هل تراني أموت؟... مذكرة كاتب مريض!

هل تراني أموت؟... مذكرة كاتب مريض!

27 نوفمبر 2019
+ الخط -
تتخدَّر أطرافي، وأحسّ بشيء كالموت يهدّها عن الحركة!.. هل هذه هي المحطة التي يقف فيها القطار لتغيير الرحلة؛ أنتهت رحلة الحياة إيذاناً بانطلاق الحافلة بي نحو الله؟! هل أنا في الاحتضار أم هو مرضٌ عطّلَ عليّ دماغي وشلَّ أطرافي؟!

أجدني أرى شيئاً بعيداً.. بعيداً، ما كنت أُبصره؛ أتُراه ما يُمدّ للمرء وهو بين يدَي الموت؟ أم بصيرة كشفت لي أبعد من مرمَى النظر، فرأيت أحلامي تثمر ومخاوفي التي هدّتني تتطاير؟!.. أحاول النهوض، ولكنْ دون جدوى؛ فهل تدلّت رِجلٌ لي في الطرف الآخر من تلك الحياة، فلا ترتفع الأخرى لتقف وحدها؟!

جرّبتُ الأكل.. فلا طعم ولا رائحة، وأعرفني إن أكلتُ غزوتُ غزوة جاهلية؛ أهذه من أمارات الموت أم من شدة التعب؟! أريد أن أصرخ: فأنا ما زلتُ حيّاً..! إنني أتنفّس؛ ولو بصعوبة! فلماذا يختنق الصوت في جوفي فيخرج أنيناً؟! أجد حلقي قد صدأ، ولم يفكّ صدأَه ماءٌ باردٌ أهواه كثيراً.. أهو من محظورات السفر في الرحلة التالية؛ فلا أستطيع الشراب كما الطعام؟! ما دمتُ أصرخ فلماذا لا يجيبني أحد؛ فهل صدّقوا جميعاً أنني ركبتُ رحلتي الثانية؟ إنني هنا في المحطة أنتظركم.


لماذا يبكي ولدي عند رأسي؟! هل يشعر ببراءته أنه صار يتيماً؟ أم لأنني عجزت فلم أستطع توصيله إلى المدرسة؟! ما أقسى طعمةَ اليُتم! بل لا شيء أقسى من كلمة "يتيم"! لا تحزن يا ولدي، فأنا لم أمت! لا؛ أنا ما زلتُ حيّاً.. فها أنذا أكتب!

وكسر انفرادي ووحدتي صوتٌ خشنٌ.. يا إلهي! لعله صوتُ ملك الموت جاء يدفعني في مقطورة الآخرة، أم هو صوتٌ مهدودٌ ينبعث من نفسي قد هدّته الأحزان والهموم، فجاء خشناً مخيفاً؟! إنه يحدّثني.. نعم؛ فلا أحد سوانا في هذه الفلاة عند المحطة:
- أهي كتابةٌ أم تسطيرُ أحرفٍ للوداع؟!
ما يدريني لعلّي أكتب شاهدة قبري!

- هل تظنّ نفسك عظيماً ليكون لك قبر وشاهدة؟!
لا.. لستُ عظيماً جداً؛ لكنّني إنسان، ومن حقّي أن يكون لي قبر أتهيأ فيه لرحلتي التالية، ومِن مزيد الفضل أن أفوز بعد حياتي بطولها وضنكها بشاهدةِ قبرٍ باسمي!

هل تستكثر عليّ هذا؟!
- وهل تظنّها أرضك حتى تجد لك فيها قبراً؟!
لا.. أعرف أنني مختوم على جبيني: "لاجئ"!

- ولا داعي لشاهدة القبر؛ فمَن تحسِب أن سيزورك يا مسكين؟! وإنك سترى في الاختبار الأول عند الصلاة عليك عددهم؛ ثم اقسم العدد على ألف!! .. ألف فقط؟!

- ها ها ها.. إنك لا تُحتضَر يا صديقي، بل ضربتْك حُمَّى فأنت تَهْذِي؛ وهل يُعقل أن يصلّي على غريبٍ فقيرٍ حقيرٍ مثلك ألفُ رجل؟!
لكنّ مَن أعرفهم أكثر مِن ذلك؛ وإن كنتُ -حقاً- لا أراهم يودّعونني قبل مغادرتي!

- كنتُ أخبرتك؛ لكنك تمنّي نفسك كثيراً، وتتناسى أنك تعبت في رحلتك الأولى؛ فلم يفتح أحدٌ عليك بابَ مقصورتك ليسأل عنك، وكنتُ أراكم تضحكون فتهتزّ لفرحتكم العمارةُ بطوابقها! ولولا أنني خلعتُ عليك بابك لَكنتَ لبثتَ تحدّث نفسك كالمجنون؛ ولا أحدَ يُجيبك!

لعلهم جميعاً انشغلوا وخرجوا نحوي منذ وقت، فيدركون جنازتي للصلاة عليّ، وإن لم يدركوني في مرضي أو احتضاري؛ فأنا أقبل منهم أعذارهم!

أين أنت يا صديقي؟ لا أراك .. لا أجد منك صوتاً!
- قد مللتُك؛ فلا أنتَ حيّ فتُرجى، ولا أنت ميْتٌ فتُرثَى! وما زلتَ تحكي وتكتب!
إنني أحاول الصراخ؛ لعلهم لا يدفنونني، فأنا ما زلتُ حيّاً؛ ألا تراني أكتب؟!

- تكتب يا مسكين..! إنك تكتب أحلاماً؛ والأحلام لا وزنَ لها في سوق الحياة..!
لا.. قد زرعتُ أحلاماً عديدةً زماناً، ثم رعيتُها حتى أثمرتْ؛ أمَا قرأت كتابي عن تعليم الأطفال، فكثيرون سعدوا به ورأوه كلمةً في بناء الإنسان!

- ها ها ها.. وتُنكر كم عانيتَ حتى طبعتَه! هل تصدّق يا مسكين أن تعليم أطفالنا يهمّ أحداً سوانا؟!
نعم؛ لسنا وحدَنا في قضيتنا؛ لكنّ علينا أن نكتب، ولا نُلقي أقلامنا حتى تنقطع أنفسنا.. أمَا قرأت "رحلة من الموت إلى الموت"!

- بلى قرأتُها فيك يا مسكين. يكفيك ما سبق لك من الأحلام والأماني؛ فلا تدري أي الرحلتَين تنقلك.. فاسمع نصيحتي: "إما أن تنتفض من بين حروفك كطائر الفينيق، وإما أن تكفّ فلا تحكي ولا تكتب!".
FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.