نهاية لا نهائيةِ الكتاب؟ القراءة تحت ضوء الشاشات وفوق تمدُّد التفاهة

نهايةُ لا نهائيةِ الكتاب؟ القراءة تحت ضوء الشاشات وفوق تمدُّد التفاهة

08 ابريل 2023
مكتبةٌ في وسط عمّان، نيسان/ أبريل 2011 (Getty)
+ الخط -

يستغرب كثيرون حين يدخلون منزلي من الكتب التي تحتلّ كثيرًا من أركانه، تستلقي مرتاحةً في زواياه، وتتسلّق جدرانه، وصولًا إلى مواقع متقدّمة وبارزة واستراتيجيّة مثل طاولة الوسط في الصالون، أو - بين حين وآخر، وبحسب توازنات القوى بين شدّة الرّغبة في القراءة، وأهمّية الكتاب - طاولة المطبخ.

أمّا والدي فقد شهق من العجب، وبَحْلَق بقليلٍ من الرعب وبعض الاستنكار، حين وجدني وقد استبدلتُ بغرفة السفرة وصالون الضيوف (طبعًا، وهل من شيءٍ آخر يستحقّ) مكتبة. "أين ستستقبل الضيوف؟" قال، وفهمتُ أنا (من دون أن يُصرّح هو) أنّه مصدومٌ باستبدالٍ أعمق يأخذ الآن، في هذه الغرفة المنقلبة وظيفيًّا، صيغته الماديّة النهائيّة: استبدلتُ بالزواجِ المعرفةَ والفنّ ومحاولةَ ممارسة الأفكار، حيث يتحقّق الاستقرارُ في البحث، ويُتَبنّى ثمّ يُنْجَبُ أولادٌ (غير مُتطلّبين كثيرًا) من الكتب.

لا يدري الوالد المتعجّبُ/ المرعوب أنّ البستانيّ الذي غرس بذرة الكتب التي ضربت جذروها على مهلٍ ثم أينعت بعد فترة قصيرة من السُّبات، كان هو نفسه. 


مشهد مستقطع من ماضٍ ليس بعيدًا – العطلة الصيفيّة

بينما كان الآباء والأمّهات الآخرون يُكَرْفِتون أطفالهم بسرعةٍ من باب السيّارة إلى ساحة الألعاب ذات الأرضيّة الرمليّة في مركز هيا الثقافي في الشميساني (حيث يتعالى صراخهم الفرح)، وينسحبون بسرعةٍ على الإسفلت إلى ما تبقّى من حيواتهم في مناطق أُخرى من المدينة، كان والدي الصارم (من منظوري في ذلك الزمن) المهتمّ (بنظرة اليوم التي ترى الماضي من الحاضر) يصحبني يوميًّا إلى داخل مبنى المكتبة، مجتذبًا نظراتٍ دَهِشةً من المشرفات لم تنطفئ بتكرار حضوره، يمشي إلى جوار الرّفوف ماسحًا إيّاها بعينيه الصغيرتين اللوزيّتين المُحَيّرتين بين الأخضر والبنيّ، قبل أن يقف لتتناول أصابعُه ما سيُطالبني بتلخيصه ليتأكّد فعلًا من قيامي بالمهمّة كاملة، ولا يغادر إلّا وقد بدأتُ بالصّفحة الأولى، تُشيّعه نظرات المشرفات إياهنّ، يتهامسن أن "يا حرام"، و"يا لبؤس هذا الطفل"؛ والطفلُ كان مستاءً، يجتهد في الإسراع بمهمّته ليلتحق بأقرانه المُتمرجحين المُتَسَحْسِلين، هاربًا أحيانًا من طاولته إلى زاوية القصص المصوّرة؛ حيث يتجوّل محبوس الأنفاس مع تان تان وكلبه، أو يضحك على مقالب أستريكس وأوبليكس، دون أن يدري أيٌّ من كلّ هؤلاء (الطفل، والأب، والمشرفات المُتهامسات، والأقران اللّاهون) أيَّ عوالم من المعارف والآداب والفنون تنتظر - في قادم الأيّام - ذاك الذي كتب الجملة الأخيرة في دفتر الملخّصات، وركض ليلتحق بحصّة الدبكة.


الكشف والاكتشاف

عوالم المعارف والآداب والفنون، عوالم الكتب، ستكشف عن نفسها بعيدًا عن الواجبات المقرّرة، والزّجر والإجبار، والحفظ والبصم، والتلقين والتسميع؛ بعيدًا عن ذلك المسار الجهنّميّ الذي لا بدّ له أن يقود إلى نهايته الحتميّة: كرنفال تمزيق الكتب المدرسيّة والدّوس عليها وحرقها والتّشنيع بها نهاية العام (انتقامٌ مراهقٌ من عسكرة المعرفة، وتحوُّلها إلى أجراس وطوابير وعرفاء وخيزرانات رفيعة)... حين تتسلّل من كُتيّب كلمات الأغاني المرفق بأشرطة الرّوك الأصليّة التي يُحضرها صديق محظوظ من خارج البلاد، فنتبادله ونستنسخه ونقرأ ما فيه على وقع غيتارات صاخبة واتّهامات متنوّعة ليس أقلّها عبادة الشّياطين.

عوالم المعارف والآداب والفنون، عوالم الكتب، ستكشف عن نفسها بعيدًا عن المجلّدات الجامعية الأميركيّة والبريطانيّة التي لها هيبةٌ ووهرةٌ في الشكل والمضمون، أرهبها وأصرّ على شرائها من متجر الكتب الجامعيّ مهما غلا ثمنها... حين تتسلّل من مادّة صحافيّة قادني فضولي إليها لأكتشف محنة مفكّر اسمه نصر حامد أبو زيد، فتقودني المحنة بدورها - في اليوم نفسه - من مربّع اللّهو الطائش في جامعتي المتربّعة فوق سهول حوران، على تخوم الرمثا، إلى كشك الكتب وسط البلد في عمّان، لأشتري كلّ المتوفّر مما كتبه الرجُل، فيقترح البائع - الخبير بأمزجة القراءة واتّجاهاتها - روايةً لحيدر حيدر، تكون البداية الثالثة.

سحبني اضطهاد كاتب مصريّ من مستنقع لامبالاتي تجاه العالم، وفتح لي مسارًا ذا حدّين، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالكتب، مستودع المعرفة ومخزنها وشكلها الماديّ الموضوعيّ الملموس: حدّ التواضع أمام لا نهائيّة المعرفة، ومحدوديّة التحصيل منها في زمن قصير هو الزمن الممتدّ بين المهد واللحد، وفهم موقع الإنسان الفرد المُضخّم أضعاف أضعاف حقيقته التافهة في كونٍ نحن وكلّ ما نمثّله مجرّد ركّاب كوكب صغير يتبع نجمًا مثله مليارات في مجرّتنا التي يوجد مثلها مليارات في كونٍ شساعته ما زالت بعيدة عن الإمكانيّات التي تُتيحها تصوّراتنا؛ وحدّ الاستفزاز من الغباء، والانغماس في الرّغبات المُعلّبة والأنانيّة التي تمثّلها أشكال الوجود الاجتماعيّ- الاقتصاديّ المُعاصرة من دون مراجعة أو تساؤل، والتّثاقل من فتح جِلد الظواهر بمبضع النّقد.


المعرفة، التمهّل؛ التسلية، الاستعجال

الكتاب (كما ترين) هو تجربة في المعرفة، طريق تسيرين فيه وتستخدمين كلّ حواسّك، ويفتح لك فيه الطريق الرئيسي طرقًا فرعية، ويقود فيه السّهل إلى جبل، والبحر إلى جزر وأرخبيلات، والكوكب إلى نجوم ومجرّات وأكوان. الكتاب هو مضغوطُ إمكانيّة المعرفة والفنّ، تُستخرج بالكدح الذي يحمل اسمًا خاصًّا: القراءة؛ والقراءة علاقة ماديّة تستدعي وقتًا، واحترامًا، وتلامُسًا، وصبرًا، ميزتها أنّكِ تذهبين إليها ولا تأتي هي؛ لا تنقّ ولا تصخب ولا تشكو، لكنّها لا تعطي نفسها دون إخلاصٍ وجدّية.

والعصر (كما ترى) عصر استعجال لا تمهّل، سطحيّة لا عمق، تسليةٍ لا معرفة، أنانيّة لا كونيّة، وبدلًا من بصيرة الطريق وعلاماته وتفاصيله وتجارُبه الثريّة، ومنها ما هو غير متوقّع ولا محسوب، صار لدينا عمى خرائط غوغل وانقيادنا الأبله - دون رسن - خلف مساراتها المُضاءة وأوامرها التي ننفّذها دون سؤال، ولوغاريثمات التكرار والتعزيز التي تُلقمكَ المزيد ممّا تظنّ أنّكَ تريده لإشباع عصبيّاتكَ الاستهلاكيّة والترفيهيّة والدوغمائيّة، وراحة الكنبة التي تجلس عليها ببلاهة أمام ما يعرضه عليكَ تلفاز مفتوح على الدّوام بانتظار السمّ الهاري الذي سيُحضره لكَ سائق الديلفري الذي تساهم طلباتكَ في استعباده، وإغواء الشاشة الصغيرة الزرقاء التي تسبق حركة إصبعكَ عليها دماغك، وتُجنّ إن أنتَ نسيتها -صدفةً- في المنزل.


مشهد مستقطع من حاضرٍ ما زال يتفاقم

لطالما اصطحب والدي (إن كان الأمر الذاهب بشأنه إلى دائرةٍ ما يستدعي انتظارًا مُتوقّعًا) كتابًا يقرأ فيه بدلًا من التّحديق في الحوائط والمُنتظرين الآخرين، واجترار الملل. كان الأمر (المستورد على الأغلب من فترة إقامته في لندن أثناء التخصّص) يثير عجبي الطفوليّ ومن ثمّ المراهق، وقليلًا من الإعجاب، واستغراب الكبار الآخرين، في ثقافةٍ لم تعتد على صُحبة الكتب في الأماكن العامّة، وأتذكّر حادثةً قريبةً اصطحب معه فيها كتابًا عند استدعائه للمرّة الثانية في حياته (الأولى كانت عام 1960 بعد أن تخرّج من دراسته الجامعيّة في دمشق مُنظَّمًا في حزب البعث) للمخابرات العامّة، حين لبّى (مثلما كان يلبّي دعوات سفارات غربيّة وشرقيّة وعربيّة) دعوةً على العشاء نظّمتها السفارة الإيرانيّة في عمّان بمناسبة يوم القدس العالميّ، حضرها إلى جوار وزراء ونوّاب وأعيان وسفراء وشخصيّات، ولم يَدُرْ بخلده قطّ أنها ستودي به ثانيةً إلى المبنى الذي غادره قبل عقود طويلة "مواطنًا صالحًا".

سأتخيّل دهشة المنتظرين لساعات في غرفة الانتظار الجماعية الغارقة في الصمت، والتي لا يبادر أي من الجالسين فيها بالحديث مع من يجاوره، خوفًا من أن يتجاوز حدًّا ما غير مرئيّ أو مكتوب، أو من أن يُنهر، من رجل سبعينيّ يقرأ في كتاب، وحيرة المحقّق الذي ربّما سأله عن سرّ السِّفر الذي يتأبطّه، وستستغربون أنتم معي الآن أنّ والدي، وإن بقيت الكتب إلى جوار سريره، قد هجر اصطحابها إلى انتظاراته المتوقّعة، وحلّ محلّها، في تلك الأوقات، وفي أغلب الأوقات، ما يمارسه معظمكم: التّحديق الأبله في الشاشة، وابتلاع ما يعرض عليها من تفاهات متنوّعة الأشكال والألوان واللّغات دون مضغ، ودون تدقيق في المكوّنات وتاريخ الصلاحيّة والجهة المُصنّعة وبلد المنشأ.


استجواب لا علاقة له بالمخابرات العامّة

كم كتابًا خارج تخصّصك ودراستك قرأت هذا العام؟

______.

كم كتابًا خارج تخصّصك ودراستك تملك/ين في بيتك؟

______.

كم مرّة في العام الواحد تقوم/ين بزيارة متجر للكتب؟

______.

بعيدًا عن عالم الأسماء التي باتت -محليًّا، وعربيًّا، وعالميًّا- من المشاهير لا من الكُتّاب (مثل باولو كويلو وأحلام مستغانمي وإبراهيم نصر الله وأيمن العتوم)، كم كاتبةً أو كاتبًا محليًّا وعربيًّا وعالميًّا تعرف/ين؟

______.

بعيدًا عن الكتب التي تنتمي إلى عالم الموضة لا عالم الكتابة (مثل "الخيميائي" و"The Secret" وإصدارات "مؤثّري" وسائل التواصل الاجتماعي)، سمّ عشرة كتب تعرف/ين عنها.

___________________.

عودةً إلى عالم الأسماء التي باتت من المشاهير لا من الكُتّاب (انظُر/ي الأمثلة الواردة في السؤال ما قبل السابق)، كم كتابًا قرأت لمثل هؤلاء؟

_______.

عودةً إلى عالم الكتب التي تنتمي إلى عالم الموضة لا عالم الكتابة (انظُر/ي الأمثلة الواردة في السؤال ما قبل السابق)، كم كتابًا قرأت من مثل هذه الكتب؟

_______.

ستجيب مثل هذه الأسئلة عن حال عالم نشر الكتب في اللغة العربيّة، والذي تسوده فوضى كاسحة، لا يملّ فيه الناشرون من الشكوى من مبيعات الكتب، وصاروا فيه يطلبون من المؤلّف أن يُموّل نشر كتابه، وانخفض فيه عدد النسخ المنشورة من كتاب يفترض أنّه موجّه إلى ما يقارب 400 مليون متحدّث باللغة العربيّة، إلى 50 نسخة. نعم صحيح، لم يسقط بخطأ مطبعيّ أيّ صفر من الرقم. كتابةً: خمسون نسخة، هو الرّقم الذي يعرضه اليوم بعض الناشرين على بعض الكُتّاب كـ"طبعة أُولى"، يلحقونها بخمسين أُخرى في حال "مِشِي حال" الخمسين الأولى، وهكذا، توفيرًا للنفقات، وتكثيرًا لعدد الطّبعات المتلاحقة الذي يساعد المبيعات، وهكذا.

كما ستجيب مثل هذه الأسئلة عن التحوّل الذي ضرب علاقة القارئ بالكتاب، في زمن اختلف فيه معنى القراءة، واختلف معنى الكتاب، وشكله، ومحتواه، واختلف غرض الكتابة أصلًا؛ إذ يلهث كثرة من الكُتّاب خلف الشهرة والجوائز والاعتراف، يبغون التحوّل - كما تحوّل الزمن - من كلمةٍ في سياق المعرفة، إلى صورةٍ في كرنفال التسلية. 


ما تبقّى لكم

بقي من الكتاب أندية مسمّاة باسمه هدفها الأوّل التّعارف، وملء حياة اجتماعيّة فارغة من العلاقات بعلاقات تتذرّع بالكتب، خياراتها الرّائج والدّارج والأكثر مبيعًا والفائز بالجوائز المعقّمة، فيما تجلس المعرفة (ما غيرها) محشورةً ومحاصرةً في الزاوية، بعد أن اكتسح فيض السّطحيّة والتفاهة والتسلية، والرغبة في الراحة والاسترخاء والكسل والبلادة بعد يوم عمل مرهق طويل، كلّ شيء، وتمدّد إلى حيث ستجد ذاك المتبلّد في كلّ مكان: في سيارة يقودها في الشارع ترى رأسه يتأرجح فيها بين أعلى أمام وأسفل يمين؛ في عيادة يرنّ فيها هاتف الطبيب فيقطع معالجة المريض ليردّ على المكالمة أو يعاين الرسالة؛ في جلسة بين أهل أو أصدقاء تتمركز فيها أعينهم لا على بعضهم بل على ذواتهم الضائعة الممسوخة في جهاز إلكتروني، يستجوبهم في كل تفاصيل حياتهم، ويتجسّس عليهم، ولا يستطيعون الحياة من دونه.


خاتمة: ∞

في حفل موسيقي نادر يحييه مئة وخمسون عازفًا وعازفة جاؤوا من أربعة أرجاء الأرض، داخل مسرح أثريّ كبير وقديم، وتحت سماء مرصّعة بالنجوم، لم تجد تلك الجالسة إلى جواري في كلّ ذلك ما يثير مشاهدة ممتعة، فرفعت هاتفها، وتابعت كلّ ذلك اللانهائي الباهر أمامها من شاشة غَبِشة قياسها 20 × 10 سنتم، أَعْمَتْني، فشتمتُها.

أمّا أنا، فرفعت رأسي عن الكتاب إثر فكرة لامعة، وجملة مسبوكة بحرفيّة فنّيّة، وفكّرت بعمقٍ في الأزليّ الذي جئتُ منه، واللانهائيّ الذي بقي أمامي، وبعد أن سجّلتُ الجملة ومعها بضعة تعليقات استثارتها، انضاف كتابٌ جديد إلى كومة الكتب الجديدة التي بدأت التشكّل للتوّ على طاولة الضيافة الصغيرة.


* كاتب من الأردن

موقف
التحديثات الحية

المساهمون