زمن عبد الناصر

زمن عبد الناصر

13 ديسمبر 2020
("الزعيم وتأميم القناة"، حامد عويس، 1957)
+ الخط -

لستُ من المشغوفين برؤية الزعماء والقادة. كنتُ في موسكو، في فندق قريب من الساحة الحمراء، ولم يكن مدفن لينين المحنَّط بعيداً عني؛ ففي وُسعي أن أَبلغه على قدمي. بالفعل قصدته أكثر من مرّة وتأمّلتُ الحرس يواصلون مشيتهم العسكرية. لكن لم يخطر لي، أنا الماركسي القديم الذي أفنى وقتاً من حياته في قراءة لينين وحفظ عن ظهر قلب تفاصيله الحزبية، أن أزور مرقده.

دفعتُ الفكرة عنّي ووجدتُها لا تلائم ماركسياً قديماً أو حديثاً. لكنّي، مع ذلك، شاهدتُ عبد الناصر. لا أذكر المناسبة؛ فقد كنتُ يومها في مصر، ووجدت على الطريق صفّاً طويلاً على الجانبَين في انتظار عودته من المطار، برفقة ضيف، أظنّه، سوكارنو. وقفتُ بين الواقفين وهم خطٌّ واحد بالغ الطول يمتدُّ في الغالب إلى المطار. مرّت بعد قليل الشاحنة التي يقف فيها إلى جانب ضيفه. رأيتُه وفوجئت أنه مختلفٌ عن صوَره؛ إذ يبدو أضخم حجماً، فهو مرصوصٌ من الداخل في طوله الشاهق بحيث يظهر منصوباً في وقفته كتمثال حقيقي. سُمرته الداكنة تمنحه هذا المظهر الحجري وهذه السلطة السامقة. لم أكن حينها ناصرياً، لكن مظهر ناصر غزاني. لقد كان فيه هذا الحضور التاريخي، كما كان فيه شيء بعيدٌ من فرعون حديث.

اليوم ننتبه إلى أنَّ خمسين عاماً مضت على رحيل عبد الناصر. لا ترِد هذه الذكرى لمجرّد التسلسل الزمني، فهناك فوق ذلك المقابلة الخفية بين زمن عبد الناصر وزمننا الحاضر. لا بدَّ أنّ عدداً من المحتفلين بالذكرى يرون أنّنا تخلّفنا، في حاضرنا، عن زمن عبد الناصر، وأنّنا خسرنا بالقياس إليه كثيراً. هذه المقابلة لا تبني على فراغ؛ فالواضح أنَّ زمن عبد الناصر كان زمن النهوض القومي، حمل هذا الزمن ما يمكن اعتباره برنامجاً تاريخياً للأمّة العربية، بل كان، بادئ بدئ، زمن خلق هذه الأمّة التي صارت، تحت راية عبد الناصر موجودة وقائمة.

أمّا التوحيد فزال تقريباً من البرنامج مع الاشتراكية 

لم تكن الأمّة العربية اختراع عبد الناصر، فهو لم يكن داعيتها الأوّل. سبقه إليها كثيرون. سبقته إليها أيضاً تنظيمات وعُصب. لكن عبد الناصر، الذي لم يأت من بلد رائد للدعوة القومية وفيه بالأحرى مجالٌ واسع لدعوة قُطرية؛ كان الأول الذي أوجد للدعوة القومية مبنىً سلطوياً وجماهيرياً في آن معاً، وربط هذه الدعوة ببرنامج متكامل يجمع بين التحرير والتوحيد والتحديث والعسكرة والاشتراكية. كان هذا البرنامج هو البرنامج العربي الذي حشد حوله الجماهير العربية في كل مكان، بحيث بدت الأمّة موحَّدة حوله وحول صانعه، بحيث بدا هذا الحلم دانياً ومعقولاً وشبه ملموس.

ليس الظرف الآن نفسه. لا نحتاج للقول إنَّ التحرير لم يعُد هو الأولوية؛ فالغالبية ترى أنه تمّ أو كاد. أمّا مسألة فلسطين فلم تعُد أولويةً لدى الكثيرين والتطبيع صار فاشياً ولم يعد عاراً أو لعنة. ثم إنَّ التحديث اليوم متّصلٌ بالغرب وبالعلاقات معه لدى دول عربية عدّة. أمّا التوحيد فزال تقريباً من البرنامج مع الاشتراكية التي اختفت الدعوة إليها. لنقُل إنّ ما يبعدنا اليوم عن الناصرية هو ما يبعدنا عن دعوتها والبرنامج الذي حملته.

ثمّة نقطةٌ أساس في هذا الانتقال؛ لنقُل إنّ الدعوة القومية التي بنت عليها الناصرية توشك أن تكون اختراعها. الأرجح أنها لم تتّصل فعلاً بمشروع دولة ولم تملك مقوّمات دولة، بحيث أنه عندما قامت هذه الدولة مع الوحدة المصرية السورية سرعان ما انهارت. كذلك كانت نكسة 1967 انهياراً للتحرير. لقد قام البرنامج القومي على لا شيء، بدا مع الوقت أنه ينبغي أن يمرّ أولاً ببرنامج قُطري، وأنَّ قيام دولة قُطرية شرطٌ لقيام اجتماع قومي. لكنَّ الدولة القُطرية تنتمي أيضاً، بقدرٍ ما إلى الخيال الذي أنتج الرؤية القومية، ولا تزال فاقدة المقوّمات ذاتها: الدولة والمجتمع. يدلّ على ذلك الربيع العربي الفائت كما هي الحال اليوم.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية

المساهمون