الوفاء للثورة.. لا يكفي فيه أن نرقص أو نلعن الظلام

الوفاء للثورة... لا يكفي فيه أن نرقص أو نلعن الظلام!

04 ابريل 2022
+ الخط -

وتطاول الزمن بنا وبثورتنا، حتى كاد يعصف بها من روزنامة المناسبات السنوية، لولا انتشار تصاميم وعبارات وفعاليات واحتفالات عن ذكرى الثورة، تعكس روحا ضاغطة بالذكرى رغم كل الآلام.

مما يؤلم أن تقتصر ذكرى الثورة على احتفالات "أداء واجب وطني" تتبارز فيه الجهات المدنية والعسكرية في تنفيذ الاحتفالية الأكبر ورفع العلم الأطول وجمع العدد الأكبر من "الشخصيات"؛ فتلك لا تذكرنا إلا برواسب من الدول الاستبدادية ومن نظام البعث والأسد.

ويبقى الأكثر إيلاما أن ترتبط الثورة عند ذكرها في المحافل الاجتماعية الخاصة قبل العامة بالتهامس والتناجي في الجراح والمآسي، على ما قيل: (بدكن حرية!)، (هذه ثورة الكرامة تبعكم!)، (قال ثورة قال!)..

للمرء أن يتفاءل أو يتشاءم في ما يخصه ويعنيه في نفسه وحده، لكننا في حالتنا السورية لم يعد التفاؤل خيارا لنا أخذه أو رفضه، إنما بات ضرورة لا خيارا يقابله لمن شاء. فعلى من يحب بلده ويعمل من أجل سورية أن يطرح التشاؤم وإن تكالبت دواعيه، وأن يأخذ بالتفاؤل وإن عزت أسبابه وشروطه؛ فهذا الذي يترك لثورتنا مجالا لكي تتنفس وتحيا في ظروفنا الاستثنائية.

وليس هذا من حديث السياسة والتطمين بشعارات وكلمات فارغة لا حياة لها من باعة الكلام والشعارات؛ لأنني لا أخاطب هنا طيف المعارضة وقياداتها في حكومة -أيا تكن- أو ائتلاف أو فصائل؛ إنما أعني الناس، أعني الشارع الثائر، أعني الحاضنة الشعبية صاحبة الثورة، أعني أولياء الدم والأمر الحقيقيين فيها، وأداة التغيير الحقيقي لا الشعاراتي!

إذ إننا لسنا في حالة مستقرة يعفى فيها الناس من مسؤولية البناء والإدارة لوجود حكومة تحمل ثم تحاسب إن قصرت؛ بل نحن في حالة طوارئ، حتى أسماء حكوماتنا من جنس الطوارئ "إنقاذ" و"مؤقتة"؛ دون النظر في ما تنقذ الأولى وكم مؤقت الكراسي في الأخرى!

إن بقينا في التعليم وبكينا دما من ارتفاع نسبة التسرب المدرسي لأسباب كثيرة؛ فإننا لا نغفل عن أطفال كثيرين يتعلمون في الخيام ويتفوقون على أبناء البيوت وحتى القصور

إننا بعد الذكرى الحادية عشرة لثورة الكرامة بحاجة ماسة لاستعادة قرار ثورتنا، ولبث الروح فيها بعد أن كادت تموت؛ لذا يجب علينا التفاؤل حتى نعمل، وإلا استسلمنا للعجز والطعن، ولم نحسن إلا لعن الظلام؛ مع أننا بأمس الحاجة لإيقاد الشموع والأنوار. وإن أردنا النور الحقيقي فهو بالعلم؛ وما أقساه من ملف وما أشد التقصير والإجرام في التعليم!

وإذا كنا نتألم أن يتناوب قادة ومتصدرون على "زيارة الداخل" لإجراء لقاءات لا تخرج عن العسكريين والمتنفذين والوجهاء حيث المنصات المناسبة لصور الذكرى! دون أن يكون منها ولو لقاء واحد مع قادة البناء والتعليم من المعلمين الذين طال احتجاجهم وتعقد حراكهم السلمي دون مخرج!

فإننا نسعد وتقر منا العيون وتبتهج القلوب حينما نرى رجلا في السبعين من عمره يتقدم بعد تطاول السنين وكثرة الأبناء والأحفاد وتراكم المشاغل والمشاكل فينال شهادة البكالوريا ثم يجلس في مقعد جامعي يدرس ويتابع ويمتحن، وفي الجامعة ذاتها يجلس أمامه رجل ذو شيبة يبدو أكثر منه شبابا لكنه في الستين، يجلس بجانب طالب في عمر أصغر أبنائه، وفي قسم اللغة العربية بجوار هذين الطالبين سيدة بين الخمسين والستين لكنها تتجاوز بنات العشرين في همتها بطلب العلم والمثابرة على الحضور والمشاركة؛ رغم أنها جدة ومعلمة.

معلمة .. وتدرس في جامعة؟

نعم؛ بل في جامعة المعالي وحدها -وطلابها 693 طالبا وطالبة- أكثر من 130 معلما ومعلمة، سجلوا في الجامعة بمختلف فروعها وتقدموا للامتحانات؛ رغم أنهم يحاربون -بكل ما تعنيه الكلمة- ليعيشوا من راتب لا تصلح تسميته راتبا؛ لكن عندهم حرصا على التعلم وتطوير الذات وتأمين فرص أفضل للعيش الكريم والقيام برسالة التعليم. وهذا في جامعة واحدة ناشئة لم تكمل بعد عامها الأول؛ فلا شك أن في غيرها شواهد كثيرة بعد على مثل ذلك.

وإن بقينا في التعليم وبكينا دما من ارتفاع نسبة التسرب المدرسي لأسباب كثيرة؛ فإننا لا نغفل عن أطفال كثيرين يتعلمون في الخيام ويتفوقون على أبناء البيوت وحتى القصور، وعن أطفال آخرين يمشون عدة كيلومترات يوميا إلى المدرسة لا يمنعهم حر الصيف ولا برد الشتاء من المتابعة؛ وإن دون ثياب مدرسية أو حقيبة أو حتى كتاب مدرسي وقرطاسية.

وإن صرفنا أنفسنا عما خلفته ثقافة السلل الغذائية من ركون إليها، ولم نذكر بسوء المنظمات التي جاءت تعالج المشكلة فخلفت آثارا قد يطول زوالها دون أن تنتقل بالشكل المطلوب نحو التشغيل والإنماء، وهو ما قد يبرر جزئيا لها بإرادات المانحين مؤسسات وأفرادا. إن صرفنا أنفسنا عن ذلك طالعنا كثيرون يجاهدون من أجل اللقمة الشريفة الكريمة؛ بل منهم مصابون وذوو إعاقات يعملون وإن قعدت الهمة والكرامة بآخرين أصحاء فلم يعملوا، لكن تأمين فرص عمل وسبل عيش كريم ما زال مسارا يعتمد على المبادرات الفردية؛ ولا بد لها أن ترسخ ثقافة مجتمعية عامة، دون التطاول على الناس وآلامهم بمجرد قول "علمني الصيد ولا تعطني السمكة"!

ومع صرف المنظمات الدولية أموالا طائلة على ما يسمونه "بناء السلم المجتمعي"، فإننا نراه نحن ونتلمسه دون تمويل ولا تحفيز؛ فبعيدا عما يضرب مؤسسات المعارضة السياسية والعسكرية وحتى الإنسانية من أدواء المناطقية والعصبية والحزبية المقيتة، فكل مدينة وكل بلدة وقرية في الشمال السوري تحتضن مع عدد أهلها ضعفهم أو أضعافهم، وللمهجرين مشاريع سكنية وتجارية وخدمية تنهض بالمناطق بتشابك ملحمي للناس معا من أهل البلد وإخوانهم المهجرين؛ حتى لتمشي في الباب مثلا فلا تميز محلات البابيين عن محلات الشوام إلا بالاسم، وتسأل الطلبة في قاعة دراسية فتجد خريطة سورية ترتسم أمامك فسيفساء اجتماعية جميلة رغم تقطر الدماء والآلام من أطرافها.

وليس لنا -لا سيما والحديث في ذكرى الثورة- أن نتجاهل السؤال الصعب: أين الثورة فينا؟

ولا أعني الجيل الذي بدأ الثورة شابا فتآكل شبابه وانتهى في عشر سنوات كهلا، بل أعني جيل الأمل من الأطفال؛ ممن انتثروا في الأرض مع أهليهم أو حتى دونهم، ماذا بقي فيهم من الثورة وحديثها؟ بل ماذا عندهم عن سورية الوطن؟ فإن كانوا يذكرون التنشئة الاجتماعية مفتاحا من مفاتيح بناء الهوية فلنا أن نتساءل عن الأطفال السوريين في دول اللجوء: ما حالهم من الثورة والوطن؟ والأكثرية الغالبة منهم تتجاهل عمدا أي شيء يدل على "سوريتهم" وكأنها تهمة! فالخوف على هؤلاء كبير لأنهم ينسلخون عن سورية وهم جزء من مستقبلها، ولا يكفي أن ننظر فنرى الوطن والثورة في عيون أطفال الداخل؛ في المدارس تغص بهم فتفيض تزاحما يشوش العملية التعليمية، وفي الشوارع وورش العمل تتزاحم بهم يعملون أعمال الكبار، وفي كل صفحة من المأساة لهم سطور وسطور.

فإن كنا نريد لتلك السطور أن تغدو من نور فلنجدد العهد على الحرية والكرامة؛ ولكن بإيجابية وعمل، وليس بالتشاؤم والسلبية وبالسوداوية والتخوين، وإن تعبنا مما قد عشنا وعانينا فلننظر في عيون أطفالنا حيث الأمل الذي لن يقوى ليبدد الظلام إلا بالتعليم؛ فإنما التعليم هو السبيل للنهضة وإعادة الإعمار.

FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.