"الانتقال المحجوز" في تونس: عشر سنوات مع سؤال "الثورة"

"الانتقال المحجوز" في تونس: عشر سنوات مع سؤال "الثورة"

10 اغسطس 2021
أمام البرلمان التونسي بعد يوم من تجميده، 26 يوليو 2021 (Getty)
+ الخط -

كأنّما هو نبوءة بما يجري في تونس، في هذه الأيام، أو رؤيا لما تشهده ساحتُها السياسيّة من تقلباتٍ وتحوّلات متسارعة. إذ يجترح كتابُ "تونس: الانتقال المَحجوز" قراءةً في العوامل السياسيّة والاقتصاديّة التي حالت دون التحقيق الأمثل للتداول الديمقراطي للسُّلَط، وهو ما خلقَ ارتدادات وعوائقَ، يشي بعضُها بحال العَودة القهقرى إلى الاستبداد بالرأي وتغييب مؤسسات الدولة واستمرار هيمنة الصوت الواحد تفرّدًا بالسلطة.

أشرف على هذا الكتاب الجماعي أربعة أساتذة من الجامعة التونسية: حمادي الرديسي، ومصطفى الحداد، وأسماء نويرة وحافظ شقير، وقد صَدر مؤخراً عن كلٍّ من "دار الديوان للنشر" و"المرصد التونسي للانتقال الديمقراطيّ"، وهي مؤسسة بحثيّة تديرها جمعيّة غير ربحيّة، تُعنى بأبحاث مفكرين وجامعيّين همُّهم الرئيس الإسهام الفعليّ في تحقيق الانتقال الديمقراطي والمواءمة بين صرامة المعارف والمنهجيات وتحوّلات الشارع.

وُضع هذا الكتاب بمناسبة مرور عَشر سنواتٍ على اندلاع "الثورة" التونسيّة (2011). ويقترح توصيفاً بَعديّاً شاملاً لهذا المنعطف الجوهري الذي هزَّ تونسَ والعالم العربي، من أجل تقديم معالجة لما تَحقّق بعد عقدٍ من الزمن. والسؤال المركزي فيه: هل حَصل الانتقال أصلاً وهل تمّ المرور من لحظة إسقاط النظام إلى طور تعزيز المسار الديمقراطيّ؟ إذ في العنوان فرضيّة مفادها أنَّ الانتقالَ كان محجوزًا، ولذلك قد يكون من الأدق الحديث عن تراجع فعلي عن المبادئ التي من أجلها قامت الثورة. 

صادفت خطوة قيس سعيّد صدورَ الكتاب، فبدا مثل نبوءة

كانت نقطة الانطلاق، في هذا المؤَلّف، التمييز بين مَفهومَيْ "الثّورة" و"الانتقال"، باعتبارهما ينتميان كلاهما إلى حقل التغيّرات الاجتماعيّة، وعقبه تساؤلٌ عن شرعيّة الخوض في هذين المفهومَين بِالنظر إلى قِصر المدّة الزمنيّة. فَعشر سنواتٍ ليست كافية، في حساب عُمر الثورة، لتقييم منجزاتِها وعَراقيلها، ولكنها، في المقابل، تَفي وزيادة بإمكان سَبر أغوار هذا الانتقال وتفهم جذوره ومآلاته، مع ملاحظة أنّ الجمهور التونسي وحتى مُلاحظي الخَارج، ظلّوا يَخلطون بين لحظتيْ "الثورة" و"الانتقال"، يُحاسبونَ قصورَ الأولى على ضوء تغيّرات لم تتحققْ بشكل مُرضٍ خلالَ الثانية وطموحاتٍ لم تُنجَز إبّانَها. 

وهكذا، فالسّؤال الذي يُحرّك هذا العمل الجماعيّ هو: ما الذي جعل الانتقال الديمقراطيّ المأمولَ، والذي من أجله مات مَن مات، يُمنعَ ويُحال بينه وبين الاستمرار والتحقق والتعمّق في سائر مناحي الحياة اليوميّة؟ كانت الإجابة عبر خمسة محاور: أوّلها مظاهر الأزمة السياسية التي تشهدها النخبة والقطائع التي عَرفتها بين بقايا النظام البائد والوجوه الجديدة، وبين العلمانيّين والإسلاميّين. ويتّصل المحور الثاني بدراسة الصّلات المتوترة بين جهاز الدولة والإسلام الرسميّ ثم الإسلام السياسي. ويتعلق ثالث المحاور بالعمل القانوني والسياسي بدءًا من المصادقة على دستور 2014. وأما الرابع فَخُصّص لدراسة البعد الاقتصادي والأخير للملامح والتعبيرات الاجتماعيّة.

وقد توزّعت هذه المحاور وحُرّرت ضمنَ عشرين مقالاً، كتبها أساتذة وباحثون تونسيون، وبعضهم سبق أن شغلَ مناصبَ سياسيّة عليا في البلد، وكلهم ممن خَبِر أوضاعَ تونس وعايَن تغيّراتها طيلة العقود الأخيرة، بل وربما ساهم بذاته في صياغة بعضها وتوجيه مَساراتها.

