فرنسا 2015: أعياد متنقّلة وإسلاموفوبيا

فرنسا 2015: أعياد متنقّلة وإسلاموفوبيا

31 ديسمبر 2015
(عمل لـ أي ويوي)
+ الخط -

عام أدبي استثنائي انصرم في فرنسا وسمته، بقوّة، في المستهل اعتداءات السابع من كانون الثاني/ يناير ضدّ أسرة تحرير مجلّة "شارلي إيبدو"، وختمته اعتداءات الجمعة السوداء في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر.

ترافق الحدثان بكتابين متناقضين يعكسان دراما هذا العام بامتياز: رواية "استسلام" للكاتب ميشال ويلبيك التي صدرت في اليوم نفسه الذي وقعت فيه اعتداءات شارلي، وكتاب "باريس حفلة" للأميركي إرنست همنغواي الذي انبعث من أقبية المكتبات إلى واجهاتها غداة الجمعة السوداء. وما بينهما دراسة لافتة للكاتب إيمانويل تود بعنوان "من يكون شارلي؟ سوسيولوجيا الأزمة الدينية" حاول فيها تشريح ظاهرة الإسلاموفوبيا الفرنسية.

"استسلام" فرنسي للإسلاموفوبيا
عكست رواية "استسلام"، على طريقتها، تحوّلات المجتمع الفرنسي في اتجاه العنصرية والتحامل على كل ما يمتّ بصلة إلى الثقافتين الإسلامية والعربية. تخيّل ويلبيك حال فرنسا في مستقبل قريب (عام 2022)، وقد أصبحت تحت سلطة حكومة إسلامية.

بعد أن أنهى الرئيس فرانسوا هولاند ولايته الثانية، فازمحمد بن عبّاس بالانتخابات الرئاسية، زعيم حزب "الأخوة الإسلامية"، بعد عقده تحالفاً مع الحزب اليميني بقيادة نيكولا ساركوزي و"الاتحاد الديمقراطي" و"الحزب الاشتراكي". يختار الرئيس الجديد بن عبّاس فرانسوا بايرو، وهو شخصية من الوسط اليميني، رئيسًا للوزراء.

هكذا، ترجمت الرواية الاستيهام الفرنسي الأكبر بخصوص الإسلام و"الخطر الإسلامي الماحق" الذي يتهدّد المجتمع الفرنسي. عرف العمل كباقي روايات ويلبيك انتشاراً جماهيرياً كبيراً، وبيع منه أكثر من مليون نسخة في أسابيع قليلة، كما شهدت ترجماته إلى الألمانية والإيطالية والإسبانية الانتشار نفسه.

تود و"قناع كلّنا شارلي"
في غمرة الهستيريا الجماعية التي خلّفتها اعتداءات "شارلي"، صدرت العديد من المؤلّفات التي تتناول الإسلام الفرنسي وخطر الحركات الجهادية ومسألة الهوية الوطنية.

وحده كتاب المؤرّخ والمفكّر الفرنسي إيمانويل تود "من يكون شارلي؟ سوسيولوجيا الأزمة الدينية" كان في مستوى النزال الفكري الفرنسي وحاول نزع الهالة التقديسية التي أسبغها الفرنسيون من كل الأطياف على مظاهرات 11 كانون الأول/ يناير الماضي، حين خرجت عدّة مظاهرات مليونية في كبرى المدن الفرنسية تنديداً بجريمة شارلي وتضامناً مع حرية التعبير.

اعتبر تود أن 11 يناير مجرّد خدعة وكذبة كبرى تخفي وراءها أيديولوجية إقصائية، ووجّه انتقاداً عنيفاً للنخبة السياسية الحاكمة التي حشدت الجموع باسم الدفاع عن مبادئ الجمهورية وحرية التعبير والعدالة والمساواة، في حين أن فرنسا، بحسب المفكّر، خانت منذ عقود هذه المبادئ.

اعتمد تود على معطيات إحصائية دقيقة للبرهنة على غياب صارخ لشرائح العمال وسكّان الضواحي والمهاجرين في تظاهرات شارلي، وأن الذين خرجوا في هذه التظاهرات ينتمون، في غالبيتهم الساحقة إلى النخب السياسية والثقافية والطبقة المتوسطة، وهي الشرائح نفسها التي تقبل بالفوارق الطبقية الصارخة وتتبنى الإسلاموفوبيا.

تساءل في مقطع قوي من الكتاب: "بأيّ حق تنادي الحشود بحرية تشويه النبي محمد في رسوم كاريكاتورية، وأي منطق هذا الذي صار يجعل من تشويه صورة الإسلام والمسلمين حريةَ تعبير؟".

إنها "أوليغارشية الحشود"، كما يسمّيها تود، والتي تستعرض عضلاتها على أقلية من المسلمين والعرب، وتصرّ على تحميلهم مسؤولية الأزمات التي تعصف بالمجتمع الفرنسي على كل المستويات، خلف قناع "كلنا شارلي".

"باريس حفلة".. الحنين إلى الزمن الجميل
غداة اعتداءات الجمعة السوداء، وبفضل نصيحة عفوية لسيدة فرنسية، تهافت الفرنسيون على المكتبات لاقتناء نسخة من كتاب همنغواي "باريس حفلة" الذي كان صدر في الستينيات من القرن الماضي تحت عنوان "وليمة متنقّلة".

وعكس هذا الإقبال المفاجئ حنيناً جارفاً إلى الأجواء الاحتفالية التي سادت باريس خلال فترة ما بين الحربين في بداية العشرينيات من القرن الماضي، كما عكست العودة إلى هذا الكتاب إحساس الفرنسيين بأن منفّذي الاعتداءات استهدفوا في الواقع نمط العيش الباريسي بانحيازه الصارخ إلى ثقافة الفرح والمتعة والاختلاط بين الجنسين.

يتحدّث الكتاب بإسهاب عن سحر باريس في فترة ما بين الحربين، حين قصدها همنغواي برفقة زوجته الأولى هادلي ريتشاردسون في الفترة ما بين 1921 و1926، ويضمّنها نوادر شيقة عن الكتّاب والفنانين، خاصة الأجانب الذين كانت تزدحم بهم المقاهي الباريسية، ومنهم الشاعر إزرا باوند والكاتبان سكوت فتزجيرالد وجيمس جويس، وأيضاً سيلفيا بيتش التي كانت تملك مكتبة باسمها على ضفاف السين ما تزال قائمة حتى الآن، وكان يلتقي فيها الكتاب الأميركيون المقيمون في باريس، مثل فورد مادوكس فورد وأليستر كاولي وجيرترود شتاين.

يستمد الكتاب سحره من أجواء تلك الفترة الذهبية التي أطلق عليها الفرنسيون "السنوات المجنونة"، حيث كانت باريس تنضح بغليان إبداعي قلّ نظيره في أية مدينة أخرى في العالم على يد جيل شاب متحمّس ومفعم بالأمل وتوّاق إلى عيش الحياة كمغامرة وجودية.

تميّز 2015 أيضاً بـموسم أدبي غزير بالإصدارات، انطلق في منتصف آب/ أغسطس، واحتفى بصدور 589 رواية منها 196 رواية مترجمة من اللغات الأجنبية و68 رواية أولى منحت دور النشر لأصحابها فرصة دخول عالم النشر لأول مرة.

وتتوّج الموسم بجوائز الخريف، حيث انتزعت رواية "بوصلة" للكاتب الفرنسي ماتياس إينار جائزة "غونكور" العريقة. وهي رواية تحكي عن الولع بالشرق والافتتان بثقافته من خلال عالم موسيقي نمساوي قضى ليلة أرق في تذكّر مغامراته في دمشق وحلب وتدمر واسطنبول وطهران. وكانت لجنة الجائزة أعلنت اللائحة القصيرة للروايات المرشحة في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في "متحف باردو"، في العاصمة التونسية في مبادرة تضامن استثنائية مع تونس بعد الاعتداء الإرهابي الدامي الذي استهدف المتحف.

وعادت جائزة "رونودو" إلى الكاتبة ديلفين دوفيغان عن روايتها "عن قصة حقيقية"، في حين عادت جائزة "فيمينا" للكاتب كريستوف بولانتسكي عن روايته "المخبأ". وفاز بجائزة الأكاديمية الفرنسية للرواية مناصفة الكاتب التونسي هادي قدور عن روايته "المتفوقون" والجزائري بوعلام صنصال عن روايته "2084، نهاية العالم". أما جائزة "ميديسيس" فقد فازت بها الروائية ناتالي أزولاي عن عملها "تيتوس لكن يحب برينيس".

لعلّ الكتاب العربي الأكثر نجاحاً هذا العام هو الجزء الثاني من الرواية المصوّرة "عربي المستقبل" لرسام الكاريكاتير والمخرج السينمائي السوري الأصل، رياض سطوف، الذي تجاوزت مبيعاته نصف مليون نسخة في شهور قليلة. وتتناول الرواية، بأسلوب ساخر، قصة طفولة سطوف الذي عاش رفقة والديه فترة منها في ليبيا خلال حكم القذافي وفي سورية تحت حكم حافظ الأسد.

ورغم الحديث المتكرّر عن أزمة القراءة في فرنسا بسبب سطوة شبكة الإنترنت والنشر الإلكتروني، إلا أن أرقام المبيعات تؤشّر إلى تعلّق الفرنسيين بالكتاب وشغفهم بقراءة الروايات.


اقرأ أيضاً: أنا أيضاً اسمي الصالحي

المساهمون