان 

درس قاي للدول التي تفضل الأموال الأجنبية الساخنة على الاستثمارات المباشرة والإنتاج والصناعة والتصدير

هنا تكون كل تلك المؤشرات السابقة مقدمة طبيعية للتعثر المالي وتوقف الدولة عن سداد أعباء الديون الخارجية والغرق في وحل الاستدانة والخضوع لابتزازات صندوق النقد والدائنين الدوليين التي لا ترحم ولا تتوقف.

ولنعد للبنان، فمنذ اندلاع أسوأ أزمة مالية في خريف 2019، تقف الحكومة اللبنانية عاجزة عن احتواء أخطر الأزمات التي تواجهها في العصر الحديث، وهي رد أموال المودعين التي وضعت البنوك يدها عليها، وضاع منها 121 مليار دولار من إجمالي 124 مليار دولار بشهادة جمعية مصارف لبنان.

وهو ما يعني أنّ 97.6% من تلك الأموال باتت في حكم الضائعة وربما للأبد في ظل تعرض القطاع المصرفي لخسائر زادت عن 50 مليار دولار، وعدم توفر احتياطيات أجنبية كافية لدى مصرف لبنان تمكنه من أداء أدواره الأساسية، وفي مقدمتها حماية أموال المودعين، والدفاع عن العملة المحلية في وجه المضاربات وتجار العملة، وبالطبع سداد أعباء الدين الخارجي الذي توقفت الدولة عنه على مدى السنوات الماضية، في إشارة إلى أسوأ أزمة مالية تمر بها في تاريخها.

قفزات في كل شيء

هذه أزمة كبيرة ومعقدة تواجه صانع القرار في لبنان، أما الأزمة الثانية التي باتت عصية على الحلّ في البلاد فتتمثل في القفزات الصاروخية في أسعار كلّ شيء من سلع وخدمات وإيجارات وكلفة معيشة وغيرها، والذي تترجمه أرقام تضخم هي الأعلى في العالم.

الأزمة التي باتت عصية على الحلّ في لبنان تتمثل في القفزات الصاروخية بالأسعار، والذي تترجمه أرقام تضخم هي الأعلى في العالم

فوفق إدارة الاحصاء المركزي، فإنّ معدل التضخم السنوي للعام 2023 بلغ 221.3%، علماً أن هذا المعدل يفوق دولاً تواجه أزمات مالية واقتصادية حادة، وتهاوياً في عملاتها الوطنية مثل فنزويلا والأرجنتين، أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي عالمياً، كما يفوق معدلات التضخم في تركيا ومصر وإيران ومالاوي.

هذا التضخم الجامح في لبنان يجعل من تكاليف الحياة والمعيشة عصية على الغالبية العظمى من المواطنين واالاجئين، كما يقذف بتلك الأغلبية في أتون الفقر المدقع والعشوائيات والحرمان ويعمق الأزمات المعيشية، بخاصة أنّ تضخم أسعار الغذاء فاق 208% في العام الماضي.

ومن المتوقع أن تتضخم الأسعار في لبنان أكثر في الفترة المقبلة مع استمرار الحرب في غزة، وزيادة حدة المواجهات العسكرية في جنوب لبنان بين جيش الاحتلال وحزب الله، واضطرابات البحر الأحمر بسبب هجمات الحوثيين، وزيادة الأسعار عالمياً، بخاصة النفط ومشتقات الوقود والمواد الخام.

فقدان الثقة في القطاع المصرفي

أما الأزمة الثالثة التي تواجه النظام الحاكم في لبنان فهي استرداد الثقة بالقطاع المصرفي والمالي، التي انهارت عقب وضع البنوك يدها على أموال المودعين والكشف عن الخسائر الفادحة التي تعرض لها القطاع.

ولا ننسى هنا التصريح الخطير الذي أطلقه سعادة الشامي، نائب رئيس الوزراء اللبناني، في إبريل/ نيسان 2022، حينما أكد أن الدولة ومصرف لبنان المركزي مفلسان.

أو تصريح ناصر السعيدي، وزير الاقتصاد السابق ونائب حاكم (محافظ) مصرف لبنان السابق، الذي أطلقه عقب مغادرة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة منصبه، إذ قال عن الأخير: "إنه يترك وراءه مؤسسة مدمَّرة ستتعين إعادة هيكلتها في ظل خسائر بنحو 76 مليار دولار في مصرف لبنان".

هذه الأزمات الثلاث وغيرها دروس قاسية من لبنان الذي يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث، وانخفاضا حادا في الناتج المحلي الإجمالي، وقفزة في معدلات البطالة والفقر والتضخم، وركودا حادا في الاقتصاد.

على الحكومات التي تفرط في الاقتراض الخارجي وتعتبره الحل الأمثل لردم هوة الفجوات التمويلية وتغطية العجز في الإيرادات الدولارية، أو تنظر إلى الأموال الساخنة على أنها المنقذ لأزمات الاقتصاد وأسواق الصرف، أن تتوقف كثيراً عند درس لبنان القاسي، والصعوبات الشديدة التي تواجهها الدولة اللبنانية للخروج من مأزق التعثر والأزمات المالية والاقتصادية.

وأن تدرك تلك الحكومات أن الوقوع في فخ التعثر قد يترتب عليه إدخال الدولة كاملة في فوضى، ليست مالية واقتصادية ونقدية فقط، بل سياسية وهيكلية أيضاً، ويعرض أمن الدولة القومي للخطر الكلي.

المساهمون