مع غزّة: وحيد نادر

مع غزّة: وحيد نادر

17 ابريل 2024
وحيد نادر
+ الخط -
اظهر الملخص
- الشاعر والمترجم السوري المقيم في ألمانيا يشارك تأثير العدوان على غزة على حياته، معبرًا عن الألم النفسي والجسدي ومؤكدًا على أهمية مقاومة التواطؤ العربي والعالمي.
- يواجه تحديات في ألمانيا من تضييق على المظاهرات إلى اتهامات بمعاداة السامية، مشيرًا إلى الشعور بالغربة وأهمية الإبداع والتعبير عن التضامن بطرق مبتكرة.
- يؤمن بقوة العمل الإبداعي ضد الظلم ويرفض الانخراط في السياسة، متمنيًا عالمًا يحترم الإنسانية وينهي العنف، ويدعو العرب للوقوف ضد الظلم والتواطؤ.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيّام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وما يودّ مشاركته مع القرّاء. "أن نُحاول مَنْع أنظمتنا عن الاستمرار في تواطئها بالإبادة"، يقول الشاعر والمُترجِم السوري المُقيم في ألمانيا لـ"العربي الجديد".


  
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيّام في ظلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- كانت القضيّة الفلسطينيّة وما زالت اهتماماً يطبع مسارات حياتي وحياة أسرتي بألوان همومه، حتّى بعد انتقالنا للعيش في ألمانيا. ففلسطين هي الجنوب السوريّ، وغزّة جنوب الجنوب وعيناه صوب "أمّ الدنيا" ومصر النيل، وتلك أُحجية الثقافة ولغتها، وذلك تيمّنٌ يبدأ بالحرف ولا ينتهي بقصيدة الدنيا. أمّا غزّة والإبادة الجماعيّة المستمرّة فيها وهذا التهجير، هذا العُنف، الذي لا يستطيعه إلّا مُجرمٌ تاريخاً وفطرة، مُجرم لا علاقة له بتلك البذرة الثقافيّة وحروف خصوبتها، هذا القتل الذي يحدُث أمام عينيك وتكاد ألّا تُصدّق ما ترى، ينتهكُكَ نفسيّاً وجسديّاً ويرميكَ في متاهات عجز مُظلمة، رغم بُعدك عن وطنك المُصاب، ورغم حياة تُشبه التَّرف تعيشها في أوروبا. لكنّ أكثر ما يفترس أنفاس المرء ويهتكُ ستر عواطفه، هو هذا الغِياب الكامل لقِيم الإنسان في السياسة العربيّة والعالميّة. 

الإبداع خَصْم الدكتاتور والقاتل وداعم أبديّ للإنسانيّة

وأكثر من هذا الأشدّ إحراجاً وإيلاماً كان وقوفُ شعوبنا العربيّة متفرّجة صامتة، وكأنّي ألمح دموع عيني مظفر النواب وأسمع بكاءه يصرخ في قبره: "أين شهامتكم؟ فالذئبة، حتّى الذئبة، تحرس نطفتها والنملة تعتزّ بثقب الأرض!". إنّ وقوفنا مع الشعب الفلسطينيّ في غزّة لا يعني أبداً، في أيّ من أشكاله، تأييد طرفٍ سياسيّ أو عسكريّ معيّن، كما يزعم حاكمٌ عربيّ هُنا أو هناك، بل هو وقوف ضدّ التطهير العِرقيّ ووقفة مع الإنسان في أبسط حقوقه. فالاحتلال الصهيونيّ العنصريّ الهمجيّ لا يقصف الأطفال والنساء بـ"ذكاء" سلاحه الاصطناعي فحسب، بل يقتل كلّ من يُحاول إغاثتهم ويمنع حتّى الغربان من دفنهم في تربتهم.   
 

■ كيف أثّر العدوانُ على حياتك اليوميّة والإبداعيّة؟

- صُراخ الضمير، الذي يُلاحقك، يجعلُ عجزَك قبوراً من العجز، هذا إن لم يُشعل غضبك طُرقاً للغضب، فترى الخروج في المُظاهرات والاحتجاج والصُّراخ أشكالاً لا بدّ منها للتعبير، لأنّك لا تملك ضدّ العنف سوى ضميرك وإصرارك على الحريّة. لقد بقي التظاهُر في الشارع أهمّ أشكال الاحتجاج، على الرغم من التضييق على المُظاهرات ومنعها في الكثير من مدن ألمانيا، ورغم اعتقال شرطة برلين لأحد أولادي وكَسْر يدِه وحرمانه لساعات طويلة من حقّه في الذهاب إلى المستشفى للعلاج، فقط لأنّه خرج إلى الشارع صارخاً "الحرّية لفلسطين". أن ينجو شابٌّ من الاعتقال في مظاهراته ضدّ نظام دمشق ويهرب إلى الحرّية في برلين، ثمّ يُعتقل في هذي الأخيرة ويهدَّد بالفصل من وظيفته إذا لم يتخلَّ عن الشال الفلسطينيّ الذي يُزيِّن كتفيه، فتلكَ تمظهُراتٌ متعدّدة لسخرية قدَر عنيف وعلامات مستقبل بشريّ متشائم وحزين. 

أرجعَنا التضامنُ مع فلسطين من ألمانيا إلى غُربتنا الأولى

بعد أربعين عاماً في مدينتك الألمانيّة التي تعشق، والتي كتبتَ فيها ولها أجملَ قصائدك، يُرجعك حبّك وتضامنك مع فلسطين إلى غربتك الأولى، يعيدك لتصبح خارج ما اعتدت عليه، فتُلغى بعض أمسياتك الأدبيّة وتُتّهم بـ"معاداة الساميّة"، أنت الساميّ المُسالم، بل ويُطلب منّك التضامن مع قتلة يحتقرون كلّ قوانين وأعراف الكون. بالتوازي لما سبق سمحت وسائل التواصل الاجتماعي بالتضامن مع فلسطين وغزّة بأشكال ومضامين الحدّ الأدنى فقط. إذ طبّقت علينا، هي الأُخرى، المنع والرَّفض والمُلاحقة والحذف في بعض ما ننشره. هكذا عُمّم الدكتاتور والقمع في النظام العالميّ وفي وسائل إعلام الدول العظمى وسياساتها، دولٌ اعتقدَ الكثير منّا إلى الآن، أنّها تمثّل ما نطمح إليه من الديمقراطيّة وحماية الإنسان وصون حقوقه. لكنّها، وحين تعلّق الأمر بفلسطين وغزّة، راحت كلّها في حلف قوّتها الوحشيّ، تُمسك العصا الغليظة نفسها ومن نفس الطرف الأكثر عنفاً في قتل الإنسان حياةً وضميراً. لكنّ فلسطين المحتلّة، رغم ذلك كلّه، عادت لتأخُذ معناها التاريخيّ الذي احتلّ قلوبنا منذ النكبة، فلم يعُد العالَم الآن، فينا وفي خارجنا، كما كان قبل حرب الإبادة الأخيرة. 
 

■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعيّ ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيونيّ في فلسطين اليوم؟

- لقد لاحَق التحالف العالميّ الباغي كلّ محاولات التضامن مع فلسطين، وحاول خنْقَ تلك المحاولات وكبْتَها على كلّ المستويات الماديّة والفكريّة والعاطفيّة، لاحَق كلّ كتابة مُبدعة تقف مع فلسطين وحاول الوصول بوسائل عُنفه إلى كلّ المضامين التي تُنادي بوقف المَقتلة والنفاذ بوسائل أمنه إلى المساهمات المرئيّة والمكتوبة والمرسومة والمُغنّاة، التي نصرت أطفال غزّة ونساءها، وحاول التضييق عليها، فراح المتضامنون مع فلسطين يستخدمون الرمز أو الإيحاء أو الشعر والأدب والمجاز في إبداعاتهم الرافضة لتلك الإبادة. فالإبداع خصم الدكتاتور وعدوّ القتل وداعم أكيد وأبديّ لإنسانيّة الإنسان. كما قلتُ سابقاً، لا ضمير في السياسة العالميّة، وكما كتبت لابني ناصحاً، قبل خروجه في تلك المظاهرة التي اعتُقل فيها: "كن حذراً، فالديمقراطية الألمانيّة تُكشّر عن أنياب حادّة جدّاً، حين يتعلّق الأمر بإسرائيل وحكومتها اليمينيّة المُتطرّفة!". رغم ذلك أقول، علينا المُثابرة في محاولات إيقاظ ضمير هذا العالَم، وضمير شعوبنا العربيّة في المقدّمة، فقد كانت ممارسات أنظمتنا العربيّة الأسوأ على الإطلاق في تفاعلها مع الأحداث، بل كانت السكّين الأكثر حدّة في أيدي مشروع القتل الصهيونيّ. لا بد من الكتابة الإبداعيّة، في الحرب والسِّلم، بشرط ألاّ تكون تلك الكتابة ردّ فعل مباشرا لا يملك من العقل سوى غضبه ومن العاطفة سوى انفجارها وكأنّنا أمام فقاعة صابون. فالكتابة لا تخدم الحقّ وحقوق الإنسان والمظلومين إلّا حين تُبرز الجوهر الإنساني وتُبدع في إيصاله. وبالتالي لا بدّ من الانتظار أحياناً من أجل استيعابٍ عميق للموقف والكتابة عنه، ذلك كي يبقى ويؤثّر طويلاً.   


