الحدائق

الحدائق

20 أكتوبر 2020
(دينو فلامُند)
+ الخط -

ثمّة في مكانٍ ما نهرٌ لم تعد مياهه صالحة للريّ
لوحٌ خشبيّ مكسور على الجسر الذي أعبره باستمرار
ورائحةُ عشاءٍ تنبعث في ساعة متأخّرة من المنزل المنفرد في العراء

نباحُ كلبٍ يكاد يبتلعه صدى قطارٍ مغادر
دوّاماتُ الدخانِ الهشّة المنبعثة من المداخن المهشّمة

بضعة أشجارٍ يجتمع الموتى في ظلالها
الصرير الغامض للأبواب المغلقة دائماً

ثمّة كائنات عبرَتني
لتبقى معلّقة في الأعلى 

غيوم بلا نهاية ينزلق على مظلّاتها
نور النوم في سهر المطر على طول الصحارى

حيث يسكنني منذ الآن كل هذا
دون أن يلمسني أبداً...

سرّ الينبوع - السرّة المفتوحة
أسفل بطن التلّة

زمني الذي لي
في غاية الشراسة 

من المستحيل ترويض العالم 
الذي يُولَد من أجلي
طالما أنَّ دهشة إيجاده تظل نزولَ
بذرة زيزفونٍ محلقة
لتضرب جذورها
في بخار فمي

أخشى على أنفاسي
حالما أقف أمام جدار سخريتي
أجهش باكياً في الجهة الأُخرى

راشحاً بلذّة الاختفاء
التي أخفيتها عن الجميع 
حتى عن النوم
الحارس لرهبتي الأكثر غموضاً
فيما يحتضنني بين ذراعيه

هكذا إذن...

كانت الريح تصفق باب الحديقة فيما لم تكن
سوى رغبة رهيبة مفاجئة تضع القدم الأُولى
على حافّة الغموض

كانت أشجار التفّاح المعمّرة تتبادل القبل في ديمومة السراب
في سبات الحفيف الذي يتوّج أوراقه
رفقة الضوء الغريق في العسل
عند المساء

في التموّج الخفيّ يواري العشب
عتمته الخضراء عندما يستثير
صهيل حصان بعيد
رنين الكؤوس في غرف المنزل الباردة

كان السكون هباءً
بالكاد تثيره مراوحة زنبور في بعض الأحيان
بين النافذة والكمثرى الناضجة المهملة على الطاولة

دهشة الطيران كانت تمتطي أشجار الدردار الفضية
وأعلى يمسح حومان الصقور المسترخية المتأهّبة للانقضاض
البراري وقطعان الأجراس

في فناء الزمن يغدو الاسترفاع
معجزة سرية متتالية يكرّرها النهر 
الذي يتمرأى فيه الجبل نائماً

ما وراء المرئي أطلق قوافله المهيبة
ألوانه خلف الغيوم
تتراءى كما لو أنها كثافة الله

باتجاه خط تلاشي الجبال
تتسلّق
تلك الشجرة المضطلعة
بدحر الصقيع

هو ذا نيسان المشيمات الممزّقة!

البراعم الدامية
تتعلّم الدرس الجديد للهشاشة
تحت أعين السماء

كل شيء يتمحور
في الخرس الهش
للألوان
تحت الغيوم المفترسة

يا جراءة الأخضر
الذي يسخِّر الأنساغ الحزينة
لمصلحته الخاصة!

بين جذور الشجرة
تصارع
قبضة هذه الأرض المتقشفة

مثلما الوحش
بين مخالب هاربي

كان الهواء شبه بارد شبه معتم شبه شتاءٍ
بينما كنّا نتراءى شبه أمواتٍ بجوار حيواتنا

كانت جذوع شجرة التنوب المكشوفة شبه ميتة في الساحة
بالكاد كنا شبه أنفسنا تحت سقوف منازلنا

كانت الفاقة سلاسلنا
فيما كنا نتلاصق
شبه رزم مركومة

شبه حصيدٍ وفي بعض الأحيان
لم يكن يسعفنا رؤية وجوهنا
في ضباب الأيام العصيبة

لعنة السماء تقريباً
قدرنا

الكراهية
المحتضَنة بقوة إلى الصدور
... عادتنا 

لا أعرف إن كنتُ أسأل أم أجيب
ولا إن كنت أبتعد في اقترابي من هذا العذاب
لست أدري.

ليتني أستمع إلى حكمة السماوات!

ليست لدي تفسيرات أو استعدادت أو ثورات
للانقلاب على ثورتي

ولا الزمن يسعفني كي أركض لأعلى المنحدر
الذي لم يعد منه أحد
لأسباب غامضة
خسرت كل ما لم أملك مطلقاً
اللكمات القوية التي تنهال على جدرانٍ
شبه متقزّزة...

لا شيء ركامُ لا شيء شبهُ ركام لا شيء
إلا أنني ألقي
بقطعة حطب أخرى
على نار شبه
محتضرة...

شجيرات القِنّب في المروج الهادئة التي تكسو ترانسيلفانيا
الضوء كان يرتجف على أوراقها الليفية

أيام الجحيم الأولى
كان الناس يهربون من بيوتهم
تاركين محاريثهم الصدئة
كانت الأثلام الفارغة ترتقي للسماء
الكراهية زرعت هناك بذورها

عصابةُ رجالٍ يرتدون الجلود
بأسلحة تتدلّى على خصورهم
اقتحموا في الخريف قريتنا

قيل إنّ الذئاب الحمراء كانت تنهب حتى البيض من تحت الدجاج.
بكتِ النساء في نوافذهن صمت الربّ
أنفاس الحياة كانت متقطّعة
كان مخاط الأطفال يتدلّى حتى الأرض! 

وعندما كان جدي يرفع رأسه المطرق أحياناً
ويلعن ببذاءة ستالين
كان الناس يتّهمونه بالجنون
حوله تكبر هالة الفراغ
كلّما جاء إلى الحانة الصغيرة لتناول كأسه
في عيد الموتى

أود أن أكتب له قصيدة
لكن من الصعب جداً
شَعْرَنَة هذه الأيام
والقصيدة ضمّادة صغيرة
لا تلتفّ على القلب كفاية.


* Dinu Flamand شاعر روماني من مواليد 1947

** ترجمة: ميشرافي عبد الودود. والمقاطع مختارة من قصيدة طويلة

 

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون