المعلمون السوريون في تركيا... ورقةٌ في مَهبّ الريح

المعلمون السوريون في تركيا... ورقةٌ في مَهبّ الريح

04 اغسطس 2021
+ الخط -

عصفت بالسوريين خلال عشر سنوات نوائبُ شتى ومصائبُ ندرَ أن تأتي مفردةً، حتى ظنّوا أنْ لا مفرد للمصائب والنكبات، ولا استثناء فيها إلا للشاذّ؛ و"الشاذّ" لا حكمَ له ولا يُقاس عليه!

ولعل شريحة "المعلّمين" من أعظم السوريين ظلماً في الثورة داخل سورية وخارجها؛ وإن كان نظام البعث المجرم قد ضحك عليهم لعقود بأنهم "البناة الحقيقيون"، فاعتقل منهم وعذّب وقتل، ومَن نجا تُرك للأحداث تعذّبه، وربما تقتله؛ وليس ذلك من ضروب المبالغة.

ولا يغرنّك سِترُ الكرامة الذي يستر كثيراً من الأخفياء منهم، ولا حُسنُ حال بضعة معلمين في الداخل ودول اللجوء طفت بهم منظمات أو تشكيلات فانتفشوا، ولا تميّز ثلّة قُدّر لهم المثابرة فارتقَوا وانتشَوا؛ فالأكثرية الساحقة من المعلمين مسحوقة في الداخل والخارج.

وموضوع المعلمين السوريين ذو شجون؛ والذهاب في التمثيل هنا وهناك تضيق معه صفحات مقالات وأوراق بحثية، إن لم نقل دراسات وكتب مؤلَّفة؛ لذا أوجز هنا ببعض القول في شأن المعلمين السوريين في تركيا.

فقد عصفت بهم أخبار الفصل وانتهاء التعاقد مع اليونيسف منذ نهاية العام الدراسي، وتقاذفتْهم موجات من الخوف والرجاء؛ لاسيما وهذا الكابوس يتراءى لهم من العام الماضي، وتحقق في فصل عدد من المعلمين السوريين دون إبداء أسباب واضحة نهاية العام الماضي. وبعد صمتٍ "غير مستحسن" من الجهات التركية الحكومية جاء الرد من قريب: وزارة التربية التركية تبلغ الائتلاف أن عقود المعلمين السوريين انتهت؛ ومع أنها ليست بأعظم مما حلّ بالسوريين حتى اليوم من نكبات وخسائر إلا أنها للمعلمين اللاجئين في تركيا من أعظمها؛ فهي تعني إيقاف المكافآت الشهرية عن أكثر من 12 ألف عائلة، كثير منها تعتمدها عصب حياتها، وتسندها بعمل إضافي أو مساعدة من باب آخر؛ فإن سقطت عمود المنتصف فما تُغني أوتاد صغيرة من حوله؟!

علماً أن مكافأة اليونيسيف "2020 ليرة تركية" باتت قيمتها منذ أشهر أقل من 235 دولار، وهي مقدَّمة للمعلمين السوريين بوصفهم مشاركين في مشروع دعم اندماج الطلاب السوريين في المدارس التركية.

أتعس المعلمين مَن ابتُلي بإدارةٍ تسلبه أسمى ما يحمله وهو رسالة التعليم بالكلية، لتكلّفه بأعمالٍ خدميةٍ لا تقف عند نقل كرسي أو مقعد من صف إلى صف، ولا عند متابعة تنظيف الصفوف

والحق أن المعلمين في تركيا أحسن حالاً من أقرانهم في الداخل أو في دول اللجوء الأخرى على العموم؛ فقد أمضَوا سنوات في المدارس المؤقتة يعلّمون ولهم مَن يناديهم "أستاذ" و"آنسة"، مما حُرم منه كثيرون غيرهم؛ ولا ينكر أحد أن مدارس سورية عديدة أُقيمت في تركيا ابتداءً بجهود معلمين انطلقوا بجهود شخصية قبل دخول اليونيسيف وغيرها على خط الدعم. وبعد سنوات من طفرة الاستثناء ولأسباب كثيرة جاء قرار دمج الطلاب السوريين في المدارس التركية بالتدريج، وتم تحويل نحو 12400 معلم ومعلمة ممن كانوا في مراكز التعليم المؤقتة إلى المدارس التركية؛ فتغيّرت عليهم فصول السنة كما تغيرت فصول الدراسة.

لم تكن حال المعلمين السوريين في المدارس التركية خلال السنوات الأخيرة بعد قرار الاندماج واحدة؛ فمنهم مَن أُكرم فأُدخل الصف يدرّس كالمعلّم التركي، وإن كان بمكافأة اليونيسيف فقط لا غير؛ لا يشفع له أن يعمل كامل ساعات الأسبوع، ولا أن يحصل على الجنسية التركية ويُحرم من المساعدات كونه صار تركيّاً بالهوية، ولا أنه أنجز معادلة شهادته الجامعية (Sertifika denklemi)، فضلاً عن عدم النظر في سنوات خبرته السابقة ولا في شهاداته العليا؛ وهذا هو المكرَّم.

ومنهم مَن أهملته إدارة المدرسة واكتفت منه بالمرور شهرياً للتوقيع على ورقة "مكافأة اليونيسيف" التي يطيب لكثير من المديرين أن يرموننا بتسميتها "الراتب"؛ فأحسنوا الظنّ واغتنموا إبعادهم عن المدرسة في عمل يجبر كسر شهرهم ويحسّن سيئ حالهم.

وصنف ثالث أُكرموا بتسمية "مشرف" أو "مساعد تربوي"، ولا تتجاوز وظيفتهم متابعة الطلاب السوريين في ساحات المدارس، والتدخل السريع عند نشوب خلاف أو حدوث مشكلة؛ وإن كان بعض المديرين الأتراك الشباب لا يُعفون معلماً في سنّ التقاعد من الدوام وملاحقة الطلاب في الباحات، وأشهد اعتذار غير مدير عن تشدّدهم في ذلك بطبع السوريين السيئ في "طقّ البراغي" لبعضنا البعض!

وأتعس المعلمين مَن ابتُلي بإدارةٍ تسلبه أسمى ما يحمله وهو رسالة التعليم بالكلية، لتكلّفه بأعمالٍ خدميةٍ لا تقف عند نقل كرسي أو مقعد من صف إلى صف، ولا عند متابعة تنظيف الصفوف، فقد انتكست في بعض الحالات لتكليف "معلّمين" بتنزيل بضاعة سيارة!!

أياً يكن فليس المقام مقام سلبيّ أو بكاء على مكافأة لا يبني عليها حياته إلا مضطر أو عاجز، ولا يُلام الأتراك على إنهاء اليونيسيف تلك العقود التي كان كل المعلمين موقنين بانتهائها يوماً؛ لكنهم يدفعون شبح الإنهاء تمسّكاً بالأمل في زمن الإحباط والخسائر.

لكنّ المأمول هو أن يكون إنهاء التعاقد مع اليونيسيف فرصة للحكومة التركية لإعادة النظر في أوضاع المعلمين السوريين في تركيا عموماً بشكل جدّي؛ وفيما أنتجته المراكز البحثية السورية رصيد غير يسير، وبعضه أُنجز بالتشارك بين مراكز سورية وأخرى تركية في مهددات الانسجام الاجتماعي بين السوريين والمجتمع التركي. ولا ينقص الحكومة التركية الوعي عن إدراك أهمية آلاف الكفاءات ضمن المعلمين السوريين الذين أُنهيت مكافآتهم الشهرية القليلة، ولكنّ كل الأرقام أكبر من الصفر كما يُقال؛ فهي مكافآت كانت تستر آلاف العوائل، ولا يُقبل اختصار الحلّ بتحويل الموضوع إلى "الهلال الأحمر التركي" كما رشح للإعلام دون أية تفاصيل؛ فهل ستكون مساعدات من الهلال الأحمر كباقي المساعدات التي تُوزَّع لبقية السوريين في تركيا؟ ولاشك أن هذا الحلّ من أفضل الخيارات السيئة التي يمكن الخروج بها؛ فكل حلّ لموضوع المعلمين السوريين في تركيا دون اعتبار لائق وتقدير كافٍ لشهاداتهم وكفاءاتهم فهو من جملة الحلول المؤقتة "المسكّنات" التي قد تهدِّئ الألم ولكنها لا تشفي ولا تعالج المرض.

وقد تتهرب اليونيسيف بتضاؤل الدعم لإيقاف مكافآتها للمعلمين السوريين في تركيا؛ مع أن كثيرين من الأبرياء يتساءلون حول ما يبرّر للجهات الدولية أن تُنشئ "أونروا" لمساعدة الفلسطينيين بُعيد النكبة الفلسطينية مباشرة، لتتميز حتى اليوم مدارس أونروا في مختلف الدول، ثم تعجز عن إيجاد آلية لدعم تعليم السوريين بعد عشر سنوات؛ ولعل هذا يرجع مرة أخرى إلى توافُق المُخرِجين في الحالة الفلسطينية وتناطُحهم حتى الآن في الحالة السورية، ليدفع ثمنَ ذلك السوريون عموماً معلمين وطلاباً ولاجئين!

FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.