■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعيّ أم مجالاً آخر، كالعمل السياسيّ أو النضاليّ أو الإنساني؟

- الكتابة فطرة وقدر، لا تستطيع الهروب منها، فهي تلحق بك، مهما حاولت مراوغتها والابتعاد عنها في دروب الحياة الأُخرى. فقد شاءت الظروف العائليّة أن أكون مهندساً في مصنع وأستاذاً في جامعة، وصرت كما أرادت تلك الظروف، لكنّي لم أستطع الابتعاد عن الأدب وترك كتابته. كانت القصيدة مرَضي، الذي لم أُشفَ منه ولا أُريد أن أُشفى منه أيضاً، ما دمتُ حيّاً. لاحقتني القصيدة حتّى في لُغة أجنبيّة تعلّمتها بدايات الثلاثين من عمري، ورحتُ أكتبُها وأبكيها في غُربة أخذت إلى اليوم أكثر من نصف ذلك العمر. لقد سُمح لي قبل سنوات كثيرة أن أكون عضواً في "اتحاد الكتّاب الألمان"، كما ساعدتني المؤسّسة الثقافيّة في ولايتي على إصدار كتابين شعريّين باللغة الألمانيّة وفي إنجاز الكثير من الترجمات الألمانيّة لكُتّاب عرب ونشرها. 

أمّا السياسة فلا علاقة مباشرة لي بها حاليّاً، إلاّ بما تعنيه في وجهها الأخلاقيّ، إنّ صحّ التعبير، أي من الناحية التي تخلو منها السياسة عادة. فأنا أميل لرجل سياسة يعتبر "السياسة عملاً شريفاً"، وإلى مفكّر يعتبر الإبداع سياسة ضروريّة في الحياة الإنسانيّة اليوميّة. أمّا الممارسة السياسيّة، التي قد تُخرّب الإنسان في الأديب وأدبه، فلا أحتاجها، لأنّها تأخذ الضمير والفطرة معها إلى ضدّيهما. يُمكن لأديب أن يحتلّ منصباً سياسيّاً، لكنّي أعتقد أنّ الكاتب خُلِق ليكتب، لا ليُصبح رئيس حزبٍ أو ليكون قائداً سياسيّاً. فنحن نتذكّر ونحبّ ونتابع ونحترم كتّاب أميركا اللاتينيّة الكبار، لكنّنا لا نعرف أسماء سياسيّيها. المُبدع وفعلُه الإبداعيّ أكبر من السياسيّ وفعله، وما يكتبه المبدعون أهمّ للإنسانيّة وثقافاتها وتطوّرها وتثمين قيم حضارتها ممّا يفعله السياسيّ، رغم أهميّته وآنيته أحياناً. فقد اضُطهدَ سياسيون وكتّاب، حين مثّلوا قيماً فكريّة إنسانيّة عالية، وكان المضطهد براغماتيّاً، كان مُجرماً أراد "قتل مستقبل" الإنسان فينا جميعاً، كما عبّر أحد الشعراء بحقّ. هذه الطريقة في الاضطهاد والقتل مارسها الصهاينة أيضاً وهم يمارسونها الآن ضدّ الإنسان والمفكّر في فلسطين والمنطقة العربيّة والعالم أحياناً، إذا ما شعروا بخطورة ذلك الفكر وصاحبه على عنصريّتهم.  


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- لا أنتظر الكثير، فقد كان العالَم ومازال هو، هذا البراغماتيّ المحارب، يتكلّم لغة القوّة والسلاح والمعركة، وبقيت تلك اللّغة، على مرّ التاريخ، اللّسان الأكثر وضوحاً في سياسات الدول والامبراطوريّات. فشهرزاد لا تحكُم العالَم، بل يحكمه قاتلُها. أنا أخاف أن يستمرّ هذا المنطق إلى أبد الآبدين، فالبشريّة لم تتعلّم، كما يبدو، من تجاربها المُؤلمة. ماذا تنتظر من ديمقراطيّات أوروبيّة تحضّ على القتل وتُسلّح القاتل بأفظع ابتكارات العقل البشريّ من طائرات وقنابل عنقوديّة. ولماذا يفعلون ذلك؟ من أجل زيادة صادراتهم من السلاح وتجريبه في ذبح وتهجير شعب أعزل. ملايين من البشر وضعوها مُحاصرة تعيش موتها، منذ زمن طويل، في غزّة بمساحتها الصغيرة، "غيتو" القرن الواحد والعشرين، "غيتو" يشبّهه بعض الكتّاب بأحياء يهود وارسو المعزولة أثناء الحرب العالميّة الثانية. لقد راح المُجرمون في حرب إبادتهم الجماعيّة على غزّة يُطلقون نَعت الغبيّة على قنابلهم وصواريخهم، رغم "ذكائهم" الهمجيّ و"ذكائها" الاصطناعي، فقط لكي يهدموا بكلّ هذا الغباء الذكيّ منازل وقرى وشوارع وبيوت آلهة ويسقطوا أقمار غزّة، لكي يقتلوا نساءها ويشرّدوا أطفالها ويقبروهم في أنقاض بيوتهم. راحوا ينعتون الفلسطينيّين بكلمات تُزيل صفة الإنسانيّة عنهم، كي يستطيعوا تحويل الإنسان والحجر هناك إلى أنقاض منسيّة، ووصلت جرائمهم ضدّ الإنسانيّة إلى قصف عُمّال الإغاثة الدوليّة في غزّة قبل أيّام قليلة.

حوّل الصهاينة غزّة بمساحتها الصغيرة إلى "غيتو" القرن

لا أريد أن يفهمني أحد، أنّي أقف إلى جانب الإسلام السياسيّ، فلا علاقة للكثير الكثير منّا ومن أهل غزّة وقتلاها بكلّ ما يحدث، وإن وقفوا ضدّ "إسرائيل"، فهم يقفون ضدّ محتلّ غاصب، مثلما فعل ثوّار "غيتو" وارسو من يهود أيّام زمان، يوم انتفضوا ضدّ النازيّة الألمانيّة. إنّ حكومة "إسرائيل" اليمينيّة المُتطرّفة تبيد اليوم شعباً بأكمله. والغريب هو، كيف يريد هذا التحالف العربيّ العالميّ على القتل والإبادة بقيادة مُتطرّفي "إسرائيل"، أن يقتل أفكاراً؟ ذلك هدف، يعرفون أنّهم لن يستطيعوا تحقيقه بالسّلاح، حتّى لو كانت تلك الأفكار إسلامويّة. فالمُحتلّ وحلفاؤه مُصرّون على احتقار الإنسان هناك، يُريدون اغتصاب كرامته ومنعه من العيش حرّاً كريماً فوق أرضه، فماذا ستكون ردّة فعله سوى الانتفاض في وجه غاصبه؟ كيف سنثقُ الآن بعالَم، يدّعي أنّ سياساته تُقودك إلى مستقبل إنسانيّ حُرّ عادل، ورأس ذلك العالَم يكذب، مثلما فعل بايدن، يوم أراد أن يرى رؤوس أطفال مقطوعة في أحلامه الصهيونيّة، يوم صدّق كذّاباً ليصبح أكذب منه؟ فما أقبح مَنْح العقول المحدودة سُلطة غير محدودة (كما يصدق هنا نيكولا تيسلا).


■ شخصيّة إبداعيّة مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 

- يوم زرتُ المعرّة في تسعينيات القرن الماضي، تراءى لي أنّي سألتقي المعرّي شخصيّاً هناك. وبحثت عيناي عن عينيه في أرض المعرّة وسمائها، فأنا "أعبدُ العمْيَ في عيون المعرّي، أرفضُ النّورَ في عيون العبيدِ"، قلت في أحد نصوصي الأدبيّة، وقصدت بالعبيد أولئك الذين قطعوا رأس تمثاله قبل بضع سنوات في معرّته، بيته وبيت أدبه وفكره العظيم. لحظة استقبلني تمثالُه النصفيّ في "متحف المعرّة"، ساعدتْ يداي عينيّ في ملامسة الحجَر وشعرتُ أنّ التمثال يراني وينتظر منّي أن أكلّمه. فشكوتُ له هزيمتي وبؤس ما وصل إليه إنسانُنا العربيّ، المُمتلئ حتّى التُّخمة بالآلهة، الخالي حتّى الصمت في عقله الجمعيّ من احتجاج العقل وثورة العِلم وانتفاضة النَّفَس الإنسانيّ. حين سألني المعرّي عن النظام العربيّ ومجتمعاته وعن مآلات الشّعر والفلسفة فيه، بكى الشعر وغارت الفلسفة في السماء بيننا. لم أكُن أتصوّر، في هذا القرن الواحد والعشرين، أن يأتي يومٌ يَسمحُ لفريق من عرب مسلمين بإعدام المعرّي ميتاً وقطع رأس الجماد انتقاماً من نور الفكر. لم أتصوّر أن أستطيع زيارته، وكأنّه عاد حيّاً في باريس، أن أرى عينيه غائرتين في بصيرة الفلسفة، وأن أُصدّق، بعد رؤية صرحه فوق سَرْج العظَمة، الذي بنته أيدٍ سوريّة فنّانة مُبدعة، أنّي سأستطيع معه الحُلم بالعودة إلى سوريّة حرّة، كي لا يُصبح فوق محبسيه، مثلي ومثل كلّ السوريّين، رهينَ غُربتين.  


■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- أنا أفكّر بكُم وأُصلّي لكُم، وسوف أعلّم أحفادي في الغُربة، كيف يُحبّون فلسطين. منذ أربعين عاماً أعيش في ألمانيا، هذا البلد العظيم الذي أعشقه وأحترم شعبه وثقافته وفلسفته وأدبه وتاريخه وصناعته، فأنا أحاول أن أنتمي إليه وأكون من مواطنيه. لذلك حاولت أن أخاطب أُسرتي الثانية وثقافتي الثانية في بلدي الثاني: "إنّ أسلحتكم تقتل الأطفال في غزّة". فكتبتُ نصّاً باللغة الألمانيّة نشرته فوق صفحتي على فيسبوك. تقول الترجمة العربيّة للنصّ:

خبز

بالقنابل 
والخبز
تقصفونَ غزّة.
ألا تعرفونَ عبواتٍ أكثر دقّة 
لإطعام الأطفال؟
"شكراً ألمانيا"،
يصرخُ قمرٌ 
بين الأنقاض!


■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- كم أعرف أنّنا مهزومون أيّها العرب، وأدرك، كم نحن مغلوبون على أمرنا! وكيف؟ لكنّنا نستطيع إظهار أضعف إيماننا إلى العلن: أن نخرُج إلى الشارع ضدّ جريمة الإبادة التي حلّت بأهلنا. فوقوفنا ضدّ هذه الجريمة ضروريّ ولا يعني انتماءً إلى حزب ضدّ آخر أو طائفة ضدّ أُخرى. متى كان الوقوف ضدّ الدمار وقتل الإنسان يعرف الطوائف والأحزاب ويُفاضل بين الانتماءات؟ خروجنا للاحتجاج يعني ثقتنا بأنفسنا أفراداً وجماعات، يعني الضغط على القوى المُؤثّرة لإنهاء المَقتلة، ويعني أن نُحاول مَنْع أنظمتنا المُتواطئة المهزومة الاستمرار في تواطئها وإبادة الشعب الفلسطيني.  


■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم؟ أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- أنا لا أقول، أنا أصمت أمام دارين حزناً واحتراماً. فهُم، دارين وأطفال فلسطين، من يقول لنا وللعالَم أجمع: ماذا علينا أن نفعل وماذا على العالَم أن يفعل؟ وقد قالوا قولاً دماً وصبراً نبيّاً على مخرز الجريمة في العيون. هم يرسمون الطريق، وعلينا نحن أن نرى وضوحه.



بطاقة

شاعرٌ ومترجم وأستاذ جامعيّ سوريّ من مواليد طرطوس عام 1955، ويُقيم في ألمانيا. يكتب باللّغتين: العربيّة والألمانيّة، وهو عضو في "اتّحاد الكتّاب الألمان"، و"رابطة الكُتّاب السوريّين". له في الشعر: "كيف سأُنفق هذا الجوع؟" (1984)، و"الحمدُ للربّ، لم يلد وخلّف لي حبيبي" (2000)، وبالألمانية "نجوم ليل سكران" (2010)، و"احتراق الريحانة" (2019). من ترجماته عن الألمانية: "أرجوحة النفس" (2009) لـ هيرتا موللر، و"الملك ينحني ليقتُل" (2011)، للكاتبة نفسها، و"برلين تقع في الشرق" (2021)، لـ نيليا فيريميه، كما ترجم إلى الألمانية مجموعة "مرايا الغياب" (2013)، للشاعر السوري فرج بيرقدار، بالإضافة إلى العديد من الترجمات والبحوث المنشورة في جرائد ومجلّات عربيّة وأوروبيّة. حاصل على "جائزة الشّعر في الجامعات السوريّة" عام 1978، و"جائزة معهد غوته للترجمة الاحترافيّة - معرض لايبزغ للكتاب" عام 2012.
 

مع غزة
التحديثات الحية

المساهمون