يرفع الباحثون الخلط بين مفهومي "الثورة" و"الانتقال"

ففي القسم الأول تناول المساهمون مظاهر التأزّم السياسي التي طاولت الوضعَ طيلة العَقد الماضي، بحثاً عن جذورها وتفاقم اضطراباتها، بعد أن ضاعت مصداقيّة النّخب وتاه دعاة العلمانية في متاهات الإسقاط، أو الإفراط في الشعبوية وضياع التوازن لدى أجهزة الإعلام وألسنته.

وأما الفصل الثاني فخُصّص لدراسات العلاقات بين الإسلام والدولة وتناول فيه المشاركون التحولات التي ميّزت "حزب النهضة"، مع تضاءل هياكل الدولة ووضع الإسلام الرسمي، الممثَّل في مؤسسة الإفتاء، في وضع حرجٍ بين التبعيّة والصمود. وأما الفصل الموالي فتركز على وصف تَهافت الهندسة المؤسساتيّة، حيث ظهرت هشاشة كلّ من السلط التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة، وحتى المجالس الجهويّة، وعلى تفاقم مظاهر ضَعف إشراف الدولة.

وتناول الفصل الرابع الانهيار غير المسبوق للوضع الاقتصاديّ، أكان ذلك في القطاع الخاصّ أم العامّ. وتطرّق الفصل الأخير إلى تحوّلات المجتمع ووضع المرأة ومكتسباتها وقد صارتْ على المحكّ، فضلاً عن مكوّنات المنظومة القيمية لشباب اليوم وما باتوا يَصبون إليه. ويُختم الكتاب بحصيلة تعدّد اللحظات العشر في عمر الثورة التونسيّة.

أراد الباحثون من هذا الكتاب أن يكون استعادةً نقديّة لمسار هذه الانعطافة، عبر تسليط مفاهيم شبكة العلوم الإنسانيّة والتحليل السياسيّ من أجل رسم حصيلة متكاملة عن مختلف مراحلها وجذورها البعيدة ومكوناتها الخفية والظاهرة. والكتاب بهذا المعنى نظر وتحقيق، بُنيا على مسافة زمانية مقدارها عقد من الزمن، ولكن أيضًا على تشابك مع الأحداث وتتبع دقيق لمطالِعها ومآلاتها وهو بذلك يَجمع بين الملاحظة والتحليل. ولذلك أورد الباحثون عددًا من الإحصاءات الموثّقة والجداول التوضيحية والتواريخ والوجوه التمثيلية وغيرها من أدوات التوصيف والبرهنة لتقديم نظرة عن وضعية تونس خلال العقد المنصرم.

وعند تأمّل هذه التحليلات، يتّضح أنّ ما عُدّ، في الخطاب العام، "ثورةً" ليس سوى وهم من الأوهام، غذّى أجيالاً بأسرها، وكاد يرتقي بتونس، في تلك الأنظار، إلى مصافّ دول "الاستثناء" والفَرادة. غير أنَّ تفاقم الإشكالات الاقتصاديّة وانحسار "الازدهار"، فضلاً عن هيمنة العُنف، بأشكاله المادّية واللفظيّة وتأرجح المنظومة الإعلاميّة بين الانتماء إلى النظام البائد والتبنّي الفعليّ لقيم التحديث، جعل من نشوة النصر وأدبيات الفخار تَذوي أمام عواصف الإفقار ورياح التفاوت الاجتماعيّ وقد هَيمنت المصالح الفئويّة وتتالت الفضائح، من كل نوعٍ.

الصورة
الانتقال المحجوز

اهتمّ هؤلاء الباحثون بوضع اليَد على مظانّ الضّعف، ربما من أجل تلافيها وهذا من اختصاص السّلطات السياسيّة والمجتمع المدني، وبالبحث المعمق في جذور الظواهر تارةً بالعود إلى التاريخ الحديث والمعاصر وتارةً بربطه بالتأثيرات الخارجيّة التي لا ينكر أحدٌ يَدَها في توجيه العَديد من أحداثه.

ويظل السؤال الذي حكم كل مقالات الكتاب هو مدى تحقيق "الثورة" أو "الانتقال الديمقراطي" - كما يفضل الرديسي تسميتها - لأهدافها، ومعرفة هل أدّت إلى دَمقرطة حقيقيّة صلبة متجذرة أم إنها قادت إلى مسار جديد. ولعلّ هذا الذي يَحصل منذ أيام في تونس يدل بوضوحٍ أنّ دمقرطة المجتمع التونسي ودولته ما تزال في الخطوات الأولى، وربما لهذا السبب تواضع الباحثون على تسميته بـ"الانتقال المحجوز"، لأنّ عراقيل موضوعيّة تحول دون تحقيق المسار الثوري لأهدافه دفعةً واحدة، كما أن تاريخ المجتمع التونسي وخصوصياته التي تشكلت عبر القرنَين الماضيَيْن لا بد أنها هي التي رسمت ملامح هذا النظام الجديد الذي سينحدر من رَحم متغيرات وأحداث يبدو أنّ عشرة سنوات كاملة لم تكن كافية لإنضاجها. آية ذلك ما يجري في هذه الأيام من تدخل فوقيّ لرأس الدولة، تدخّل لا بد أن يُقرأ على ضوء هذا الحجز البنيوي.  


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون