"أنا في السجن"… وجه آخر للجيش الوطنيّ السوريّ

"أنا في السجن"… وجه آخر للجيش الوطنيّ السوريّ

05 أكتوبر 2021
+ الخط -

لعل من ارتدادات انكسار حاجز الخوف عند السوريين، أنه لم يبقَ لشخص أو كيان أو مكان رهبةٌ أو هيبةٌ تحول دونه، واستحضرت ذلك عند حديث لي مع نائب مدير إدارة التوجيه المعنوي في الجيش الوطني السوري. فقد جرى بنا الحديث نحو تعزيز الجانب التعليمي والثقافي وحتى المهني في صفوف منتسبي الجيش الوطني، فاقتحم عليّ تحصيني بأننا - المحسوبين على الخارج - نُكثر نثر الأفكار وتقريع العاملين في الداخل، ثم نهرب!

ولأنني شعرت ببعض الحق في كلامه، فقد استسلمت له، فانتقل إلى ما يشبه التحدّي؛ إذ عرض عليّ أن ننتقل معاً لتطبيق مشروع تعليمي ثقافي داخل الجيش الوطني، مع تقديم كل التسهيلات المطلوبة لذلك.

والحق أن كلامه أخذني رغم مشوّشات كثيرة عن الفصائل والمقاتلين والمؤسسات الثورية عامة تعكّر ما يبثّه نحوي، فشرحت له فكرة مشروع المركز الإصلاحي الاجتماعي، فكانت الصدمة: "ما رأيك بأن يكون مشروعك في السجون المركزية؟".

وحيث إنني قبلت التحدّي وأنا في جهلٍ عن مؤسسات تُحسب علينا ونُحسب عليها لموافقتنا خط الثورة منذ البدايات، ولأنني استحسنت فكرة التدخل الفكري والثقافي والمهني في السجون لتكون مراكز إصلاح لا مراكز اعتقال وتدمير، لم أشعر إلا وأنا معه عند باب قيادة إدارة الشرطة العسكرية في الجيش الوطني.

أعترف بأنني بعيد عن الأجواء العسكرية، وإن كنت بحكم الواقع في ريفنا قبل التهجير قريباً من الفصائل، إلا أنني وجدت في دخولنا القيادة ما فاجأني من حُسن التنظيم والتراتبية العسكرية والانضباط، وفي جلوسنا مع العميد قائد الشرطة العسكرية وجدت رجلاً عسكرياً بهندامه وانتظام كلامه، ثورياً بما لقيَه بعد انشقاقه من الاعتقال والتعذيب في سجن صيدنايا، وطنياً في سعة أفقه وهمّه. مع ترحيبٍ بنا ومفاجأةٍ لم يستطع إخفاءها من زيارة أكاديميين يتكلمون بالإصلاح والتعليم معه، فما أسعده بذلك وما أعظيم ترحيبه!

فوعدَنا بكامل التسهيلات لزيارة السجون المركزية ومعاينة ما فيها، والتباحث مع مديري السجون في ما ينفع الموقوفين والقائمين عليها.

ليس للسجون موارد مالية إلا ما ترسله قيادة الشرطة العسكرية التي يُصرف لها القليل من قيادة الجيش الوطني

ولشدة ما جذبني الموضوع للتأكد مما رأيت وسمعت، رتبت ليكون ذلك في اليوم التالي، وفي نفسي أن أنظر في الصورة قبل تجميلها للوقوف على الواقع كما هو.

وعند باب السجن الأول قرّعني عقلي: "كيف يدخل عاقل السجن بنفسه في واقعٍ هو في أحسن أوصافه فوضويّ يضجّ بالتنازع وتضارب السلطات والمصالح"؛ لكنّ "السيف سبقَ العَذَل" وفُتحت بوابة السجن، ولم يخفف الاستقبال العسكري للعميد ومرافقيه من الرهبة؛ لكنني الآن "في السجن"!

زرت السجن المركزي الأول والسجن المركزي الثاني، والتقيت في كلا السجنَين المديرين وتجولت فيهما، ولي عن ذلك وقفات من أهمها:

- التفريق بين السجون المركزية التي تجمع الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية أكثرها "التعامل مع النظام وداعش وقسد والقتل" - وهي التي زرناها - عن سجون الأمنيات التابعة للفصائل.

- كلا السجنَين، الأول والثاني، كان سجناً من قبل، وما جرى فيه إنما هو توسعة وتبييض سواد مرحلة سابقة، ولا سيما المركزي الثاني "المعروف بالسجن الأسود"؛ فهو السجن الذي كانت قوات "قسد" تعتقل فيه عناصر الجيش الحر بشكل خاص، وفي منفردات هي أشبه بالقبور يسمّونها "حفرة الموت"، وهي حفرة بعمق نحو 3 أمتار وبعرض وطول متر بمتر، يرمون فيها السجين من فوق ولها غطاء حديدي فيه فتحة صغيرة لرمي الطعام للسجين مع فتحة في أسفل الحفرة هي حمّام المنفردة!!

- بدت السجون مرتبة ترتيباً جيداً، والمطبخ الرئيسي الذي يزوّد السجون واسع ونظيف وحديث وفيه "شيف" ومساعد مدنيان، والطعام فيه واحد، للموقوفين والعسكريين في السجن، وقد فوجئت بنظافة الأدوات فيه وحُسن ترتيبه.

- استثمار الحرفيين في السجون ضمن مشاغل خياطة وصالونات حلاقة للسجناء والعسكريين.

- اجتهد مدير السجن الثاني بتجميع كرّاسة عن معاملة السجناء من عدة مصادر وتدارسها مع عناصرها كما أخبرنا.

- لم نقف في كلا السجنين على زاوية مخفية أو محجوبة عن الوصول؛ حتى شرّاقات المهاجع فتحوها لنا لمخاطبة الموقوفين ومعاينتها من الداخل، واعتذرت عن ذلك لصعوبة الموقف.

- حُسن الاستقبال من القائمين على السجون والتجاوب مع الاستفسارات الكثيرة منا، والترحيب بما طُرح من أفكار إصلاحية وتأهيلية للسجون، مع إبداء الاستعداد لتقديم كل التسهيلات اللازمة لإنجاز تلك المشاريع رغم ضعف الميزانيات.

- التنظيم العسكري والانضباط الجيد للعناصر داخل قيادة الشرطة العسكرية والسجون المركزية، مما لم أجده شخصياً ضمن الفصائل؛ فالرتب العسكرية حقيقية ولها احترامها وترتيبها، وانضباط العناصر جيد، رغم التدني الشديد في المكافآت الشهرية للعناصر وتجاوزها الشهر في أكثر الأحيان.

- ليس للسجون موارد مالية إلا ما ترسله قيادة الشرطة العسكرية التي يُصرف لها القليل من قيادة الجيش الوطني؛ لكنّ ما يساعدهم في تسيير أمور السجون، كما ظهر لنا، التوافق بين القائمين وحُسن التنظيم وإدارة الموارد.

- عدم تسجيل أية إصابات بكورونا داخل السجون، مع أن أعداد الموقوفين في كلا السجنَين تقارب الألف، مع نحو 100 عنصر خدمة وحرس؛ وهذا مؤشر مهم على حُسن الضبط والإدارة وتقدير الأفضل بخصوص فتح باب الزيارات الخارجية وإغلاقه حسب الوضع العام لانتشار الوباء.

- لا تعرف قيادة الشرطة العسكرية والسجون المركزية زيارات جادّة من الجهات المدنية والحقوقية والإعلامية، سواء من المحسوبة على الثورة أو تلك التي تدّعي الحياد؛ وإن كانت شكواهم من تجاهل إعلام الثورة لما يقدّمونه، شديدة ومؤلمة.

لم يكن ما سبق في سياق "التطبيل" لأية جهة؛ فالنفوس بحقّ ملّت وتعبت، ولا للثناء على وجود سجون فيها معتقلون لهم أهل وأقارب، ولكنه القضاء والمحكومون؛ دون النظر في "المشروعية" لأنها تتصل بمشروعية مؤسسات الثورة عموماً، وبحياتنا "الاستثنائية" التي نعيشها مُكرَهين.

وللاختصار في التعليق أقول: علينا - أبناء الثورة السورية - ابتداءً أن نسمع "من" القائمين على العمل مباشرة لا "عنهم"، وأن نطرق أبواب المؤسسات العسكرية والمدنية إذا أردنا معرفتها على الوجه الصحيح؛ فالجسور بيننا متهدّمة أو توشك على التهدُّم، وذلك من أعظم البلاء الذي نعيش.

وإذ أشكر الإخوة في التوجيه المعنوي والشرطة العسكرية على التعاون، إلا أنني أؤكد أن الجلسات والزيارات لم تكن شخصية ولتبادل الأحاديث الخاصة؛ بل كانت في إطار البحث عن طرق التعاون على الإصلاح وتسديد العمل، لا تجميله بطريقة استعراضية فارغة.

نبرع كثيراً - نحن السوريين - في النقد والهجوم، ولكننا مقصّرون كثيراً في مواجهة بعضنا، ومقصّرون أكثر في الثناء على بعض عند الإحسان والإجادة، ومسيرة طويلة لي من الكتابة الناقدة والهجومية أحياناً لا تُعفي من التوقف لإبداء الإعجاب والشكر حينما يجب ذلك، و"الإنصاف عزيز".

إذا أردنا بحق مواجهة أمنيّات الفصائل وتجاوزاتها المرفوضة من كل ثائر شريف، فلا بد من تثبيت نموذج جيد يُبنى عليه، حتى لا يبقى نموذج سجون الأسد المجرم والغلاة المتطرفين هو الذي يقيسون سجونهم عليها، فيجدونها أقل سوءاً؛ ولا ينجح مشروع يعمل فيه طرف واحد دون تعاون الجميع على إنجاحه.

وللناس الحق في التشكيك بصحة الصورة أعلاه؛ ولكنّ التثبّت يكون بالاقتراب والمعاينة وزيادة المتابعة والنظر بإنصاف. فعلى كل مَن يهمّه الإصلاح - من إعلاميين وسياسيين ومثقفين وتربويين - أن ينزل بنفسه ليرى ويسمع، وإن اضطر إلى أن يدخل السجون برسالته؛ فلعل أخطاءً كثيرة في الساحة بين العسكريين والمدنيين نشترك بحمل وزرها بسبب التقصير في المناصحة والمواجهة.

FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.